خواطر من إندونيسيا
كتبه/ الدكتور محمد محمد عبده
عضو هيئة التدريس بجامعة الأزهر
الحمد لله, والصلاة والسلام, على رسول الله, وبعد,
فقد وُجهت إلي من شهر يوليو الماضي دعوة كريمة من كلية الشريعة الإسلامية بجامعة الرانيري الإسلامية الحكومية بمحافظة دار السلام بندا أتشيه بجمهورية إندونيسيا لحضور المؤتمر العالمي الذي أقامته الكلية في الفترة من 19-21 يوليو 2007م حول الشريعة الإسلامية وتحديات العولمة طرح للصورة المثالية والواقعية لتطبيق الشريعة الإسلامية في الإقليم سالف الذكر, حيث يعد تطبيق الشريعة مطلباً شعبياً ورسمياً في هذا الإقليم منذ سنوات عدة, وقعت خلالها كثير من المعارك بين أبناء إقليم أتشيه وبين الحكومة الإندونيسية من أجل تطبيق الشريعة الإسلامية في الإقليم، أو الاستقلال عن الحكومة المركزية في جاكرتا.
وقد أرسلت لي الكلية محاور المؤتمر والتي كانت تحتوي على كافة الأنشطة التي تقوم بها الدولة الحديثة, كي يتقدم المشاركون في المؤتمر بطرح صورة شرعية للعمل على تطبيقها من أبناء هذا الإقليم. وبمناقشة العلماء والأساتذة في هذه المحاور أجمعوا على أن الموضوع جد وما هو بالهزل, وليس على منوال المؤتمرات التي عقدت لتطبيق الشريعة في بلاد أخرى من بلاد المسلمين؛ ومن ثم فهو جدير بالاهتمام وأخذه مأخذ الجد.
فاستعنت بالله -تعالى- وحاولت قدر جهدي تجميع المادة العلمية لها مع البحث مع أخذ رأي العلماء في كثير من مسائله، وقد كان لهم دور كبير في التوجيه والإرشاد فجزاهم الله خيراً.
ومع ضيق الوقت وقلة الزاد والبضاعة، منَّ الله عليَّ بإتمام البحث وإعداده وكتابته قبل السفر، وتهيأت للسفر حتى جاء الموعد فتوجهت مع مرافقي الإندونيسي إلى مطار أبو ظبي ومنها إلى جاكرتا -عاصمة إندونيسيا- وقد كنا في الطريق قد قضينا ليلتنا الأولى في أبو ظبي تلك المدينة الجميلة, ولكن كل ما فيها لا يوحي بأنك في جزيرة العرب، فنادراً ما تجد أحداً يتكلم العربية من أول موظف شركة الطيران إلى العاملين في الفندق إلى سائق السيارة فتعجبت أن أكون في جزيرة العرب ولا أجد من أتكلم معه باللغة العربية.
المهم توجهنا في اليوم الثاني إلى جاكرتا في رحلة طويلة بلغت حوالي ثمان ساعات، انتهينا من الإجراءات, قابلنا هناك اثنان من إخواننا الذين كانوا يدرسون في الأزهر منذ سنوات, توجهنا إلى الفندق الذي سنبيت به ليلتنا ثم نركب طائرة في رحلة داخلية حوالي ثلاث ساعات لنصل إلى جزيرة سومطرة حيث إقليم أتشيه حيث مدينة باندا التي يقام بها المؤتمر الذي ذهبنا من أجله. أمضينا وقتاً طويلاً في شوارع العاصمة وطرقاتها زاد على أربع ساعات حتى انتهينا إلى الفندق.
