خديجة صبار .
من خلال الحالات الناطقة بالطلاق، يلاحظ أن أسبابه متعددة، وتخضع لعوامل كثيرة مشروعة وغير مشروعة، وأن إيقاعه لا يخضع للضوابط المحدودة التي حثّ عليها الإسلام. من هذه الأسباب:
ـ انحراف الزوج أخلاقياً أو مزاجياً، كإمعانه في تناول الخمر والمخدرات وما يتبع ذلك من حالات العنف والقسوة وسوء الأحوال المادية والاجتماعية للأسرة.
ـ إسرافه في ممارسة هذا الترخيص الذي شرعه الإسلام، وقيده بشروط ضيقة ودقيقة يجهلها الرجل ويتجاهلها المسؤولون، وتتحمل المرأة والأطفال نتائجه الوخيمة.
ـ عدم الإنجاب بصفة عامة. والزوج يحمل هذه المسؤولية للمرأة وحدها، ويجد هذا السبب الخارج عن إرادتها وقدرتها مهيئاً للإقدام على إقصاء المرأة. أما إذا كان السبب يعود إليه فإنه لا يعطيها نفس الحق الذي منحه لنفسه.
ـ عدم إنجاب الذكور لأنهم هم حاملو اسم الأسرة، والعاملون على استمراريتها، تبعاً للعقلية التقليدية المتخلفة، وهذا يظهر أننا مازلنا نعيش رواسب العصر الجاهلي.
ـ عدم التكيف مع عائلة الزوج، خصوصاً أمه وأخواته، لأنهن يتدخلن في حياة الزوجين الخاصة.
ـ عدم التوافق بين الزوجين بحكم تحكم الزوج المطلق في شؤون الأسرة، وبسط سلطته المطلقة دون مراعاة الوضع الاجتماعي الجديد للمرأة، بعد نيلها قسطاً من التربية والتعليم، ومساهمتها في ميزانية الأسرة.
ـ مبالغة المرأة في المطالبة بالمساواة في كل شيء بصورة تشعره أنه متزوج من ذكر وليس من أنثى.
ـ عدم تمكن أصحاب الدخل المحدود من الحصول على مسكن نتيجة للسياسة السكنية المتبعة.
ـ عدم الاتفاق على مساهمة المرأة بمرتبها كاملاً في الإنفاق على متطلبات البيت.
فبالرغم من الوضعية الاقتصادية الحالية التي تلزم المرأة بالمساهمة في الإنفاق على متطلبات البيت فإنها ترفض لأنه ليس لها أي ضمان في حالة ما إذا أقدم على طلاقها، فمال الأسرة يبقى له ولا حق لها فيه رغم مساهمتها في جمعه وتنميته.
ـ ممارسة بعض الأزواج الوصاية الكاملة على الزوجة، وإن كانوا في نفس المستوى الفكري والاجتماعي والمادي.
ـ سهولة تطبيق حق الرجل غير المشروط في إقصاء الزوجة من بيتها ولو كانت في سن الشيخوخة!!
ـ جهل المرأة ببعض حقوقها المنصوص عليها في المدونة والتي هي صالحها وانعدام فضاء تطبيق هذه الحقوق.
ـ ارتفاع معدل الطلاق في المدن عنه في البوادي، بالرغم من قيام العلاقة الزوجية في المدن على أسس ثنائية. ويرجع ذلك إلى أن في المدينة غالباً ما يكون لها دخل يجعلها لا تعتمد على الزوج بصورة مطلقة مثل شقيقتها في البادية. ويجعلها ترفض سيطرته وتحكمه وتفضل الاستقلال بحياتها، طالما تملك دخلاً يغنيها عن جبروته، واستبداده.
كما يلاحظ أنه من خلال الحوار الذي أجريته مع مجموعة كبيرة من النساء المطلقات لم أجد حالة واحدة ناتجة عن زنا أو فساد ثابت ثبوتاً شرعياً.
كما أن الطلاق غالباً ما يقع بكيفية عشوائية دون مراعاة للحدود الشرعية الكثيرة والضيقة التي أقرها الإسلام، وحددها بدقة حتى لا يظلم أي طرف من الأطراف خصوصاً الأطفال.
ت جل النساء طلقن وهن لا يعلمن ذلك. وما تم استدعاؤهن للإدلاء برأيهن في الموضوع، ومنهن مَن لم تخبر إلا بعد مرور شهور وشهور.
ـ معظم حالات الطلاق كانت ناتجة عن الغضب الذي لم تكن المرأة سبباً له، إضافة إلى الكذب والإفتراء وهما دليلان على انعدام الرغبة في استمرار العلاقة.
