إنّ التاريخ - بأيامه وشهوره - ديوان وسِجِلٌّ حافلٌ تُدَوَّنُ فيه مآثر الأمم وأمجادها, تلكم المآثر التي يسجلها الأفذاذ من الأبطال بمداد قانٍ, وعزيمة شمّاء تناطح السحاب في شموخها وعزّتها وإبائها.
وإنّ أعظم المآثر ما كان فدى لحماية الأديان, والذود عن الحرمات والأوطان.
وإنّ الجزائر الحبيبة سجّلت على مدّ العصور والدهور -بمداد من دماء أبنائها الأبرار-, كثيرا من المآثر التي تنبئ عن عزّة شعب أبيّ يأبى الظلم, ويأنف من الحيف والجور, ويهبّ -متى طعنت كرامته واستبيحت حرماته- هبّة الأسد المنافح عن عرينه.
ومما يصل حاضر الأمة بماضيها, ويجعل خلفها على خطى سلفها, أن تحي هذه المآثر – وخاصة ما بقي منها ماثلاً حاضراً- .
ولهذا كان من شأن السلف الصالح تدريس مآثر أبطال الصحابة رضوان الله عليهم ومآثرهم للأبناء والأجيال, لأنّ ذلك خير معين على تنشئة جيل ثابت الخطى عالي الهمّة.
ولقد حاول الاستدمار من خلال أقلام مغرضة الطعن في رموز هذه الأمة, وسعى سعياً حثيثاً لطمس مآثر أبطالها, حتى ينشأ جيل منقطع الصلة عن دينه ووطنه وسلفه وآبائه وأجداده.
ولهذا حقّ على كلّ غيور من أبناء هذه الأمة الجزائرية أن ينهض لتدوين ما بقي من المآثر – المتمثلة في ذاكرة هذه الأمة- وهم جيل الصفوة من الثورة التحريرية المباركة, الذين ثبتوا على العهد ولم يبدّلوا تبديلاً.
وإنّ من أولى اللبنات التي نضعها بين يدي القارئ الأبيّ, غراس من بيت النبوّة, ونسمة من أرض الزيانيين.
إنّه أحد الأبطال, -وشريف من ذرية المصطفى صلى الله عليه وسلم-, الذين هبّوا لنداء الحق, ونداء الأوطان, فهجر لذيذ العيش, ونعيم الفرش, وجاد بدمه وأعضاء من جسمه – وهو في ريعان شبابه- فدى لعزّة هذا الوطن, وثمناً لحريّته وكرامته.
أعني بذلك والدي العزيز, وقدوتي في البذل والتضحية والعطاء, وصدق الإخلاص والانتماء, المجاهد الكبير: العربي بن الجيلالي بن صفية التلمساني الهاشمي.
وقد دوّن حفظه الله وأطال في عمره, وأقر أعيننا برؤيته, والأنس بقربه وجواره, هذه المذّكرة -التي أوضح فيها بعضاً من الأسرار والخبايا عن جهاده وتضحيته في الحرب التحريرية المباركة- لتكون نبراساً للأجيال المتلاحقة من بعده
وقد أعرض الوالد عن ذكر كثير من بطولاته التي نحفظها منذ نعومة أظافرنا, تواضعاً منه, -إذ مبتغاها التلميح بالقليل, فالغيض منه حفظه الله ينوب عن الفيض-, أسأل الله جلّ في علاه أن يجزي مثوبته, وأن ينزل عليه من شآبيب رحمته, وأن يدّخر له الأجر كاملاً موافى يوم لقائه.:
فيقول الوالد حفظه الله:
"في إطار جمع وتسجيل نبذ تاريخية من أفواه المجاهدين كبار معطوبي حرب التحرير الوطني حول وقائع ثورة نوفمبر 54 المجيدة.
أسجل هذه النبذة المختصرة حول الوقائع التي عشتها أثناء حرب التحرير الوطني.