خلال هذه المدة لاحظت أنها مدينة شديدة الزحام حيث يسكنها حوالي عشرين مليوناً من المسلمين وغيرهم، كما أن الناس يلهثون كذلك من أجل أرزاقهم فشعرت كأنني في القاهرة إضافة إلى العشوائيات, لكن ما لفت انتباهي بشدة أنها بلاد في غاية الخصوبة فلا تكاد ترى بقعة إلا وقد نبتت فيها الخضرةوالأشجار، حتى الجبال فكأنها مجموعة من الغابات، بل إن الخضرة لتنبت على مدارج الطائرات في مطار العاصمة وغيرها من المطارات التي نزلنا فيها. عندها شعرت أن الأوضاع في بلاد المسلمين متقاربة ومتشابهة حتى أنها تكاد تكون واحدة خاصة البلاد التي اتخذت مناهج شرقية أوغربية وبعدت بعداً كبيراً عن شريعة اللهً -تعالى-.
إذا كنت لم تعرف أن إندونيسيا دولة مسلمة أو هي أكبر دولة مسلمة على وجه الأرض ونزلتَ شوارع العاصمة جاكرتا فإنك لن تشعر بأنك في دولة إسلامية كبرى, فمظاهر التفرنج بادية على الناس هناك, ربما لا تجد صاحب لحية في الطريق, ولا تجد حجاباً يرضي، كما أنك لن تسمع الأذان إلا نادراً, المساجد الكبيرة قليلة جداً, بل إن الزوايا كذلك قليلة جداً. دخلنا مبنى تجارياً وسكنياً ضخماً, كان فيه مكتب شركة الطيران فحضر وقت الصلاة فسألنا في هذا المبنى الضخم الشاهق الارتفاع عن مسجد أو مصلى فقالوا يوجد مسجد ووصفوا لنا مكانه، فذهبت إليه مع مرافقي ومن معنا من إخواننا الإندونيسيين الذين كانوا في استقبالنا, فوجدناه لا يتسع لأكثر من أثنين يصلي أحدهما إماماً والآخر مأموماً بجواره فإذا ما فرغا من الصلاة خرجا ودخل غيرهما وهكذا.
المهم توجهنا إلى الفندق الذي قضينا فيه ليلتنا, وجدت مظاهر طيبة في هذا الفندق أراحتني كثيراً, وجدت بعض مظاهر العفة من النساء العاملات في الفندق, ثم لما قرأت التعليمات والتي وجدتها مكتوبة بعدة لغات منها العربية، وجدت أن إدارة الفندق لا تسمح بأن يقيم أحد مع أحد في غرفة واحدة إلا إذا كانت بينهما قرابة من الدرجة الأولى, لذلك قضيت ليلتي في جناح كبير في الفندق وحدي, وكذلك مرافقيّ تنفيذاً للتعليمات، وفي الصباح توجهنا إلى المطار حيث الرحلة الداخلية التي استغرقت حوالي ثلاث ساعات ونصف بالطائرة, وصلنا إلى مطار باندا أتشيه عاصمة الإقليم ومعي مرافقي الإندونيسي، وكان معنا كذلك في الرحلة الداخلية أحد الأساتذة الأفاضل وهو الدكتور عبد القادر الحميدي أحد الأساتذة في جامعة الرانيري والحاصل على دكتوراه في التفسير من جامعة الأزهر.
وما أن نزلنا من الطائرة حتى شعرت أن الوضع هنا مختلف تماماً عن جاكرتا, الناس والأرض وكل شئ, فالناس تظهر عليهم بوضوح شديد علامات الطيبة والبساطة والتدين وحب الإسلام، وتقدير العرب تقديراً شديداً واحتراماً مبالغاً فيه, حتى أنهم استقبلوني استقبالاً حافلاً وأخذوني من الطائرة مباشرة إلى قاعة كبار الضيوف, وقد كان في استقبالي رئيس جامعة الرانيري، وعميد كلية الشريعة، وعدد كبير من الأساتذة في الجامعة رجالاً ونساءً.
