بتـــــاريخ : 7/15/2008 12:41:14 PM
الفــــــــئة
  • الأســـــــــــرة
  • التعليقات المشاهدات التقييمات
    0 1586 0


    جنازة في حي شعبي

    الناقل : heba | العمر :43 | المصدر : www.almoustshar.com

    كلمات مفتاحية  :
    رجل الشباب

    جنازة في حي شعبي 

    هل رأيت جنازة في حي شعبي؟

    إن لم تكن رأيتها فاسمح لي أن أصفها لك، فقد حضرت الكثير منها، وهي مشهد فريد من نوعه، له طعم ومذاق خاص عند تأمله، فالموت يختلف طعمه في دنيانا باختلاف طبقة المتوفى، وتختلف مظاهره تبعًا لمستوى الثقافة والتدين في مجتمع المتوفى.

    لماذا؟

    عزيزي الشاب، ليست هذه وصلة حديث الغرض منها بث الرعب في نفسك أو البحث عن مظاهر الضيق والنكد نحييها في حياتنا، كلا بل هي رؤية موضوعية وتأملية لموقف لا أظن أن أحدًا لم يتعرض له ولو من بعيد أو من قريب بموت أحد معارفه أو أقاربه أو بوفاة صديق عزيز أو رفيق حبيب، إنها وقفة معك أسعى من خلالها إلى أن أدفعك وأدفع نفسي من باب أولى إلى إطالة الفكر وزيادة التأمل في مشهد متكرر لنخرج معًا بما فيه من إشارات قبل أن نكون بداخله، وحينها لن تكون لهذه الإشارات والعلامات فائدة تذكر.

    نحن والموت:

    إن موقف الموت موقف لا يحسن أغلبنا التعامل معه بالطريقة السليمة؛ ربما لبعد ذكر الموت عنا أو لأننا لا نرى الموت إلا فجأة عند فقد أحد ما، وحتى لو رأيناه قريبًا فنحن نبذل قصارى جهدنا في الابتعاد عنه؛ ربما لما يجلبه لنا من خوف أو حزن أو تيه؛ وربما لأسباب أخرى تختلف من واحد لآخر.

    إلا أن ما أعرفه جيدًا وأنا على يقين منه أننا دومًا في هذا الموقف ما تخذلنا قوانا ونلتزم الصمت ونترقب بأعيننا الكثير مما يفعله المحيطون بالجنازة وتعتمل الأسئلة والاستفسارات في أذهاننا وندور حولنا نبحث عمن يجيب إلا إن كنا بالطبع ممن يدعون العلم بالأمور كلها.

    ونرى أمامنا من المواقف ما نثبت أمامه متأملين ومستغربين وأحيانًا مندهشين بل وقد نصبح متعجبين من عجائب الأقدار وآيات رب العالمين والأسرار، كيف أن هذا الذي أتى موعده قد كانت له قبل وفاته مباشرة أماني ورغبات ومواقف ومشاهد وغيرها من أسباب التعجب، مثل أواخر الكلمات التي قالها والعبارات التي نطق بها، لذا فلا بد لنا من وقفة مع هذا المشهد نتأمل ونفهم ونستوعب ونشارك.

    وكان اختيار الجنازة في الحي الشعبي باعتباره يصلح كمشهد يستحق التأمل؛ لأن تلك الأحياء ما زالت تحترم هيبة الموت، وأنت لا بد ستلمح في سلوك أهل تلك الأحياء وتعاملهم مع الجنائز مدى فهمهم لمعنى الحياة والموت واحترامهم للأخير.

    سير وهيبة:

    إن أشد ما يلفت الانتباه في هذا النوع من الجنازات هو ما يحدث حال بدء موكب سيرها؛ فإن أول ما يسترعي انتباهك ذلك الحرص من المعزين على السير على أقدامهم وراء الجنازة ولو كان موقع الدفن بعيدًا بعض الشيء، ثم القليل منهم من يؤدي واجب العزاء بعد الصلاة ويترك الجنازة فلا يتبعها إلى المقابر بل الأغلبية العظمى تنطلق في الموكب تابعة الجنازة حتى مثواها قبل الأخير، فالأخير إما الجنة ـ رزقنا الله إياها ـ أو النار ـ عافانا الله وإياكم منها ـ.

    المشهد الأعجب الذي لفت انتباهي بشدة هو ما تراه لو صاحبت جنازتنا هذه عبر الشوارع والأزقة، إنك ترى إصبع السبابة في أيدي المارين كلهم ترتفع وهي تتشهد بشهادة التوحيد، يقوم الجالسون، وتختفي البسمات التي كانت تعلو الوجوه والضحكات التي كانت منذ قليل تملأ الأسماع، ويحل مكان هذا كله صمت وسكون، إنني أشعر كأن ما يسير معي كائن له هيبة عظيمة في قلوب كل من يراه أو يرى ظله، حتى أنني في كثير من الأحيان ما أتلفت حولي وخلفي أنظر، أبحث عمن ينظرون إليه لعلي ألمح ظله أحاول بذلك تعظيم قدر هذا المخلوق العظيم من مخلوقات الله تعالى في جنبات قلبي لعله يتعظ أو يحيا. 