· النشأة:
الاسم: العربي بن صفية، من مواليد 01 أفريل 1937 بـ "عين السبع" ( بوغدو ) بلدية "سيدي الجيلالي" حاليا، ولاية تلمسان. من عائلة شريفة إدريسية ، من أحفاد الولي الصالح "سيدي يحي بن صفية" عرش "أولاد نهار"، مهنتها الفلاحة وتربية المواشي من غنم وبقر وخيول. متزوج، وأب لسبعة أولاد وبنتين.
فتحت عيناي وترعرعت في وسط عائلة كبيرة, حيث أن والدي ، رحمه الله , كان متزوجا من أربعة نساء، كانت والدتي رحمها الله الزوجة الثانية. وكل زوجة كان لها عدد من الأولاد والبنات . وكان والدنا متسلّطاً جدا, وحازما لا يقف في طريقه أحد من أفراد العائلة والأقارب، أو يخالفه أحدهم الرأي.
زاولت، في سن الثانية عشر، التعليم في كتاتيب حفظ القرآن الكريم بزاوية درقاوة بمدينة وجدة المغربية، لمدة سنتين، ثم لدى الشيخ سي الجيلالي ولد امحمد رحمه الله. كان "مشارطا"عندنا بـ"بوغدو" بالبلاد، بالإضافة إلى ممارسة الرعي, ومزاولة الفلاحة.
· إرهاصات بين يدي الثورة التحريرية
ونحن في سن المراهقة, كنا نلاحظ حركة دؤوبة لبعض الرجال الذين كان يستضيفهم والدي بالمنزل بالريف، ونسترق السّمع في بعض الأحيان لما يدور بينهم من حديث حول مصالي الحاج وابن باديس وآخرون، و كلام عن الحرية. و كنا نسمع عبـارات مثـل: " النصارى دخلوا بلادنا بالقوة ولازم يخرجوا منها بالقوة " و " قيام دولة جزائرية " إلخ..., الشيء الذي ولّد في قلوبنا الحماس . فكنا, ونحن صغار، ندعو الله في صلواتنا أن يُعجَّل بيوم الجهاد لنشارك فيه لطرد النصارى من بلادنا. باعتبار أننا لم نكن نعرف معنى: التحرير، الإستقلال، الاستعمار؛ نتيجة الانغلاق والجهل المطبقين من طرف الاستعمار على الجزائريين, وخاصة سكان الأرياف آنذاك.
ما زلت أذكر أسماء البعض من هؤلاء المناضلين الأوائل في الحركة الوطنية, منهم من استشهد في ميدان الشرف، والكثير منهم انتقل إلى رحمة الله بعد الإستقلال, والقليل منهم من لا يزال على قيد الحياة إلى هذه الساعة . أذكر منهم : سي محمد كعو ، بوسيف البغدادي، الواد الجيلالي المدعو صالح النهاري، علي بوسدرة, وأخوه قويدر, البوعناني بن عــبد الله , قطبي الخضر, محمد بوكربيلة ، سي الجيلالي ولد الإمام، قروش السهلي, قروش بنونس، بومهدي محمد وأخوه موسى, وبوسيف الميلود المدعو متيو, والقائمة طويلة.
ففي أوائل نوفمبر 1954, بدأنا نسمع بأسماء رجال لم نكن نسمع بهم من قبل مثل الشيخ السنوسي، بوشقور، السوداني , بلال وآخرون، كانوا بالمنطقة يقومون بتحضير وتدريب الأفواج المسلحة.
وفي هذه الأثناء, كان الجيش الفرنسي يقوم بعمليات تمشيط مستمرة وواسعة النّطاق عبر الجبال الممتدة من "سبدو" إلى الحدود المغربية مع التحليق المستمر للطائرات الاستكشافية وطائرات الجاغوار الصفراء.
ومع دخول سنة 1955، بدأت أفواج من جنود جيش التحرير بقيادة سي محمد كعو وبوسيف البغدادي، يترددون على منزلنا والمنازل المجاورة للأكل والإيواء. وكنت أقوم مع بعض من أقراني بالحراسة لرصد تحركات الجيش الفرنسي من فوق الروابي العالية, ومرافقة تلك الأفواج في بعض الأحيان من مكان إلى مكان للحراسة, كما كنا نقوم بتخريب الطرق في بعض الأماكن الوعرة لمنع مرور آليات العدو.
