( الدّرس الأوّل والأخير )
• الصّياعة أخلاق :
تقابلتُ وصديقي ، فشرع في الحديث بدون مقدّمات بعد أن ( عمّر الطاسة ) كما يقول ( بواحد شيشة تفّاح ) .. وقد كان المقهى يعجّ بأشجار التفّاح ـ أعني شيشاتها ـ وكلّ منها تزمجر مطلقة عن بواخ يتناثر في كلّ الأنحاء .. بواخ يقف أمامه أنفي المسكين في خنوع واستسلام ، وكأنّه ماضٍ ليجدعه ، أو وكأنّه من جرائه على وشك الدّخول في أزمة احتقان تديم له حالة من ( القرف ) النفسي ، وأخرى من العضوي لا حدّ لأيّ منهما ..
المهمّ .. أخذ كلّ منّا موضعه على أحد الكراسي المتهالكة .. هو ( يكركر ) بالشيشة وأنا لا يصدر منّي ـ وقد التحمتْ شفتاي في منظر يوحي بالانهماك والجدّية ـ سوى همهمات ، تعني أنّي ما زلت أتنفّس في هذا المخيّم العفن بجوّه المطبق على الأنفاس يبغي كتمانها وقمعها ..
بينما كان صرير قلمي هو الأعلى صوتاً .. وكان لا يشغلني عن الاستماع لصديقي الصّايع الكبير سوى سؤال ظلّ يلحّ على ذهني وتلوح أمام عينيّ المحتقنتين بمائهما علامته الاستفهاميّة .. هل نحن في مقهي أم أنّنا ضللنا الطريق إلى أحد أفران الخبز البلدي المدعّم ـ أدام الله نعمته ـ
وجلسنا على فوّهة مدخنته ؟؟ لكنّ برغم كلّ هذا ، فإنّ صوت صديقي المرعب نفض عن كاهلي كلّ ما سوى التركيز في حديثه وإمعان الإنصات له .. وقد كان كفيلاً بهذا .. فقال صديقي فيما معناه :
ـ الصيّاعة بوجهٍ عامٍ ، كلمة فيها شمولٌ وعموم .. فلمّا كانت كذلك ، سوّلت لكثيرٍ من النّاس أنفسهم بأحقّيتهم في نصيبٍ منها .. ذكرنا أن لها شمولاً وعموماً ، ولا يجب أن نغفل ذلك بأيّ شكل من الأشكال .. لكنّها حقيقةً كالعملة .. ذات وجهين ، أو كالسيف ذو صفحة صدئة تكاد تكون مهترئة إذا ما منحتها منك نظرة ، وأخرى لامعة صافية يروقك منظرها الحادّ .. أمّا إذا نظرنا إلى الموضوع من ناحية أخرى ، وتفحّصناه بعين القلب ، لأسفر الصّبح لكلّ ذي عيْنين .. أقولّها وأكرّرها ، ولا أملّ من ذلك .. أن ليس ( بصايعٍ ) كلّ من هزّ كتفيه ، أو امتشق ( مطواةً )
أو تمنطق بسكّين .. الأمر أكبر من ذلك .. والمثل السّائر فيه يقول ( الصّياعة مش هزّ كتاف ، الصّياعة أدب .. ) .. أو كما يقول آخرون ( الصّياعة أخلاق ) ، فعلاً .. الصّياعة أدب ، الصّياعة تهذيبٌ وإصلاح .. قد يبدو الأمر في بادئه على نحو من الغرابة ، أو أنّنا لم نعهد بذلك من قبل .. بل كنّا على النقيض تماماً لا نرى من الخير شيئاً قد يأتي من وراء الصياعة .. إنّما هي الحقيقة دوماً هكذا ، لا تظهر للنّاس إلاّ من جانبٍ واحدٍ يرونه ، ويخفى عليهم الآخر ، فلا يعرفون عنه شيئاً .. ونفصّل ذلك في كلماتٍ بسيطة .. فنقول أنّ من سعى للصّياعة وفنّها ، وجب عليه التمعّن
في دراسة مبادئها وحيثيّاتها .. أخلاقيّات الصياعة ـ على سبيل المثال ـ تُحتّم على الصّايع احترام زميل مهنته في النطاق الذي يعيش فيه ، وهكذا .. لا يتعرّض له بسوءٍ أو لأهله ، بل يجب عليه العفو عن أيّ شخص يظهر له فيما بعد أنّه يمتّ إليه ـ صديقه ـ بصلة من قريبٍ أو بعيد إمّا وقع في قبضته ، أو أمسك به غيره وكان له من الحظوة عنده ما يدفع بها عن المكروب كربه .. أمّا عن الآخرين من صيّع المناطق الأخرى ، فلا بأس من المناوشات معهم .. الحرب سجال كما يقولون .. وهؤلاء قد حملنا على عواتقنا مهمّة استئصال شأفتهم .. ولم تعلّمنا الصّياعة إذاً ، إن لم نتصدّ لهم تحت أيّ ظرفٍ كان ؟! يتبقّى لنا آل الطوائف الأخرى .. ومنهم المثقّفون ، وهؤلاء في أمانٍ طالما أظهروا الولاء للصّايع والموالاة ، ولم يبد أحدهم يوماً تعجرفه وتعاليه ، لئلاّ تعود عليه من جراء ذلك من العواقب وخيمها .. أمّا عن الجهلاء من دون الصيّع ، فلطالما كانوا في معزلٍ عن مضايقتك كصايع ، يدفعون لك ( الإتاوة ) مالاً إمّا كنت من صيع الفتوّات ، أو احتراماً ومهابةً إذا ما كنت من هواة الصّياعة .. فهم في أمانٍ كذلك .. وهكذا ، فشعبنا هذا شعب ( يخاف ولا يختشيش ) .. وحريّ بك عزيزي الصّايع المبتديء أن تتعامل معهم من هذا المنطق ليس غيره ..