    عندما سرت في الجنازة كنت حريصًا على المشي أمامها فقد جاءت سنة الحبيب صلى الله عليه وسلم تخبرنا بأنه كان يسير أمام الجنازة، وكذا كان أبو بكر وعمر رضي الله عنهما، وإن كان لا بأس بالمشي خلفها، أما بالنسبة للركوب فيسير الراكب خلف الجنازة لا أمامها، وفي هذا المشهد ما فيه من تعجيل السير وكأننا نتسابق بالمحمول على أكتافنا إلى مقره المؤقت، نسرع في ذلك بل ونكاد نسبقه.

    ودخلنا:

    وخطت أقدامي خطوات عبر بوابات المدافن، إنني أنتقل من عالم حي متحرك مشاغب لا يتوقف عن التدافع والصراع إلى عالم يلفه في الظاهر قدر من السكون كبير، إنها لا تعدو أن تكون بضع خطوات ولكنها كانت كافية للانتقال بالمشاعر والوجدان إلى عالم مختلف تمامًا، الأماني غير الأماني، والغالي هناك رخيص هنا، إنهم هنا تحت الأرض اختلفت آراؤهم عن سابقتها لما كانوا فوق هذه الأرض نفسها.

    يا الله، كم يتبدل حال الإنسان من حال لآخر، المتأمل من الخارج لا يكاد يشعر بشيء، أما أهل اليقين فهم وحدهم الذين يعلمون ما الذي يجري هناك بالأسفل فقد أخبرهم نبيهم المصطفى صلى الله عليه وسلم تفصيل ذلك، إنهم هناك بالأسفل أحياء يشعرون ويسمعون يودون لو يتكلمون لو ينبهون زوارهم لو ينصحونهم لو...لو...لو.... ولكن هيهات.

    منذ ثلاثين:

    تمر عيناي وأنا في الطريق لإيصال صاحب جنازتنا على شواهد القبور وأقرأ: "المأسوف على شبابه"، و"البالغ من العمر أرذله"، و"الطفل الرضيع" كلهم هنا، هل جربت مرة أن تمر بعينيك على التواريخ؟ لقد رأيت أناسًا بقوا هناك تحت منذ أكثر من ثلاثين سنة، بالتأكيد هناك أكثر من ذلك بكثير، فما رأيك فيمن بقوا بالأسفل منذ قرون؟

    لكن هذا الشخص أعرف اسمه وتاريخ وفاته، بل وموقع دفنه، منذ أكثر من ثلاثين سنة وهو هنا في هذه الحفرة الضيقة، متر عرضًا ومتران طولًا ومتران عمقًا فقط، ولا ضوء ولا هواء، فقط هذا كل شيء، إن تأمل هذا المشهد بمفرده كاف لفقد العقل وتوهانه، وهو بالأحرى كاف للاستعداد للنزول في هذه الحفرة، أريدها واسعة بلا حد، مضيئة لا تظلم قط، أريد مؤنسًا لي من الصحبة، أريد أريد … ولكن كيف؟

    وقمنا بدفنه:

              ووصلنا إلى القبر وأنزلناه بأيدينا وأنمناه على جانبه الأيمن باتجاه القبلة، وبدأنا بإلقاء الرمال بعد إغلاق شفير القبر، وتعاون الحضور في ذلك، ووقفنا دقائق ندعو، ثم ما لبث الجمع أن انفض وانسحب الحضور واحد تلو الآخر، (يتبع الميت ثلاثة: ماله وأهله وعمله، فأما ماله فيتركه عند باب بيته، ويقول: هذا آخر عهدي بك، وأما أهله فيتركونه عند باب القبر، وهذا آخر عهدهم به، وأما عمله فيدخل معه فيكون جليسه) وهكذا انصرف الحضور فيا من تبكيني أين أنت الآن لمن تتركني بمفردي؟

    حقيقة غائبة:

               إننا ننسى أو نتناسى، نتناسى هذا المشهد وسرعان ما نريد مغادرة المدفن بعد أن انتهينا من دفن ميتنا، نحن لا نحب البقاء في المقابر، إنه مكان موحش غريب، أقدامنا تسرع بالعدو إلى الخارج، هل جربت أن تكون جارًا للمقابر؟؟!!

    حدثني أحد الشباب ممن انتقلوا بسكنهم إلى جوار مقبرة، أنه كان يرى ذلك في البدء أمرًا مستهجنًا مستقبحًا، ولكنه ما لبث أن شعر بعظيم نعمة الله تعالى عليه، ولكني لا أظن الكثير يوافقونه في الرأي أتعرف لماذا؟!!

    إنها علاقتك بالموت؛ أأنت صديقه أم هو عدوك؟

     قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه))، قالت عائشة رضي الله عنها: (ومن يحب الموت يا رسول الله)؟ قال: ((ليس ذاك يا عائشة، ولكن المؤمن إذا رأى ما أعد الله تعالى له من النعيم أحب لقاء الله؛ فأحب الله لقاءه، والعبد الفاجر أو الكافر إذا رأى ما أعده الله له من العذاب؛ كره لقاء الله، فكره الله لقاءه)).

    فهل أنت ممن يحب لقاء الله؟؟!

     اللهم اجعلنا منهم اللهم آمين، جمعني الله بك وبمن نحب في ظل عرشه يوم القيامة وبصحبة نبيه صلى الله عليه وسلم في الفردوس الأعلى.

              كانت هذه لقطات من جنازة في حي شعبي وتأملات جال حولها ذهني أحببت مشاركتك لي فيها، بارك الله لنا فيك أخي الحبيب، وحفظك من كل سوء وشر.

    والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته

     

    كلمات مفتاحية  :
    رجل الشباب

    تعليقات الزوار ()