وفي أواخر هذه السنة , سنة 1955, تم الهجوم على فرقة القومية التي كانت موجودة آنذاك بسيدي الجيلالي بقيادة ضابط فرنسي برتبة ملازم يُسمّى الفسيان، في حين تمكن هذا الضابط الذي أصيب بجراح، من الهروب في الظلام حافي القدمين إلى المركز الثاني للقومية بسيدي المخفي, الذي يبعد عن المركز الأول بحوالي 5 كلم. وبعد خروجه من المستشفى عاد إلى "سيدي الجيلالي" على رأس قوة عسكرية تمركزت هناك بصفة دائمة ومعه قائمة بأسماء المسئولين في هذه الناحية، قتل منهم أربعة عشر فردا في يوم واحد. منهم : علي بوسدرة، و أخوه قويدر، وبوعبسة عبد القادر، و البوحميدي وأحد أبنائه و آخرون لم أتذكر أسماءهم. في حين نجا والدي بأعجوبة من الموت، لغيابه عن الديار في ذلك اليوم من شهر رمضان الموافق لشهر مارس 1956 .
تعذيب وتنكيل:
لما جاء الفسيان مع مجموعة من العساكر يبحثون عنه، وجدوني في المنـزل رفقة ابن أخي موسى رحمه الله، الذي يكبرني في السن. فأخذونا مكتوفي الأيدي إلى الخلف،. وذهبوا بنا رفقة مواطنين آخرين إلى مدينة سبدو, التي تبعد عن ديارنا بـ : 20 كلم. فأدخلونا إلى مركز عسكري، وأشبعونا صفعا وضربا وركلا لإجبارنا على كشف مكان وجود والدنا، وعن الغرباء الذين يأتون إلى منازلنا، فنجيبهم بلا " لا نعرف شيئاً " . ثم أركبونا شاحنة عسكرية GMC, وذهبوا بنا ضمن قافلة عسكرية إلى "سيدي الجيلالي", وألقوا بنا داخل حجرة ضيقة يكسوها الظلام، مكتوفي اليدين والرجلين, ونحن صيام، وقد فات وقت الإفطار. وبعد مدة من الوقت, دخل علينا الفسيان وبيده مصباح , وهو في حالة سكر، وقال بلهجة مغربية ( حيث أنه عاش بالمغرب ويتقن الدارجة ) : " دبا غادي نطلقكم بشرط، قولوا لبَّاكم الفسيان يحتاجك إيجي عندي دغية " , ولما تشوفوا ناس غربا أجيو تخبروا العسكر, وإلاّ راني نحوس عليكم ونقتلكم ".
فخرجنا من ذلك المركز, ولا علم لنا بما جرى في ذلك اليوم بشأن الذين قتلهم الفسيان. سرنا في ظلام دامس عبر الشعاب والأودية، متفادين الطريق خوفا من العسكر. ولمّا وصلنا إلى الديار، وجدنا الأهل في بكاء ونحيب علينا، لاعتقادهم أننا قُتلنا مع الآخرين. ولما رأونا لم يصدّقوا أعينهم.
وفي اليوم الموالي ، وبينما كنا نقوم بدفن الشهيد بوعبسة عبد القادر، جاءتنا مجموعة من العسكر بقيادة ضابط فرنسي برتبة نقيب، فأخبرونا أن المنطقة بكاملها أصبحت محرمة، ويجب إخلاءها قبل 24 ساعة . وكل من يجده العسكر هنا سيُقتل.
وما هي إلا دقائق، حتى بدأت الطائرات الاستكشافية تحوم حول المنطقة وتلقي المناشير الحاملة أمر الإخلاء . فحمل السكان خيمهم وما خف وزنه، وساقوا مواشيهم نحو المناطق السهبية نواحي لمعيذر والصيادة ومقورة، في أجواء ممطرة، وتوجهوا إلى المغرب الشقيق كلاجئين بعد عدة مراحل من التنقل .
