أحد الأخطاء الشائعة التى تكرسها أدبيات بعض فصائل المعارضة أن السياسة الخارجية موضع اتفاق عام ، وأن الخلاف مع الحكم يدور فقط حول السياسة الداخلية.
وهذا فصل تعسفى، وغير منطقى، بين أمور لا تقبل القسمة، لأن هناك تأثرا وتأثيرا متبادلين بين الاثنين. فأى خيار سياسى تنحاز إليه حكومة ما يحدد الخطوط العريضة لتحركها ولتحالفاتها خارجياً، وبالمقابل فإن شروط المعادلات الدولية والإقليمية تفرض تأثيراتها على عملية صنع القرار الداخلى.
لذلك فإنه يصعب جداً فهم تشنج بعض فصائل المعارضة فى التنديد مثلا بالسياسات الداخلية للحكومة، ثم التوقيع على بياض- فى نفس الوقت- على سياساتها الخارجية.
هذه شيزوفرينيا غير مفهومة.
والتسليم بأن هناك أموراً «وطنية» و «قومية» تعلو على الخلافات «الحزبية»، لا يعنى النظر إلى السياسة الخارجية على أنها فوق مستوى الجدال.
وأظن- وليس كل الظن إثماً- أن الخلل الذى نعانى منه فى مصر حالياً ليس متعلقاً فقط بإدارة الشؤون الداخلية - سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية- وإنما هناك أيضا خلل جسيم فى سياستنا الخارجية، وهذا الخلل يزداد يوما بعد آخر وينتقل من مجال إلى آخر بشكل أصبح يمثل تهديداً للأمن الوطنى المصرى ويضع العراقيل- فى بعض الأحيان- أمام السياسة الداخلية التى تنتهجها الحكومة.
وقد أظهرت الأيام والأسابيع الأخيرة هذا الخلل فى سياستها الخارجية فى ثلاث مناسبات متتابعة وثلاثة مجالات مختلفة.
المناسبة الأولى هى «تمرد» دول منابع النيل على الاتفاقيات المنظمة لحصص دول حوض النيل من المياه، وهو أمر بالغ الخطورة لأنه يتعلق بشريان حياة مصر.
والمناسبة الثانية هى انعقاد القمة الرابعة عشرة لمجموعة الخمسة عشرة فى العاصمة الإيرانية طهران وسط اهتمام إعلامى عالمى كبير ومشاركة رفيعة المستوى من معظم الدول السبع عشرة الأعضاء فى المجموعة، وصلت فى حالة البرازيل إلى وفد يضم ثلاثمائة من كبار رجال الأعمال والخبراء ورجال الدولة، على رأسهم الرئيس البرازيلى «سيلفا دا لولا» شخصياً.
قارن ذلك بمصر التى اكتفت بوفد يضم السفير محمد العرابى، مساعد وزير الخارجية، والسفير علاء الدين يوسف، رئيس قسم رعاية المصالح المصرية فى طهران.
ورأس الوفد المصرى الدكتور محمود محيى الدين، وزير الاستثمار، الذى ألقى كلمة نيابة عن الرئيس حسنى مبارك أمام القمة، ولم يستغرق مروره بطهران سوى بضع ساعات كانت بمثابة محطة لـ«استراحة» من وعثاء سفر طويل بين الصين والإمارات.
أى أن المشاركة المصرية فى قمة مجموعة الخمسة عشر كانت «رمزية» إلى حد بعيد. وهو ما يعنى أن الإدارة المصرية لم تتعلم شيئاً من الدرس الأفريقى، حيث تبقى الحقيقة المرة هى أن وجودنا فى المحافل السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية لدول العالم الثالث – الذى نحن جزء لا يتجزأ منه – هو مجرد وجود صورى وشكلى وبيروقراطى ومجرد تستيف أوراق و«تسديد خانات».
وبعد أن كان الوجود المصرى حقيقة ملموسة وفعالة فى أفريقيا وآسيا- منذ عصر محمد على- انكفأت مصر على نفسها واستقالت من دورها الذى أملته اعتبارات التاريخ والجغرافيا قبل اعتبارات الأيديولوجيا.. أى أيديولوجيا.
