بتـــــاريخ : 5/9/2010 6:40:28 PM
الفــــــــئة
  • الأخبـــــــــــار
  • التعليقات المشاهدات التقييمات
    0 1477 0


    نهاية عهد العار

    الناقل : elmasry | العمر :42 | الكاتب الأصلى : ياسر عبدالعزيز | المصدر : www.almasry-alyoum.com

    كلمات مفتاحية  :

    أعرف أنه يعمل «أمين مخزن» فى إحدى الوزارات المترهلة، وأن راتبه لا يتجاوز ألفى جنيه شهرياً فى أفضل الأحوال، وأن عائلته بسيطة إلى درجة لا تسمح له أن يرث مالاً ولا عقاراً، ومع ذلك فهو لا يكف يوماً عن المباهاة بالفيلا التى شيدها فى إحدى المدن الجديدة، ولا بالشقق الأربع التى اشتراها لأولاده القُصّر فى المدينة ذاتها، ولا بسيارته الفارهة، والأوقات السعيدة التى يمضيها برفقة أسرته بالمنتجعات الفاخرة.

    لقد أظهر هذا الرجل دوماً شعوره بالأمن والحماية من الرقابة والمساءلة وربما الحسد والأحقاد، وهو أمر قد يبدو مفهوماً فى ضوء رخاوة الدولة وعجز أجهزتها الرقابية وتغول الفساد، لكن ما يعجز المرء عن فهمه ويثير العجب حقاً فى مثل تلك الواقعة هو غياب الإحساس بالعار، وهو الإحساس الذى ظل مجتمعنا قروناً يهابه ويتجنبه ويقبل الفقر والتشرد والمعاناة فى سبيل اتقائه.

    لا يتعلق الأمر هنا بموظف فاسد امتدت يده إلى المال الحرام، أو امرأة سيئة السمعة لم تعد تقيم وزناً لنظرات الاستهجان، ولا بمسؤول يسرق أموال الدولة علانية ويثرى ثراء فاحشاً على المشاع، ولا بمراهقين يتصدرون ناصية الشارع، غير منزوين أو مستورين، يدخنون المخدرات ويعاكسون الفتيات.. ولكنه بات سمتاً عاماً وسيرة يومية وأسلوب حياة.

    قبل سنوات، انتشر شريط فاضح يعرض لقاء جنسياً بين راقصة مشهورة ورجل أعمال نافذ قالت إنه زوجها، فيما بدا لاحقاً أنه عملية تصفية حسابات بين الرجل ومنافسين أكثر شراسة ونفوذاً. والغريب فى الأمر أن بطلى الشريط عادا إلى المجال العام لاحقاً، بتألق وثقة واقتدار أكبر من أى وقت مضى، وحين سئلت الراقصة المشهورة فى أحد البرامج، التى أخضعت الأمر للفحص المتأنى، عما إذا كان الشريط قد أثر على علاقة أسرتها بها، أجابت بثقة: «لم تتأثر العلاقة، فأسرتى ربتنى تربية حسنة، وتعرف أخلاقى جيداً».

    فى مطلع العقد الراهن، قاد الصراع داخل النخبة الحاكمة بين ما سُمى «الحرس القديم» و«الفكر الجديد» إلى بعض التضاغط والمشاكسة لإنهاك المنافسين وإضعاف حظوظهم. ويبدو أن ذلك التضاغط قاد أحدهم إلى إخراج محضر تحقيق عمره أكثر من ٤٠ سنة مع قطب عتيد من أقطاب النظام فى قضية شهيرة، ونشره عبر وسائل «الإعلام الجديد». ومما يظهر فى هذا المحضر، منسوباً إلى السياسى المرموق والقطب النافذ، اعترافه بتنفيذ أنشطة منحطة ومشبوهة لأغراض لا تتصل بالمصلحة العامة.