وبما أن والدي كان قد اشترى منـزلا بمدينة وجدة المغربية سنة 1949, انتقل نصف العائلة إلى هذا المنـزل , وبقي النصف الآخر مع المواشي بأرض "أولاد بلحاج" بـ "سيدي عبد الله " أنقاد" القريبة من وجدة. وأولاد بلحاج هم عائلة جزائرية ثرية تملك أراضي وأملاك بالمغرب، ساهمت كثيراً في تمويل الثورة.
· بداية المشاركة في العمل الثوري:
وفي هذه المرحلة , تابعت نشاطي ضمن خلايا جبهة التحرير تحت مسؤولية " لعمى يحي، وبوسيف الميلود المدعو متيو، وقطبي يحي " .
كانت مهمتي تتمثل في كتابة الرسائل وإنجاز قوائم المناضلين. وفي نفس الوقت نذهب ضمن أفواج المسبّلين لتخريب الطرق نواحي "سيدي عيسى" و"البويهي", ونقل الأسلحة والذخيرة من المركز الخلفي بـ "أوزين" إلى نواحي" سبدو" .
· بداية المشاركة الفعلية مع جيش التحرير الوطني:
بقيت في هذا النشاط إلى حين التحاقي بصفوف جيش التحرير في منتصف سنة 1957، بالمنطقة الأولى بالولاية الخامسة, والناحية الأولى للقسم الثاني .
كانت الولاية الخامسة تحت قيادة العقيد بومدين (هواري بومدين)، والمنطقة الأولى تحت قيادة الشهيد سي جابر, والناحية الأولى تحت قيادة الواد الجيلالي (صالح نهاري).
تدربنا على حمل السلاح بمركز "روبان" و"الحاسي طويل"، ثم تحولت إلى الكتيبة التي كان يقودها الشهيد مراح بغداد.
كنا نهاجم المراكز العسكرية عبر الحدود، نواحي "الكتاوت" و"عصفور" و"البويهي"، ونقوم بتخريب الأسلاك الشائكة (خط شال موريس), التي كانت في بدايتها إنشائها وغير مكهربة.
فمن منا لا يتذكر مرارة تلك الخطوط الجهنمية التي أحاطت فرنسا الاستعمارية بها الجزائر شرقا وغربا، لخنق الثورة, ومنعها من الاتصال بالخارج من أجل الحصول على الدعم المادي والمعنوي. وبعد أن تم استكمالها وكهربتها وزرعها بملايين الألغام المضادة للأفراد والجماعات، جهّزتها بوسائل الإنذار والرقابة ليلا ونهارا, وقد شكلت صعوبة كبيرة أمام وحدات جيش التحرير التي كانت تأتي من المناطق الداخلية للبلاد للتزود بالأسلحة والذخيرة من القواعد الخلفية بالحدود التي كانت تشتريها الثورة وتأتي عن طريق القطرين الشقيقين تونس والمغرب. وقد رأت قيادة الثورة الحل في إعداد فرق تنطلق من القواعد الخلفية لتزويد المناطق الداخلية بالأسلحة والذخيرة، أُطلق عليها اسم: كتائب النقل )Brigades de transport).
انتميت إلى الكتيبة الأولى، التي كان يقودها الشهيد مراح بغداد. وكانت تضم في صفوفها 110 جندي كلهم من الشباب قويي البنية, القادرين على تحمل الصعاب والأتعاب, جلهم من الجنود الفارين من الجيش الفرنسي، تم اختيارهم من المنطقة الأولى والثانية، وكانت تتشكل من ثلاث فصائل الفصيلة الأولى بقيادة المقامي عبد الله (عبد الله المازري)، والفصيلة الثانية بقيادة بومهدي موسى, والفصيلة الثالثة بقيادة الشهيد الديش العربي. والأفواج كانت بقيادة بارودي بوعلام، بن أحمد عبد القادر المدعو الجدان، طهراوي الشيخ, وثلاثة آخرون نسيت أسماءهم .
كان قائدنا الشهيد مراح بغداد رجل حرب محنك, أخذ التجربة عن حرب الفيتنام. كان يشرح لنا معنى حرب العصابات بكلمات بسيطة يقول لنا فيها: تجنّب مجابهة العدو، باغته واضربه بقوة وانسحب، وعلى الجندي أن يكون ماهرا مثل صنّار الحوت إذا وقع في الشبكة خرج منها سالما.