الإسلام دين يشرع للحياة الواقعية التي يتعرض فيها الإنسان لاضطرابات متعددة تفضي إلى أبغض الحلال إلى الله. لكنه قيده بقيود جد ضيقة تحقيقاً للصالح العام واجتناباً للظلم وضماناً لأمن الأسرة واستقرارها. لذا صوره الله تعالى في أبشع صورة، وحث المؤمنين على تجنبه، وأجمع الأئمة على أن الأصل فيه هو المنع، ولا يمكن اللجوء إليه لأسباب يمكن علاجها، أو أمور يمكن أن تتغير في المستقبل، ولا تحول دون استمرار الحياة الزوجية. أما ما يتعلق بعاطفة الزوج، أو رعاية أهله وخدمتهم، أو رعاية أهلها، أو عدم مشاركة المرأة في الإنفاق، أو إنجاب الإناث فقط، أو عدم الإنجاب نهائياً، أو ممارسة المرأة لحق من حقوقها المدنية التي أقرها لها الشرع، ولا تمس الشرف والدنين فلا يعدها الإسلام من مبرراته. لأن هذه الأمور يمكن بقليل من الحكمة والتبصر والتضحية تصحيحها، ولا يعقل أن نبني عليها أموراً خطيرة تعلق بزعزة كيان الأسرة، وفقدان مكوناتها الأساسية، ظانين أن بهذه الكيفية نضع حلاً لمشاكلنا، بيد أن التجارب أثبتت العكس تماماً. فالطلاق لا يضع حلاً للمشاكل بقدر ما يزيد من حدتها وخطورتها، مع مرور الزمن، لأنه يسبب تشريد العائلات، وضياع الأولاد، ويساهم في تفشي الأمراض الاجتماعية بكل مظاهرها، وعلى رأسها انحراف الشباب. وهكذا نجد الرجل الذي خصه الله تعالى بالقوامة يسيء بتطرفاته الطائشة وميولاته العدوانية إلى الأسرة التي شاء الله أن تبدأ بها النبتة في الأرض ومنها بث رجالاً كثيراً ونساء.
وقد استحسن القرآن الكريم إلحاح الرسول (صلى الله عليه وسلم) على زيد بأن يمسك عليه زوجته بالرغم من استمرار الشقاق بينهما وعزمه على مفارقتها.
((وإذ تقول للذي أنعم الله عليه وأنعمت عليه أمسك عليه زوجك واتق الله)) واعتبر الإسلام الإمساك عن الطلاق من أنواع البر والتقوى.
جاء رجل إلى عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) يستشيره في طلاق زوجته، فقال له عمر: ((لا تفعل؟)) فقال الرجل: ((ولكن لا أحبها)) فقال عمر: ((ويحك ألم تبن البيوت إلا على الحب؟ أين الرعاية وأين التذمم؟)). يقصد أن البيوت إذا عز عليها أن تبنى على الحب، فهي حليفة أن تبنى على الرعاية التي تنشر الرحمة في جوانبها. ويتكامل بها أهل البيت، في معرفة حقوقهم وواجباتهم. والتذمم من أن يصبح الرجل مصدراً لهدم البيت، وتشتيت الشمل، وما تحمله هذه السيئات من سوء المصير.
فالطلاق في الإسلام مباح لرفع الضرر عن أحد الزوجين يقول تعالى في سورة البقرة:
(الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان).
وفي سورة الطلاق:
(يا أيها الذين آمنوا إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن).
ولم يبحه الإسلام إلا إذا كان ما لحق بأحد الزوجين من الضرر لا يرفع إلا به. ويحرم شرعاً إذا لحق باستعماله ضرر بأحدهما، ولم يحقق منفعة تفوق ذلك الضرر أو تساويه ... والعلاقة التي ينشدها الإسلام علاقة تقوم على أساس المعروف بما يتضمنه من الإحسان والاحترام وتبادل الخدمات.
يقول عز وجل:
(وعاشروهن بالمعروف).
(فإمساك بمعروف).
(إذا تراضوا بينهم بالمعروف).
فلا يجب على الزوج أن يلجأ إلى استعمال الحق الذي خوله له الشرع بطريقة العنف والاستبداد، وسوء المعاشرة، وفرض الرأي ورفض النقاش، وإصدار القرارات والأوامر في حالة الغضب والهيجان، في الوقت الذي يلزمه أن يستعمل أسلوب المناقشة والإقناع، واحترام الرأي الآخر، لأن الانفصال الناشئ عن طيش الرجل وأنانيته ورغبته في الانتقام من الزوجة أو من أهلها، أو انسياقه وراء نزوة ما حرام. ومهما بلغت الأسباب والمسببات التي يتخلقها، فهي غير كافية لتبرير ذلك الظلم الممنوع الذي يلجأ إليه والذي يهتز منه عرش الرحمن. يقول عز وجل:
(فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا، إن الله كان علياً كبيراً).
(واتقوا الله واعلموا أنكم ملاقوه).
(تلك حدود الله فلا تعتدوها ومَن يتعد حدود الله فأولئك هم الظالمون).