البيئة وهيئة الناس توحي بأن أهل هذا الإقليم فقراء وليس كما هو الشأن في جاكرتا حيث الصخب والمباني الشاهقة والسيارات الفارهة, لكن الفارق الكبير الذي يلفت انتباه الزائر لهذا الإقليم أن هؤلاء الناس يختلفون تماماً في انتسابهم للإسلام وحبهم له عن هؤلاء الذين رأيتهم في جاكرتا. وخرجنا من المطار متوجهين إلى المدينة حيث الفندق وزيارة محافظ الإقليم وغير ذلك. أول شئ رأيته لافتة كبيرة على طريق المطار المؤدي إلى المدينة تقول: "انتبه فأنت في منطقة تطبق فيها الشريعة الإسلامية".
توجهنا بعد ذلك إلى الفندق حيث نقيم فأردنا أن نصلي المغرب فقالوا يوجد مصلى في الفندق فتوجهنا إليه فإذا به مسجد كبير من الدور الأول من الفندق, مع أن هذا الفندق أنشأه الأوربيون الذين يعملون في الإقليم بعد إعصار تسونامي الشهير ويعد بمثابة نزل لهم, سررت لما رأيته في الفندق من احتشام الفتيات اللاتي يعملن في الفندق حيث لا توجد فتاة واحدة تكشف عن شعرها أو شئ من جسدها إلا وجهها وكفيها, كما أنهن يعملن في الاستقبال أو المطعم ولا يصعدن إلى الأجنحة والغرف، وإنما يصعد الشباب فقط لتلبية حاجة النزلاء، كذلك فإن الشباب الذين يعملون في الفندق وجدت فيهم ديانة فهم يصلون، ويسلمون عليك في الذهاب والإياب، ويقدرون العرب جداً ويعرفون لهم مكانتهم وهذا يظهر جلياً من سلوكياتهم.
توجهنا بعد ذلك لبيت محافظ الإقليم, استقبلنا شاب طيب تبدو على وجهه علامات الفطنة والذكاء, هذا الشاب هو الأستاذ محمد نزار نائب المحافظ خريج كلية الآداب بجامعة الرانيري قسم اللغة العربية, أجلسني بجواره, وكان هناك بعض المشاركين في المؤتمر ورئيس الجامعة وعمداء الكليات ورئيس المحكمة الشرعية العليا وغيرهم, دعانا السيد نزار إلى طعام العشاء وبالغ في إكرامنا, ثم قال كلمة رحب فيها بالضيوف ودعانا إلى بذل الجهد في مساعدة أهل أتشيه في تطبيق الشريعة الإسلامية في هذا الإقليم, وبالمناسبة فإن المحافظ ونائبه يُختاران من قبل الشعب ولا يمثلان الحكومة المركزية في العاصمة، وإنما يمثلان شعب الإقليم.
وسبب اختيار الأستاذ محمد نزار والسيد المحافظ لهذين المنصبين الكبيرين أنهما وحدهما من نجا من المقاتلين الذين قبضت عليهم الحكومة وأودعتهم السجن، فلما جاء إعصار تسونامي دمر السجن ومن فيه فلم ينج إلا محافظ الإقليم وكان شخصاً عادياً غير أنه كان من المقاتلين الذين يقاتلون السلطات المركزية على تطبيق الشريعة, أما السيد محمد نزار فقد سيق مكبلاً بالأغلال والقيود إلى سجن جاكرتا -العاصمة- فكان ذلك سبباً في نجاته، فاختير أحدهما محافظاً والآخر نائبا له. فسبحان من يؤتي الملك من يشاء وينزع الملك ممن يشاء ويعز من يشاء ويذل من يشاء.
انصرفنا عائدين إلى الفندق بعد وداع حار من نائب المحافظ كي نستعد لبدء أعمال مؤتمر"الشريعة الإسلامية وتحديات العولمة" حيث أن اليوم التالي الخميس الموافق 19 يوليو 2007 هو أول أيام المؤتمر والذي يعقد في قاعة الفندق الذي نقيم فيه.