كانت مهمتنا الأولى تتمثل في تزويد المنطقة السابعة من الولاية الخامسة، والولاية الرابعة بالأسلحة والذخيرة . وبعد أن أتممنا الاستعداد ناحية "الحاسي طويل" (تويست), قمنا بمحاولات اختراق الخطوط الشائكة ( خط موريس), نواحي "البويهي" و"عين خليل" و"الكتاوت" جنوب "جبل عصفور"، فلم ننجح. وتوجهنا إلى ناحية "أوزين" , حاولنا الدخول على "مقورة"، فالخط في هذه الجهة كان لا يزال في بدايته غير مكهرب, لكون المنطقة سهبية يعتمد عليها العدو في مراقبتها على الرادار.
وبينما كنا نتخطى الحدود في ليلة، في إحدى المحاولات في هذه المنطقة السّهبية ، عثرنا على أحد الأشخاص ملقيا على الأرض، ملتفا في برنوس، فاعتقدنا أنه مواطن ميت جاء به العدو إلى هنا وقتله, لأننا كثيرا ما كنا نعثر على جثث مواطنين مقتولين بهذه الطريقة.
فأوصينا بعض المسبلين، الذين كانوا يرافقوننا إلى الخط، بدفنه عند عودتهم، ووضعنا أمامه علامة ليهتدوا بها, ولما وصلنا إلى الخط وجدنا فوج الألغام المتخصص الذي قد سبقنا مع الغروب قد أنجز مهمته بإحداث ثغرة في الخط.
وما أن شرعنا في التسلل، حتى خرجت علينا طائرة بالأضواء الكاشفة، وألقت علينا قنبلتين من الغاز، فتراجعنا بسرعة من الخط, وجرت الكلمة بيننا مثل البرق لوضع المناديل المبللة بالماء على الأفواه والأنوف.
وفي هذه اللحظة، كانت الدنيا كلها أضواء، وقوات العدو تتهاطل علينا من كل جهة . فوجدنا أنفسنا محاصرين. تسربنا عبر وادي مغورة، واخترقنا الحصار مخلفين وراءنا إثني عشر شهيدا.
وعند الحدود مررنا بالنقطة التي تركنا فيها تلك الجثة, فلم نجد لها أثرا, ففطنا بعد ذلك , بعد فوات الأوان, أن تلك الجثة ما هي إلا أحد الخونة من الذين كان الاستعمار يجندهم لمراقبة تحركات المجاهدين عبر الحدود، وكان بحوزته جهاز إرسال لاسلكي, وكان نائما فلما فاجأناه تظاهر بأنه ميت. والمصيبة التي تلقيناها كانت على يده . وكم أكلت السكين وشربت من دم ولحم هؤلاء الخونة الأنذال. حيث أن هذا الخائن، تم القبض عليه فيما بعد، وأقر بخيانته، ونال جزاءه.
بعد هذه المحاولة الفاشلة, عدنا من جديد إلى ناحية "تويست" التي قضينا بها عدة أيام. انضم إلينا بعض الجنود خلفا للذين استشهدوا والذين أصيبوا، وتوجهنا إلى "روبان" غرب "عصفور", حيث تمكنا من اختراق الخط المكهرب في المحاولة الأولى دون مشاكل. وعن طريق جبل الزوية في ليلة ممطرة ، كانت الرياح تعصف فيها بقوة ، بتنا نسير إلى أن وصلنا إلى "قعدة الجيش" جنوب "جبل دقلل". وكان ذلك في أواخر شهر نوفمبر سنة 1957. وظللنا في هذا اليوم نرتجف من البرد من جراء تبلل ملابسنا بالأمطار، وظلت طائرات العدو تحوم حول المنطقة للبحث عنا.
وفي المساء, تجمعنا وتوجهنا إلى قرية "مازر"، حيث وجدنا الخيط ( الأشخاص المكلفين بالإيصال) في انتظارنا خارج القرية بالمؤونة والبغال، فقُسم علينا الخبز و التين المجفف، وحملنا الأسلحة فوق البغال، وتابعنا السير نحو "جبل قرن زهرة"، جنوب سد "بني بهدل"، الذي أدركناه مع طلوع الشمس . واختفينا في قمته بين الصخور بعد أن سرَّحنا المسبلين مع بغالهم عند السفوح.
