جلست عقب صلاة الظهر على مقهى في الحيّ المجاور لمنزلنا .. وأنا كما قالوا قديماً، خاوي الوفاض ، بادي الإنفاض .. فلمّـا كنت أجد متّسعاً من الوقت أقضيه ، وأنا ـ كشابّ مثل بقيّة الشباب من سنّي ـ ليس لديّ عمل أقوم به .. لكأنّ العمل ـ نفسه ـ يغلق في وجهي الباب كلّما سعيت إليه .. هكذا كنتُ لا أجيد شيئاً ولا أمتلك سوى فراغَيْن .. فراغ الوقت والجيب على حدّ سواء .. هنالك عرضتُ على صديقٍ لي يُدعى ( .... الحنجوري ) .. وأنا أجد في نفسي همّة للكتابة عالية ، ونفساً متوقّدة .. أن أكتب عن خبرته في الحياة .. وما حيلته حتّى عجم عود الأيّـام، فأصبح من كبار( الصيّع ) في المنطقة ..
بالطبع لم أسق له الحديث هكذا ولا صغت القول على نحوٍ مثل هذا ، فما كان ليعي كلمة واحدة قطعاً .. إنّما عرضت عليه جهلي ، وأنا من طائفة الدّارسين بالكلّيات الذين لا يُرجى منهم نفع ، قد استغنتْ عنهم البلد حيث اكتّظت بأمثالهم ، فصارت العملة النادرة هي الجهل بعينه وأربابه ..
رجوته أن يسمح لي في أن أنهل من فيض جهله .. لكن على الجانب الآخر، فكم من متعلّمٍ جاهل !! .. وهذا ليس موضوعنا ، إنّما قصدتُ جهل صديقي العزيز ..
ذلك الذي أودّ أن أكتب له .. سمينٌ يفكّر بيديه قبل عقله .. شعاره في الحياة هو ( البقاء للأقوى ) .. وأسمى أهدافه تتلخّص في النقاط الآتية :
1- سدّ جوع البطن
2ـ إرواء العطش ( من ماء ، ومشروبات غازيّة .. فإن لم يكن هذا أو ذاك فأخرى كحولّية )
3- إشباع الشهوات ( حسّيّة ومعنويّة ) .. على أنّه قد لا يدرك هذا المفهوم .. إنّما يسعى لتحقيقه على غير هدى ..
4- شرب ( الشيشة ، والدخان ـ السجائر ـ ، والبانجو .... إلخ )
عرضتُ على صديقي الأمر .. فلم يبد سروراً .. إلاّ أنّه في الوقت ذاته لم يضق بكلامي ذرعاً .. فجأة .. انتفض قائماً حتّى خلته يضربني .. لكنّه تجاهلني وراح يذرع الأرض حولي جيئةً وذهاباً
ولا يحير جواباً ..
ثمّ عاد إلى كرسيه ، وبعد أن أخذ نفساً عميقاً من ( الشيشة ) قال : كح كح كح .. بأولّك إيه يا ( شافعي ) أفندي .. الموضوع دوّت كبير وعاوز دماغ عالية .. أصل مش سهل برضه على الواحد يعصر مخّه عشان يدّيلك عصير تجاربه في الحياة كده ..
بس عشان خاطر ( الصداكة ) اللي بيني وبينك من أيّام المدرسة الابتدائيّة ـ الله لا عاد يرجعها ـ أنا هأولّك ـ يقضم قطعة كبيرة من ( ساندوتش ) الفول أمامه .. أعععععع ـ يتجشّـأ ـ .. ثم يتابع قائلاً : بصّ يا سيدي أنا هبدأ معاك الطريء ـ الطريق ـ من أوّله ..
بسّ مش هوصّيك .. تكتب الموضوع بأسلوب أدبي حلو كده .. وحبّة حبشتكانات كده ، كأنّك
بتكتب (مُعلّكة ).. فاهمني ؟! ..
قلت : ويعني إيه معلّكة ، يا سيّـد ( حنجوري ) ؟!
قال : ما تفوء معايا شويّة يا سيدنا الأفندي .. انت نسيت إنّ أنا اسمي ( ... ) ، مش سيّد ،
وكمان .. أقولّك يا سيدي ، المعلّكة دي نوع من أنواع الشعر .. كانوا يكتبوه على ورأ ـ ورق ـ
أو جلد ، ويعملوا منّه حجاب على سدر العيال الزغيّرة .. أنت شكلك هتتعبني معاك .. أنا مش عايز اعتراضات وأسئلة كتير ، ما عنديش خلق للمناهدة .. آآآه .. فاهمني والاّ لأ ؟؟!
.. اعتذرت له عمّا بدر منّي من سوء أدب ، ثمّ عاهدته على حسن الاستماع ..
وتواعدنا أن نتقابل في اليوم التالي ليملي عليّ خواطره فأنقل كلامه ..
إنّما بلغتنا الفصحى ، وفكره العامّي ..