ويقول الرسول (صلى الله عليه وسلم): ((أيما امرأة سألت زوجها الطلاق في غير ما بأس فحرام عليها رائحة الجنة)).
فإذا كان مجرد طلب المرأة الطلاق يحرمها من اشتمام رائحة الجنة فكيف بالرجل الذي يوقعه ولأتفه الأسباب، ودون مراعاة حقوق الزوجة والعشرة التي جمعتهما، والأولاد ومستقبلهم. فتحريم مجرد طلب الطلاق يفيد التحريم القطعي لتوقيعه!!.
وجميع الآيات التي نزلت في الموضوع تخاطب الإنسان المتمتع بإيمان قوي، وضمير حي، لأن الإيمان هو الأصل الذي تصدر عنه جميع الأعمال الصالحة مصداقاً لقوله تعالى:
(وإن الله لهاد الذين آمنوا إلى صراط مستقيم).
وهو الذي يربي في الإنسان الضمير الخلقي ويركز فيه حقيقة الحياة ... وهذا الوازع الديني القوي يجعله يستحضر الله في أبسط تصرفاته فيما يتعلق بعلاقته بالآخر لأنه يعلم أنه يراقبه في كل لحظة من لحظات حياته، ويعلم نواياه وخباياه، ويتمكن تحت تأثيره من اجتناب كثير من التصرفات الطائشة المخالفة للشرع، التي لجأ إليها ويعجز القانون عن علاجها، وتشكل نوعاً من الضغط النفسي الداخلي على المرأة، بحيث يجعلها دائمة التوتر، مستعدة للانفجار في أية لحظة. فالقلق الدائم والإرهاق، والشعور بالاستنزاف، وعدم التقدير تتظافر مع بعضها لترسم معالم الحياة النفسية للمرأة المتزوجة، الواعية بالقوانين التي تحدد العلاقة الزوجية بينها وبين شريكها. وتحولها إلى مخلوق جامد، مسلوب الإرادة الحرية والاختيار، عديم الأمان والاطمئنان وراحة البال، دائم القلق والتوتر والخوف من السيف المصوب تجاهه!!
((من المستحيل كما يقول الشيخ محمد الغزالي أن تنجح أوضاع المرأة والأسرة بعيداً عن ضوابط الخلق والإيمان والتقوى.
والمؤمن قد يراجع نفسه بعد الطلاق فلا يمضي في طريق البث وقطع الحبال، بل يجب أن يعمل عقله في ثمانية توجيهات تلاحقت أثناء تقرير هذا الحكم المهم جاءت كلها في أعقاب قوله تعالى:
(وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فامسكوهن بمعروف أو سرحوهن بمعروف ولا تمسكوهن ضرراً لتعتدوا ومَن يفعل ذلك فقد ظلم نفسه ولا تتخذوا آيات الله هزءا واذكروا نعمة الله عليكم وما أنزل الله من الكتاب والحكمة يعظكم به واتقوا الله واعلموا أن الله بكل شيء عليم).
ماذا يصنع دين أكثر من ذلك في لزوم التروي والأدب وصون الحاضر والمستقبل. ومع ذلك فقد بلغ الهوى في إيقاع الطلاق الجنون: يعلق الرجل زوجته على شرب سجارة ثم يدخن وينهدم البيت وتتمزق الأسر شظايا ويتهم الإسلام بالحيف على المرأة. وحدود الله تكررت في آيتين من آيات الطلاق ست مرات ختماً بقوله تعالى:
(وتلك حدود الله يبينها لقوم يعلمون).
وأغلب المسلمين لا يعي هذه الكلمة ولا يدري كم تكررت ولا لم تكررت. ويبدو أنهم قوم لا يعلمون. وقد ظلمت المرأة في بيئات كثيرة. وغريب أن يرد الحيف عليها إلى تعاليم الإسلام التي أنصفتها.
يقول تعالى:
(ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف وللرجال عليهن درجة).
تبادل الحقوق والواجبات وعقد درجة رئاسة الرجل مع إتمام هذا التبادل. ونلاحظ في بعض الأوساط أن المرأة عليها وليس لها. تعامل بامتهان وغلظة، تاكل الفضلات في البيت!!
لا ننفي أن هناك بعض النساء ملأن البيت متاعب. والحل يعتمد على حسن التربية والتزام التقوى، والوقوف عند حدود الله)).
فالطلاق يتم بعد معركة يكتنفها الغدر والأمراض والجحود، وتحترق فيها المشاعر النبيلة. وليس هذا دأبنا. فقد يكون أبغض الحلال إلى الله الطلاق. وإذا وقع وجب كسر حدته بعطية حسنة تطفئ وتمنع اللجاجة في الخصام.
(وللمطلقات متاع بالمعروف حقاً على المتقين، كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تعقلون).
المصدر:الاسلام والمراة واقع وافاق .
|