يظن بعض الأزواج أن مواصلة الحلم والصبر أمام تمادي الطرف الآخر في موجات من الإساءة والعناد.. هو نوع من الخنوع والضعف، وأن هذه الأحوال (من الإساءة والعناد) لا يصلح لها إلا المواجهة القوية الصارمة؛ حتى لا يتجرأ الآخر ويسترسل في غيّه؛ وللصبر حدود!!
والحق الذي لا شك فيه، من لدن الوحي المطهر، أن الرفق خير كله، و"ما كان الرفق في شيء إلا زانه ولا نزع من شيء إلا شانه"(صحيح الجامع)، و"إذا أراد الله بأهل بيت خيراً أدخل عليهم الرفق" (صحيح الجامع) "وما أعطي أحد عطاءً خيراً وأوسع من الصبر" (متفق عليه عن أبي سعيد)، قال الله عز وجل: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ} (الزمر:10).
وإذا كان النشوز - الذي هو الإعراض وترفّع أحد الزوجين عن الآخر - يرشَد فيه إلى المواعظ والترغيب والترهيب والصلح؛ فما بالنا بما هو أدنى من النشوز مما لا يخلو منه بيت من مشاحنات عابرة، أو سحابة غضب عارضة؟!
وما بال أقوام يتخطون هذه الوسائل الكريمة المتعددة؛ ويتجاوزونها إلى العنف والبطش، متعلّلين - زعموا - بقوله تعالى: {وَاضْرِبُوهُنَّ} الذي نص المفسرون على كونه ضرباً يسيراً غير مبرح - إذا احتيج إليه! -، وقد سبقته وسائل كثيرة لمن صدق في تحري الحق ولم يتبع هواه؟!
قال الشيخ السعدي - رحمه الله - في قوله تعالى: {وَاللاَّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلاَ تَبْغُواْ عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا}:
"{وَاللاَّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ} أي ارتفاعهن عن طاعة أزواجهن بأن تعصيه بالقول أو الفعل فإنه يؤدبها بالأسهل فالأسهل (فَعِظُوهُنَّ) أي ببيان حكم الله في طاعة الزوج ومعصيته، والترغيب في الطاعة والترهيب من المعصية. فإن انتهت فذلك المطلوب وإلا فيهجرها الزوج في المضجع بأن لا يضاجعها ولا يجامعها بمقدار ما يحصل به المقصود، وإلا ضربها ضرباً غير مبرح. فإن حصل المقصود بواحد من هذه الأمور وأطعنكم (فَلاَ تَبْغُواْ عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً) أي: فقد حصل لكم ما تحبون فاتركوا معاتبتها على الأمور الماضية والتنقيب عن العيوب التي يضر ذكرها ويحدث بسببها الشر".
هذا في نشوز الزوجة. وقال - رحمه الله - في نشوز الزوج الرجل، عند قوله تعالى: {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِن بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلاَ جُنَاْحَ عَلَيْهِمَا أَن يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الأَنفُسُ الشُّحَّ وَإِن تُحْسِنُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ اللّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا}:
"أي: إذا خافت المرأة نشوز زوجها، أي ترفعه عنها وعدم رغبته فيها وإعراضه عنها؛ فالأحسن في هذه الحالة أن يصلحا بينهما صلحاً، بأن تسمح المرأة عن بعض حقوقها اللازمة لزوجها على وجه تبقى مع زوجها، إما أن ترضى بأقل من الواجب لها من النفقة أو الكسوة أو المسكن أو القسم - إلى أن قال رحمه الله - فإذا اتفقا على هذه الحالة فلا جناح ولا بأس عليهما فيها لا عليها ولا على الزوج، فيجوز حينئذ لزوجها البقاء معها على هذه الحال وهي خير من الفرقة.." إلى آخر كلامه رحمه الله.
ومن أراد أن يستزيد من الحق والخير فدونه سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم، وأحواله مع أزواجه الطاهرات أمهات المؤمنين، وقد وقع منهن - رضوان الله عليهن - بعض ما يقع من النساء من الغضب والغيرة والمطالبة بمزيد من النفقة، مما قصته كتب السيرة النبوية.
إن هذه التوجيهات العظيمة في القرآن والسنة وتطبيقها الحي في السيرة.. دليل على حفظ الإسلام للبيوت من الانهيار، والمطالبة بالتصبّر والرفق مهما اشتدت المحن، وأن بقاء البيت مع احتمال بعض ما يشق على النفوس.. أفضل من الفرقة وهدم العلاقة الزوجية الكريمة.
وإنها لسبل مظلمة مهلكة أو صراط مستقيم.. فإما أهواء مدمرة تعصف بالبيوت العامرة عند أدنى هبّة ريح ينفخ فيها الشيطان، أو وحي مطهر يعصم أتباعه من الزلل والفساد بإذن العليم الخبير!