تناهى إلى مسامعه وقع خطواتها البطيئة المترددة، فالتفت إلى الخلف بحركة هادئة، ووقع بصره عليها بجسدها الضئيل وعينيها البريئتين المتواريتين خلف سحابة حمراء وشلال من المطر الدافئ.
ارتسمت على شفتيه ابتسامة حانية وهو يقول: "هل من خطب؟"
ارتجفت شفتاها وهي تقول بألم: "لم أنت أيضًا؟"
رد بنفس النبرة الحانية: "لم ماذا ؟!" _لم تجب، واندفعت نحوه ملقية بنفسها بين أحضانه، ودفنت رأسها الصغير في صدره. سادت بسنهما لحظات من الصمت لم يقطعها إلا صوت شهقاتها المتقطعة ودقات قلبها المتسارعة. أحس بشيء من الرطوبة يتسلل إلى صدره، فاحتضن رأسها بين كفيه قائلاً بتعاطف:
"كفى يا أمل! لا داعي لكل هذا".
رفعت رأسها وتطلعت إليه بعينها الدامعتين قائلة:
"لم ترحلون جميعا؟ لمن تتركنا بعدك؟"
ربت على وجنتيها برفق قائلاً:
"تذكري دائمًا أنني أفعل هذا لأجلكم، ولن تضيعوا من بعدي بإذن الله فهو – عز جلاله – سيتكفل بحفظكم، وإياك أن تنسي رائد فهذا يسوءه".
تمتمت بنبرة باكية: "إنه يخطط للرحيل هو الآخر".
قال وهو يساعدها على النهوض: "مازال الأوان مبكرًا على رحيله".
استسلمت بين ذراعيه وعيناها تجوبان أرجاء المكان في ضياع، حتى استقرتا على حقيبته الجلدية السوداء التي استكانت في ركن قصي بالغرفة فسألته:
"أهي عدة الرحيل؟!"
رد بهدوء: "نعم إنها هي، حذري صغارك من العبث بها!"
سألته بخفوت: "ماذا تحوي؟"
رد باقتضاب وهو يهم بمغادرة الغرفة: "كل ما هو ضروري".
تبعته في استسلام إلى الخارج، حيث وقف شقيقهما الأصغر رائد الذي ما كاد بصره يقع عليهما حتى اندفع يعانق شقيقه وهو يهتف بحماس: إذن اتخذت قرارك أخيرًا يا بطل؟! ربت على كتف أخيه بحنان قائلاً : "ستصبح أنت رب الأسرة من بعدي ، احرص على رعايتهم ! " قال رائد وابتسامة واسعة تزين شفتيه: "ليس لمدة طويلة، فأنا أنوي اللحاق بك في أقرب وقت ممكن".
ربت على كتفه مرة أخرى، ثم التفت إلى شقيقته التي انكمشت في أحد مقاعد الردهة والأسى يحفر معالمه على صفحة وجهها قائلا:
"ألن تضيفي شيئًا؟"
قالت وهي تغالب دموعها التي تجاهد للإفلات من بين مقلتيها: "سيشتاق الأولاد إليك".
ابتسم قائلاً: "أخبريهم أنني لن أذهب بعيدًا، وأنني سأكون معهم على الدوام!
سألته: "هل ستكون وحدك؟"
هز رأسه نافياً: "كلا، سيصحبني مصطفى ابن جارنا سعيد". عادت تسأله: "وماذا عن خطيبتك؟!"
شعت عيناه ببريق رائع وهو يقول: "سلمى فتاة رائعة، لقد أخبرتها بكل شيء وقد تفهمت الأمر، بل إنها شجعتني عليه". ثم استدار يسأل شقيقه: "أين أمي؟ أهي في غرفتها؟"
رد رائد بسرعة: "نعم، إنها تنتظر قدوم البطل إليها لتودعه بطريقتها الخاصة".
اتجه إلى غرفة والدته وقرع بابها برفق قبل أن يفتحه ببطء، فطالعه جسدها النحيل المنحني المشغول بإعداد شيء ما.
تقدم نحوها بخطوات هادئة، فالتفتت إليه وابتسامة أمومة حانية تزين شفتيها. قطع المسافة التي تفصله عنها بخطوة واحدة، وانحنى يقبل رأسها ويدها في احترام، ومدت هي يديها المعروقتين تتحسس وجهه بحب غامر.
جلسا على طرف السرير دون أن ينبس أحدهما ببنت شفة، فقد ظلت تتطلع إليه بنظرة ملئها الفخر والاعتزاز قبل أن تقطع الصمت السائد بينهما بقولها:
"ما أشد زهوي بك يا بني، لقد أصبحت رجلاً".
قال باعتزاز : "إنه ثمر زرعك يا أماه".
ابتسمت بفخر قبل أن تقول - وكانت تشير إلى الطرف الآخر من السرير -: "انظر ماذا أعددت لك".
التفت إلى حيث تشير، وما أن وقع بصره على الثوب الأبيض حتى اتسعت عيناه في انبها، وتمتم بشيء من السعادة:
"يا إلهي لقد أعددته!"
قالت في حبور: "وهل يمكن للأم أن تنسى إعداد ثوب عرس ابنها يوم زفافه؟!"
انحنى يقبل جبينها في حب وهو يقول: "أنت أروع أم في الدنيا كم أنا محظوظ بك".
ربتت على خده بحنان قائلة: "ستدوي زغاريدي في أذنك وقت الزفة بإذن الله".