ويعتبر "قرن زهرة"، في ذلك الوقت، من الممرات الهامة لوحدات جيش التحرير الوطني بالمنطقة الأولى, لقربه من المداشر التي كانت تمد وحدات جيش التحرير بالمؤونة.
نزلنا مع هبوط الظلام إلى "قرية زهرة" ،التي سُمِّيت باسمها هذه القمة، فتزودنا منها بالطعام، وتابعنا الطريق نحو سبدو إلى "جبل عين الحمار"، ولم نتمكن من حمل الأسلحة على البغال . فعين حمار كانت منطقة جرداء، غاباتها محروقة وخالية من السكان ، ولا نستطيع إخفاء الدواب فيها خوفا من الطائرات الاستكشافية.
وبينما كنا نسير في هذه الليلة، توقفنا فجأة في منتصف الطريق، حين علمنا أن أحد الجنود ضيع جزءا من حمولته، يتمثل في ماسورة احتياطية وبعض اللوازم الخاصة بمدفع رشاش أم ج 42، سقطت منه في الطريق، فرجع صاحبها للبحث عنها مع جنديين آخرين يعرفان المنطقة ، فوجدوها عند أحد منابع المياه، كنا قد توقفنا عندها، وكنا قد خلفناها بمسيرة حوالي ساعة ونصف, والتحقوا بنا في "عين الحمار".
بقينا متنكرين في شعاب هذه المنطقة، وظلت الطائرات الاستكشافية كعادتها تحلق فوق رؤوسنا, في فترات متقطعة حتى المساء.
وعند الغروب, توجهنا إلى "قرية مقنافة"، شرق "سبدو" , التي قضينا بها حوالي ساعتين للراحة وتناول الطعام. واستأنفنا بعدها السير إلى "جبال أولاد حليمة". وكانت هذه الجهة تعد هي الأخرى من الممرات الهامة, وقلعة من القلاع الحصينة لجنود جيش التحرير في المنطقة الأولى بشعابها وغاباتها الكثيفة. وقد ظللنا في هذا اليوم نتنقل بحرية من مكان إلى مكان، تحت أشجار الصنوبر الكثيفة, نسأل عن الرفقاء من الفرقتين اللتين كانتا تعملان في الناحية بقيادة الشهيد القوص، والأشقر الطيب. وفي المساء، شددنا الأحمال على ظهورنا, وقادنا الدليل نحو "جبل عسّاس"، ذلك الجبل الشامخ الذي شهد العديد من المعارك البطولية التي خاضها جنودنا الأبطال ضد قوات الجيش الفرنسي.
وكانت آخر معركة جرت هناك، تلك المعركة الكبيرة التي قضى فيها المجاهدون على عدد كبير من قوات التيرايور الاستعمارية. وقد تحصنّا في قمم وشعاب هذا الجبل باحتراز كبير، لعلمنا بالقَنبلة اليومية التي كان يتعرض لها بالطائرات. وقد ظلت طائرات 26 B والجاغوار تقنبل حولنا طول النهار، فنجاَّنا الله من شرّها, ولم يُصب أي واحد منا بسوء .
وبعد هدوء العاصفة، انحدرنا مع الظلام إلى أحد الدواوير، ناحية "القور"، تزوّدنا منها بالطعام، وحملنا الأسلحة على الإبل.
