قبل الكلام : إذا لم تغامر بشيء ؛ فإنك قد غامرت بترك كل شيء !
النفس البشرية أعقد سر عرفه التاريخ ، بسببها حار الأكثرون ، ومن أجلها ضل كثيرون ، عجيب أمرها ، ومنيع سبرها ، منها ما هو شفاف كالماء ، وبعضها قاتم كالصخرة الصماء ، منها ما هو مفتاح للخير ، وكثير منها (مفاتيح) للشر ، إن عصيتها عزتك ، وإن أطعتها ذلتك ، أصلها قريب ، وفرعها عجيب ، تسقيك – إن رغبت – من كل نهر قطرة ، وتوقد لك – أيضاً إن رغبت – من كل نار جمرة ، فسبحان خالق النفس ومن سواها ، والذي ألهمها فجورها وتقواها .
من عجائب النفس : أنها تخفي الفشل بقناع من الإغراق في مدح النفس والإعجاب بها ؛ ومن عجائبها : أنّ لكل واحدة منها ميزة وخصيصة خصها الله بها ؛ تستطيع أن تبدع فيها وتتفوق شريطة أن تعمل ، ومن عجائب النفس : أنك تعتقد جازماً أنك تعرفت على صاحبها تمام المعرفة من خلال المجالسة والكلام ؛ ثم تكتشف في آن لاحق كأنك التقيت به للتو ، ومن عجائبها : أنها نحتت من الغضب نصبا تذكاريا يمثل عدم الحكمة والكياسة ، وخاطت ثوباً لسوء الظن شعاره الأنانية ودثاره التشاؤم ، بل ورسمت بقلم تضخيم الأمور رسمة تجلى فيها النقص المعرفي والقصور العقلي ، وجدلت ظفائر جدالها بلافتة كتبت عليها بخط كبير ها (أنا) ذا ، ولكن لن يكتب تاريخ النفس البشرية إلا ما فعلته بنفسها ، وكسبته بيدها ، بعيداً عن كل ما سوى ذلك من هرطقات وبهرجة ، فسبحان خالق النفس ومن سواها ، والذي ألهمها فجورها وتقواها .
من عجائب النفس : أنها جُبلت على حب الاهتمام بها ومع ذلك ، فإنها إن أرادت أن تكون مهمة ؛ فلا بد أن تكون مهتمة ! ، والنفس – أي نفس كانت – لابد لها من فترة ؛ فإن أُلهمت التقى ، كانت فترتها في ما لا تبعة عليها فيه ، وإن ألهمت الفجور كثرت وأكثرت عليها من التبعات ، ومن عجائب النفس : أنها إن لم تشكر القليل ؛ فثق أنها لن تشكر الكثير ، فالشكر معدن نفيس لا تجده في باطن كل نفس ؛ إذ أن قليل من عباد الله الشكور ، ومن عجائب النفس : أنها وقت الأزمات والنكبات تكون ولادة للأفكار والأعمال المبدعات ، في حين أنها وقت الرخاء والسكون والدعة ، تكون مترهلة مترفة ، وبكل كسل مترعة ، فسبحان خالق النفس ومن سواها ، والذي ألهمها فجورها وتقواها.
ومن عجائب النفس التي لا تنقضي : أنها من أكثر الكائنات قدرة على التكيف ، ومع ذلك هي من أقل الكائنات تكيفاً ، فهي تطالب بما لها ، وتغض طرفاً عما عليها ، ومن عجيب أمرها : أنها لا تحس بطعم الحلوى إن اعتادت أكل العسل ، فمن أخص خصائصها الملل والكسل والملل ! ، تستهين بأعظم موجود ، وتستعظم أهون مفقود ، تستعذب العذاب ، وتستكره الماء المصفى من رضاب ، فسبحان خالق النفس ومن سواها ، والذي ألهما فجورها وتقواها.
ومن عجائب النفس : أنها تطلب رضا المخلوق وهو لا مقدور ولا مطلوب ، وتستنكف عن طلب رضا الخالق وهو مقدور ومطلوب ، ومن عجيب أمرها : أنه كلما تعاظم عقلها وعلمها ؛ زاد حسادها ، وكلما تعاظم قلبها كثر أصدقاؤها ، تتعاظم الذات عندها جهلا بحقيقة ذاتها فتغمط الناس وتتكبر ، وإن تصاغرت الذات عندها علماً بحقيقة ذاتها ضاع حقها وتبعثر ، من السهل عليها أن تكون عاقلة بعد فوات الأوان ، بل ومن السهل عليها أيضاً أن تصدق (كذبة) سمعتها ألف مرة ، من أن تصدق حقيقة لم تسمعها قبل هذه المرة ! ، في بداية مشوارها الحياتي هي من يحدد عاداتها ، وفي نهايته تكون العادات هي من يحددها ، ومن عجائبها : أن من كثر عمله منها قل كلامه ، ومن قل عمله كثر كلامه ! ، فسبحان خالق النفس ومن سواها ، والذي ألهما فجورها وتقواها.
وأخيراً أقول : تأملتُ فوجدتُ أن ّضعف النفس البشرية ؛ حقيقة تفهمها الشرع ؛ فشرع لها التوبة والاستغفار ، وتقبلها العقل فسن لها المراجعة والتصحيح ، وتعايش معها الواقع فأوجد لها الخبرة والتجريب ، وأنّ من يتغافل أو يُغفل هذه الحقيقة ؛ باسم طلب المثالية تارة ، أو مقارنة بمن اصطفاهم الله بمنه وتوفيقه تارة أخرى ، فإنه سيتعب ويتعب !! ، وعلى كل من رام إصدار أحكام على الناس ؛ فعليه بدارسة النفس البشرية وأعذارها ! ليكون بصيراً بها وبصحيح من عوارها !
بعد الكلام : اجعل لنفسك هدفاً ، وعلمها أن تتمحور حوله !