مرَّ الاعتداء العبثى على المعبد اليهودى بشارع عدلى ونسيناه تقريباً، خاصة بعد إلقاء القبض على المتهم، الذى تبين أنه ضالع فى الإجرام بشقيه الجنائى والسياسى، إذ سبق اتهامه فى قضايا مخدرات، كما انخرط فى صفوف جماعات الإرهاب، لكن خطورة الحادث أبعد من هذا بكثير، ولا يمكن اختزالها فى الإجراءات الأمنية والقضائية، بل تتعلق بمدى احترامنا لتاريخنا وهويتنا.
فهذه المعابد التى باتت خاوية على عروشها بعد اندثار الطائفة اليهودية فى مصر، هى جزء أصيل من تاريخنا، وشاهد على أن هؤلاء عاشوا على ضفاف النيل قروناً، قبل أن يضيق بهم المناخ العام لأسباب يطول شرحها، وبالتالى فالحفاظ على هذه المعابد وترميمها لا يختلف فى أهميته أبداً عن ترميم المعابد الفرعونية والكنائس القبطية وغيرها من تراثنا الذى ينبغى ألا ندعه فريسة للإهمال تارة وعبث المتطرفين وجشع الطامعين تاراتٍ أخرى.
كارثة أخرى فى «فورمات» تفكيرنا تكشفها تصريحات المسؤول الأول عن الآثار فى مصر زاهى حواس، الذى قال خلال ندوة بصالون الأوبرا الثقافى بالإسكندرية: «إن ترميم الآثار اليهودية قدم للعالم رسالة تؤكد حضارة مصر رغم انتهاكات إسرائيل للأراضى الفلسطينية ومحاولاتها تهويد القدس»، ولا أفهم ما صلة معابدنا اليهودية بانتهاكات إسرائيل،
وأكاد أشمّ فى كلام حواس رائحة «المنّ والأذى»، فهذه المعابد مصرية وعلى أرض مصر، ولا يصحّ ربطها بما يجرى هنا وهناك، ولا يحقّ لحواس «معايرة» اليهود بممارسات إسرائيل، ليكرر الخطيئة التى خسرنا باقترافها أفضل أبنائنا من اليهود المصريين، حين قدمناهم لقمة سائغة لإسرائيل، ولا أستوعب حتى الآن لماذا منحنا الخصم أولادنا «الفالحين» بهذه البساطة؟!
ثم أين كان حواس حين نُهبت بعض المعابد اليهودية وزورت مستندات ملكية أراضيها فى وقائع تورطت فيها شخصيات برلمانية نافذة، ووصلت لساحات القضاء، وهو ما يعرفه الجميع ونشرت الصحف تفاصيله؟
كلما مررت أمام معبد يهودى تتداعى لمخيلتى صور احتفالات الطائفة مستهل القرن الماضى، وأكاد أشم رائحة عطور السيدات اليهوديات وهن يرتدين أفخر ثياب السهرة وأتساءل: هل كان آباؤنا أقل تمسكاً بدينهم ووطنيتهم منا، ليدعوا هؤلاء يشيدون المعابد ويحتفلون كما يحلو لهم، بينما نحن «الأكثر ورعاً ووطنية» نضيق ذرعاً بهم ونحاصرهم حتى أصبح المناخ العام معادياً لهم، كما يحدث للأقباط الآن؟!
كانت الطائفة اليهودية المصرية كبرى الطوائف من نوعها فى المنطقة وأغناها وأكثرها مشاركة فى شتى الأنشطة الاجتماعية والثقافية، ورغم عدم وجود إحصاءات دقيقة فإن عدد اليهود فى مصر الآن لا يتجاوز بضعة عجائز، بعدما كان يصل لنحو مائة ألف عام ١٩٢٢.
فبعد افتتاح قناة السويس ازدهرت التجارة فى مصر مما جذب إليها آلاف اليهود الفارين من المذابح التى طالت يهود أوروبا، وهنا وجدوا ملاذا آمنا ليشكلوا نخبة تجارية وثقافية للمجتمع، لكن هذا الحلم الجميل سرعان ما تبخر بعد سلسلة الحروب مع إسرائيل، لينتهى الأمر إلى اندثار هذه الصفحة من تاريخ مصر، ولم يبق من ذكراها سوى هذه الآثار التى يبدو أنها أصبحت فريسة للإهمال واللصوص والمتطرفين.
فى التسجيلات الحديثة للنشيد الوطنى الرائع «قوم يا مصري» الذى كان أيقونة ثورة ١٩١٩، سنلاحظ حذف كلمة «اليهود»، وكأنه بوسع مخلوق أن يمحو فصولاً من التاريخ بجرة قلم، فمؤلفه بديع خيرى وملحنه سيد درويش كانا يمثلان حينها «ضمير الأمة»، لهذا جاءت كلمات النشيد واضحة وحاسمة:
«حبّ جارك قبل ما تحب الوجود
إيه نصارى ومسلمين.. قال إيه ويهود
دى العبارة نسل واحد فى الجدود»
كان بديع خيرى دقيقاً حين اختار كلمة «الجار»، لأنه قد يكون مسلماً.. مسيحياً.. يهودياً.. كائناً من يكون، لكن أقرب من ستلوذ به وقت الشدائد هو الجار، لهذا حرّض على محبته قبل الوجود، ليؤكد المعنى الذى التهبت أحبالنا الصوتية من فرط التأكيد عليه، وهو أننا من أصل واحد، سواء انتمينا لنفس الجد المصرى، أو ذهبنا لما هو أبعد من ذلك، وهو الإنسانية، «ومن جمعتهم الأوطان لا ينبغى أن تفرقهم الأديان»، وعلينا تعلم دروس التاريخ، فالأحمق وحده من يكرر الخطأ مراتٍ ومرات، ثم يكابر ويبرر.