تميز الانسان دون سائر الخلائق بقدرته علي التفكير, فهو عندما ظهر علي سطح الارض لم يركن شأن بقية الأنواع الأخري من المخلوقات إلي ماقدمته الطبيعة له,
ولكن أعمل فكره في كل ما تعرض له وما صادفه من أحداث وظواهر, فلقد رأي, وفسر, وعلل, وأزعم انه لولا هذا الفكر والبحث الدؤوب لما استطاع الانسان ان يصمد في مواجهة الطبيعة ولانقرض, لذا اهتمت معظم المجتمعات منذ القدم بالبحث العلمي لكونه مبدأ أساسيا للبقاء, ولكونه أيضا عصب كل تنمية, وتطور ورقي.
في الواقع, لاتقاس درجة تطور ورقي الأمم بدرجة تطورها الاقتصادي والسياسي فقط, بل كذلك بدرجة تطورها التعليمي والعلمي أي بدرجة انتشار التعليم فيها, وبدرجة شيوع المعرفة العلمية, وكذا بآفاق تطور البحث العلمي فيها, والبحث العلمي يؤخذ هنا في معنييه الاساسيين: البحث الاساسي في العلوم والتقنيات, وكذلك البحث العلمي في مجال العلوم الانسانية.
تقدم لنا المؤشرات الاحصائية التي تقدمها المنظمات الدولية المختصة ان الانفاق علي البحث العلمي في الدول العربية قياسا إلي ناتجها القومي الاجمالي كان سنة1980 يقف عند0.97% وانخفض سنة1990 إلي0.76% وحافظ علي هذا المسار فيما بعد اي0.7%, أما في الدول الصناعية الكبري نراها أخذت بزمام المبادرة في مجال البحث العلمي, بنوعيه, ورصدت له الامكانات المادية بلاحدود, حيث بلغت نسبة الانفاق2.92 كما انها في تزايد مستمر, بل أصبحت قناعات المؤسسات والشركات الخاصة في هذه الدول بفوائد البحث العلمي وضرورته, أمرا مسلما به, فأصبحت هي الاخري جزءا من دائرة البحث العلمي, تأخذ منه وتعطيه. ذلك يعني من جهة أخري ان العالم العربي في سبات عميق, لايحرك ساكنا في مجال البحث العلمي والاختراع والاكتشاف كأن الأمر لايعنيه.
فبالمقارنة مع إسرائيل فان الاحصائات تؤكد انها تنفق سنويا علي البحث العلمي وتطوير المتخصصين في المجالات العلمية ضعف ما ينفقه العرب مجتمعين. كما ان نسبة انفاق إسرائيل علي البحث العلمي تبلغ خمسة وعشرين ضعفا بالنسبة للميزانية في مصر للبحث والتطوير العلمي.
وهذا ما يجعلنا نتساءل عن واقع البحث العلمي في مصر؟ تكمن المشكلة في واقع البحث العلمي نفسه في مصر, هذا الواقع الذي لايكاد يخفي علي عاقل, والذي بدوره يدفع الباحثين للتفكير دوما في أسباب التراجع, فهم يدركون أهمية البحث العلمي لمجتمعهم, ويتمنون أن يروا ذلك اليوم الذي تشرق فيه شمس الحضارة من جديد, ويعود العلم كما كان, رائدا وقائدا, ولكن عندما تشعر اعداد متزايدة بالمجتمع بما يغمر الأمة من جهل وجمود, وما تعانيه من ضعف وخمول, إذن هناك مشكلة جد خطيرة.
علي الرغم من ان المزاج هنا يبدو سلبيا إلي حد ما, فانه ينبغي ألا ننظر إلي ذلك باعتباره نواحا او رثاء, حيث يوجد وحتي وأنا اسطر هذه الكلمات مئات من أصحاب المواهب الرفيعة جدا والحماس الشديد, عاكفين علي اكتشاف السبل الناجحة لتحسين مستوي البحث العلمي في مصر, فكثيرة هي الرؤي التي طرحت لمشروع قومي كان آخرها طرح للدكتور جمال سليمان, والذي عبر عن رؤية غير تقليدية لوضع مصر في مكانتها اللائقة علي مستوي العالم, علي أساس تفرقته بين الغايات والوسائل, واعتبر طرح الغاية هو السبيل الوحيد لتحقيق تقدم ملموس لاي دولة.
واختار البحث العلمي كخطوة أولي لطرح غاية قومية والسعي لتحقيقها, وربما استند توجهه إلي هذا المجال دون غيره, لضرورة هذا المجال وحيويته, ولتوافر الحد الأدني المطلوب لطرح الغاية وتحقيقها فيه, ولقد تعدي المقال الحديث النظري لوضع خطوات محددة لتحقيق الغاية القومية انطلاقا من رؤيته التي قد نتفق أو نختلف معها, لكن الجدير بالملاحظة هنا انه استند في طرحه إلي وقائع تاريخية محددة تؤكد منحاه, وهو قيام أغلب المشاريع الكبري في مصر كإنشاء جامعة القاهرة وبناء السد العالي وإنشاء بنك مصر ومستشفي الأطفال في أيامنا هذه, انطلاقا من العمل الأهلي, وبناء علي هذا اقترح إنشاء كيان أهلي سماه مبدئيا الجمعية الأهلية المصرية للابتكارات والكشوف العلمية, ودعا لعقد اجتماع للمهتمين بالبحث العلمي علي مستوي مصر والعالم العربي للخروج برؤية واضحة, وبما يعني ضرورة أن تسبق الرؤية العمل, كما لايجوز طرح الرؤية دون استشارة أهل الخبرة, غير أن السؤال الأجدر بالطرح هنا هو: هل ثمة حاجة لانشاء كيان اهلي للبحث العلمي, خاصة وأن لدينا الكثير من مؤسسات البحث العلمي الحكومية؟
في الواقع, إن اللجوء لانشاء مؤسسة أهلية يجنبنا الوقوع في دائرة البيروقراطية السائدة داخل مؤسساتنا الحكومية وليس ثمة ما يمنع من تعاون وتكامل القطاعين الأهلي والحكومي, كما اتصور أن القطاع الأهلي يمكن أن يمول بعض المشروعات البحثية الخاصة به داخل المؤسسات الحكومية وليته يتم هذا لاسيما وأن عدم توافر التمويل اللازم للبحث العلمي والتطوير, هي المشكلة الرئيسية, فأحد الحلول البسيطة والمباشرة هو الاعتماد علي التبرعات الأهلية أو التمويل الأهلي, وهي امور ممكنة, وبحسبة بسيطة, فإن تعداد سكان مصر الآن80 مليونا تقريبا, فإذا افترضنا أن65 مليونا قادرون علي دفع جنيه واحد, وان10 ملايين منهم قادرون علي دفع عشرة جنيهات, و4 ملايين منهم قادرون علي دفع100 جنيه, ومليونا منهم قادرون علي دفع1000 جنيه, فسوف نوفر دعما ماليا يكفي لتحقيق آلاف المشاريع البحثية العلمية الضرورية, وإذا ما تمكنا من تطبيق هذه الرؤية فسوف نعكس وجها حقيقيا من أوجه مصر المضيئة والمشرفة, وربما امكننا ان نحقق الريادة التي هي مشروع لايكتمل ابدا, بل يظل منفتحا علي تحقيق المزيد.