نهض قائلا: "سأترقب ذلك بشوق".
وقفت بدورها وهي تقول: "حماك الله يا ولدي، أبلغ سلامي لكل الأحبة!".
غادر الغرفة ومعالم البشر تطفو على صفحة وجهه، مما دفع شقيقه الأصغر إلى القول: "لقد حصلت على المباركة، أليس كذلك؟"
لم يجب بل التفت إلى شقيقته قائلا: "هل أعددت كل شيء لرحيلكم أنتم؟"
رفعت عينيها المحمرتين إلى وجهه في صمت، فعاد يكرر سؤاله: "هل أعددت عدة الرحيل؟"
ردت بصوت خافت حزين: "ليس بعد".
قال بحزم: "يجب أن تعجلوا بذلك، فما أن يتبينوا أمري حتى يتوافدوا إلى هنا بشياطينهم، ولن يروق لي أن ينهار المنزل فوق رؤوسكم".
قال رائد بمرحه المعهود: "اطمئن أنا سأهتم بالأمر".
ابتسم قائلا بحنو: "أعلم أنك أهل لهذا". قالها واتجه صوب غرفته بخطواته الواسعة، فاستوقفه شقيقه قائلاً: "ما الأمر؟"
رد في شيء من الاستغراب: "سأحضر عدة الرحيل".
قال رائد بمرح: "ألن تمنحني هذا الشرف؟"
وهرع على الفور إلى الغرفة، وعاد بعد ثوان وكفاه تحتضنان الحقيبة السوداء، وناولها لشقيقه قائلا: "إنها رائعة… كيف حصلت عليها؟!"
قال بهدوء: "الجماعة تكفلت بهذا".
هز رائد رأسه قائلاً: "كم هم رائعون!"
ربت شقيقه على كتفه قائلاً: "الوداع يا أخي العزيز!"
قال رائد بإصرار: "بل إلى اللقاء، فأنا أنوي اللحاق بك عما قريب. فلم يعلق، بل التفت إلى شقيقته قائلاً: "وداعًا يا أختي الغالية!"
خيل إليه أنها أرادت قول شيء ما، إلا أن الكلمات احتبست في حلقها، فاكتفت بموجات عاتية من الدموع.
نظر إليها بعطف، ثم اندفع مغادرًا المنزل قبل أن تغلبه عاطفته. وأمام الباب الخارجي رفع رأسه إلى السماء قائلاً بحرارة: "امنحني القوة والشجاعة يا إلهي!".
سمع صوتًا رقيقًا يهمس خلفه: "لقد بثهما – عز وجل – في جسدك منذ مولدك".
التفت إلى صاحبة الصوت وقد ارتسمت معالم السعادة على وجهه قائلاً: "سلمى! لم أتوقع مجيئك في هذا الوقت المتأخر".
قالت بصوتها الرقيق: "أردت أن يكون وجهي آخر ما يقع على بصرك قبل رحيلك".
قال بحبور : "ملامحك محفورة في كياني، وستظل كذلك حتى لحظاتي الأخيرة".
قالت بصوتها الهامس الرقيق: "كم أنا محظوظة بك!"
احتضن كفها الصغير بحنان وهو يقول: "إذا ما تم الأمر هل ستأتين؟"
قالت بمرح: "اطمئن! لن أدع والدتك تحتكر الزغاريد".
سبح في بحر عينيها الواسعتين قبل أن يقول بهيام: "سلمى أنت رائعة".
سحبت يدها من كفه قائلة بخجل: "مصطفى سعيد ينتظرك عند الجانب الآخر من الشارع".
حدق فيها ملياً، وكأنما يريد أن يشبع عينيه بالنظر إليها قبل أن يقول: ادعي لنا. وانصرف مبتعدًا تشيعه نظراتها الوجلى حتى غاب في الظلام، فرفعت يديها إلى السماء قائلة: "عزهما واحمهما يا رب!".
مرت على هذا الحوار القصير بينه وبين خطيبته ساعتان انهمكت خلالهما عائلته بإعداد عدة الرحيل، واستغرق العمل الأفراد الثلاثة حتى أنستهم مرور الوقت. وساد الصمت التام بينهم إلا من أصوات العمل، إلى أن قطعت الأم الصمت بقولها: "كم الساعة الآن؟"
أجاب رائد: "الحادية عشرة والنصف ".
قالت: "هلا فتح أحدكما جهاز التلفزيون!".
فتح رائد جهاز التلفزيون وتسمر كلاهما أمام الشاشة في حين تشاغلت أمل ببعض الأمر، إلا أنها لم تستطع منع عينيها من اختلاس النظر إلى شريط الأخبار العابر أسفل الشاشة.
وتصاعدت دقات قلبها مع كلمة (عاجل) التي ارتسمت فجأة على الشاشة مكسوة بذلك اللون الدموي التقليدي، فاندفعت على الفور إلى خارج الغرفة، واستندت بظهرها على بابها الخارجي وهي تغالب دموعها.
وتسلل الصوت على الرغم منها إلى أذنيها «مقتل أربعة إسرائيليين وجرح العشرات في عملية استشهادية نفذها فلسطينيان».
ودوت زغرودة أمها في أذنيها واخترقت كيانها كله، وخيل إليها أن صدى زغرودة أمها يتكرر عدة مرات قبل أن تتنبه إلى أن الزغاريد صادرة من بيت جارهم سعيد، وهنا فقط انطلقت زغرودتها المحبوسة في صدرها لتشق سكون الليل.