المناسبة الثالثة التى كشفت الخلل فى تعاملنا مع العالم، وهى المناسبة التى اهتم بها ملايين المصريين بشدة- رغم أنها أقل أهمية من المناسبتين الأولى والثانية- هى صدور قرارات الهيئة المسؤولة عن إدارة الشؤون الكروية فى العالم «الفيفا»، التى أدانت الإدارة المصرية ووقعت عليها عقوبات مالية وغير مالية على خلفية ملابسات مباراة كرة القدم إياها بين مصر والجزائر فى القاهرة والمباراة الأخرى فى أم درمان.
هذه القرارات تتجاوز فى مغزاها حدود مباراة كرة القدم، بل تتجاوز حتى حدود الرياضة عموماً، لأنها بمثابة اتهام للمسؤولين عن الكرة المصرية والجهات المصرية التى لها علاقة مباشرة بأحداث المباراة المشـؤومة.. اتهام بالكذب والتدليس، وخداع الرأى العام المصرى والإعلام المصرى قبل محاولة خداع «الفيفا» أو الأطراف الخارجية.
هذه المناسبات الثلاث تختلف فى مجالاتها وتفاصيلها لكنها تشترك فى أشياء أساسية، أهمها سوء الأداء.
فالكثيرون فى الداخل والخارج يحذرون منذ سنوات من الأخطار المحدقة بحصة مصر من مياه النيل.
والكثيرون يحذرون منذ سنوات من مخاطر وضع ٩٩% من أوراقنا فى يد دولة أجنبية واحدة.
وكان هذا يتطلب إدخال تعديلات جذرية على خريطة الدبلوماسية المصرية وأولوياتها، بحيث تكون بكين ودلهى وبريتوريا وغيرها من عواصم دول «العالم الصاعد» هى بؤرة اهتمامنا ومنصات انطلاق تحركاتنا على الساحة الدولية فى هذه البيئة الدولية التى ستشهد مستجدات غير مسبوقة.
لكن كل هذه التحذيرات ذهبت أدراج الرياح، واستمر التركيز الدبلوماسى على اللاعبين «القدامى» الذين انتهى تاريخ صلاحية معظمهم.
وإلى جانب سوء الأداء والعناد.. يوجد سوء التقدير وسوء الفهم للتغيرات الإقليمية والعالمية.
ويزيد الطين بلة استخدام سلاح «الفهلوة» بدلاً من اللجوء إلى استقاء المعلومات من مصادرها، وتوثيقها، وتحليلها تحليلا علمياً وموضوعياً بعيداً عن الأهواء الذاتية.
وكل هذه السلبيات ليست من تقاليد مؤسسة الدبلوماسية المصرية.
فهذه المؤسسة العريقة كانت ولاتزال مدرسة للوطنية المصرية شأنها فى ذلك شأن المؤسسة العسكرية، وكذلك مؤسسة الرى (حتى عهد قريب).
المشكلة أن مؤسسة الدبلوماسية لم تعد «سيدة قرارها»- مع الاعتذار للدكتور فتحى سرور- كما أن كثيرا من الأمور التى يفترض أنها من اختصاصها أصبحت خارج ولايتها أصلاً.
ناهيك أن الحساب غائب للمسؤولين عن السياسة الداخلية أو الخارجية على حد سواء، حتى لو ارتكب بعض هؤلاء المسؤولين كوارث رهيبة.
فهل سمعنا عن محاسبة مسؤول عن تعريض حصتنا من مياه النيل للخطر؟
هل نتوقع أن يحاسب أحد عن مهزلة الإساءة إلى سمعتنا فى العالم بسبب مباراة كرة قدم؟
وهل يمكن تصور الآثار المدمرة لاستمرار هذه العشوائية فى السياسة الداخلية والخارجية فى ظل غياب رؤية مستقبلية تحظى بإجماع وطنى حول مكانة ودور مصر فى الإقليم والعالم بعد عدد يزيد أو يقل من السنوات والعقود، فى عالم يتغير فيه كل شىء.. بما فى ذلك ثوابت الجغرافيا والمناخ؟!