    الغريب فى الأمر أن الرجل عاد إلى المجال العام بصورة أكثر صلابة وشهوة أكبر فى الظهور والتأثير. ورغم أنه لم يصدر أى تأكيد جازم بصحة التحقيق المنشور، فإن أحداً لم ينف صحته، خصوصاً أن معلومات متطابقة فى مصادر أخرى أيدته.

    الأمر ذاته تكرر مع ممثلة كانت مغمورة، ضبطت ضمن شبكة للأعمال المنافية للآداب قبل نحو عقدين، واعترفت، وأدينت بالجرم المشهود، وأمضت عقوبتها، قبل أن تعود لممارسة عملها الفنى، فتُفتح لها الأبواب، وتنال أدوار البطولة، وتصبح أكثر شهرة ونجومية وشعوراً بالعزة.

    سيمكنك أن تعد عشرات الحالات التى تكاد تثبت اندثار مفهوم العار، سواء من خلال هذا المنتج والفنان الذى تورط فى فضيحة تسهيل دعارة، ثم عاد للعب دور قيادى مؤثر فى المجال الفنى والإعلامى، أو لاعب الكرة الذى تورط فى جريمة رشوة، ثم عاد لممارسة لعبته دون أى شعور بالخجل أو رغبة فى الاعتذار، أو هذا المطرب الذى تهرب من التجنيد، وزور وثائق رسمية، وأدين، وسُجن، ثم عاد ليغنى، ويمثل، ويحمل علم مصر ويجهش بالبكاء عند تقبيله، ويُكرم من الحكومة، باعتباره «قدوة للجيل» و«رمزاً لحب الوطن».

    تورط هذا الرياضى السياسى الإعلامى ورجل الأعمال النافذ فى صراع على طريقة «ضرب الظالمين بالظالمين»، فظهر عنه ما يشين ويحط من القدر ويفضح رداءة المسلك وانحدار القيم، لكنه عاد أكثر جرأة وثقة وإحساساً بالاعتبار، ووجد من يفتح له الطريق المسدود، ويدفع له الملايين ليحصل على عوائد شهرته ورواج بضاعته.. وحتماً سيجد من الجمهور «الطيب» من يلتف حوله ويوطد مجده، ويتصل ببرامجه قائلاً: «أنا باحبك أوى يا كابتن».

    العار فى اللغة هو «العيب أو السُّبة»، ويقول «لسان العرب» إنه «من أصعب المحن»، وإنه «كالقتل أو أشد»، وقد كان هذا المفهوم مستقراً ومتفقاً عليه فى بلادنا إلى عهد قريب. فلم يعرف المصريون يوماً ما هو أفدح ثمناً أو أقسى من «الفضيحة» أو «الجُرسة»، وظل الإحساس بالعار ووضاعة النفس وانحدار القدر وانهيار المنزلة أمام الناس أنكى على المرء من العذاب المقيم، بل من الموت ذاته.

    فى عام ١٩٨٢، أخرج على عبدالخالق فيلماً جيداً تحت عنوان «العار»، صور للجمهور حال أسرة مصرية «مستورة»، اكتشفت بعد وفاة الأب أنه كان تاجر مخدرات، فما كان منها إلا أن انهارت وتفككت وانزوت بعيداً بفعل إحساسها المهين بالعار.

    لا يبدو أن ثمة مخرجاً واقعياً باستطاعته اليوم إطلاق شريط مماثل، فالقيم تبدلت، بحيث لم يعد العار فى مصر قاضياً نافذ الحكم يقضى باستبعاد الملطخين والمدانين من المجال العام، ليمضوا أيامهم الباقية فى الظل والانزواء والانكفاء على فضائحهم، ولكنه بات، كما يبدو، ملهماً لهم وسنداً وباباً إلى الشهرة والمجد والبقاء. وإنه لأمر، لو تعلمون، جلل.

    كلمات مفتاحية  :

    تعليقات الزوار ()