وحدث في هذه اللّيلة أن هرب لنا جمل كنّا نحمل فوقه الذَّخيرة, وكان أعور, أصابه أحد الجنود الفرنسيين بطلقة نارية، حسب رواية صاحبه. فطاردناه على حصان, وأمسكنا به، وأنزلنا عنه الحمولة، وتابعنا السّير نحو الشرق , وكدنا نسقط، في إحدى الليالي, في كمين نصبه لنا العدو في أحد الممرات. فبينما كنا نحاول اجتياز الطريق الرابط بين سيدي بلعباس " بيدو راس الماء" اشتممنا رائحة التّبغ، واكتشفنا على إثرها عدة دبابات للعدو مغطاة بالأغصان، رابضة أمام أحد الجسور, ودون أن تشعر بنا, تراجعنا بهدوء، وتخطينا الطريق أسفل الجسر، عندها تفطن لنا العدو, وأخذ يطلق علينا النار، فابتعدنا بسرعة عن مرمى نيرانه. وتتبعتنا الدبابات بالقصف إلى مسافة بعيدة. فأدركنا أن العدو يكون قد عرف وجهتنا, وسيعمل لا محالة على سد طريقنا و محاصرتنا في اليوم التالي. فقررنا تمديد المرحلة حتى نصل إلى الجبال الحصينة التي أشار بها علينا الدليل الذي كان يقودنا، والتي كانت تفصلنا عنها مسافة طويلة. وكان من اللازم علينا، ونحن نئن تحت الأثقال، قطع هذه المسافة في ظرف الـ 5 ساعات التي كانت تفصلنا عن النهار. فألغينا الاستراحات، وأخذنا نسرع في السير بكل ما نملك من قوة. وبجهود جبارة, استطعنا الوصول إلى هذا الجبل مع طلوع الشمس، مخلفين وراءنا قوات العدو بمسافة كبيرة، قائمة بعمليات تمشيط بحثاً عنا.
وصلنا إلى الخشبة ناحية سيدي بلعباس, وكانت هذه الناحية تعتبر نقطة ارتكاز، ومفترق طرق بالنسبة لوحدات جيش التحرير الوطني التي تمر بالمنطقة الخامسة, وذلك لموقعها الحصين، وما تتمتع به من غابات كثيفة. قضينا بها يومين للراحة, ثم استأنفنا السير نحو المنطقة السادسة .
في كل المراحل التي قطعناها، كنا نقضي النهار بالمناطق المسماة ـ محرمة ـ التي دمرتها القوات الاستعمارية، وزجت بمن تبقى من أهلها في المحتشدات, ونسير في الليل عبر الأماكن التي يوجد بها السكان الذين كانوا يمهدون لنا الطريق، ويمدوننا بالطعام، إلى أن وصلنا إلى المنطقة السادسة نواحي معسكر. فقررنا أن نقضي يوما بأحد الدواوير، ليتسنّى لنا تكميد أقدامنا بالحنة، التي انسلخت من جلودها بفعل الأثقال والسير المتواصل.
واتفق في هذا اليوم أن وقعت معركة بالقرب منا، بين وحدة من الرفاق ودورية عسكرية للعدو.
انسحبنا من الدوار، وأربطة الحنة على أرجلنا، واتجهنا إلى جبل قريب، واتخذنا فيه مواقع دفاعية، استعدادا لمواجهة الموقف، إن استدعت الضرورة. واتسع ميدان هذه المعركة. حيث كانت الأوامر وطبيعة المهمة تفرض علينا تجنب الاشتباكات مع العدو قدر المستطاع، إلاّ في حالة ضرورة الدفاع، حتى تصل الأسلحة إلى أهدافها سالمة . وبقينا نشاهد من بعيد لهيب المعركة والغيظ يعصر قلوبنا عصرا للظروف التي لم تسمح لنا بمساندة الرفاق.
كان سبب هذه المعركة أو هذا الكمين، أن دورية عسكرية للعدو جاءت إلى أحد الدواوير، وأخذت في خطف الدواجن، وترهيب النساء والأطفال بإطلاق النار, فتصدت لها وحدة من جنودنا كانت موجودة قرب المكان، وسدّت عليها الطريق من كل الجهات عند مغادرتها الدوار.
فأحرقت لها سيارات ج م س، وسيارة جيب، وقضت على عدد من جنودها، واستولت على كمية من الأسلحة، وانسحبت قبل وصول الانجادات التي تهاطلت بعد حين على الميدان. وأخذت الطائرات تقنبل شعاب ووهاد المنطقة، بلا تمييز. في حين كانت طائرات الهليكوبتر تروح وتجيء لنقل القتلى والمصابين.
تابعنا السير بعد هذه المعركة نحو "تخمارت", وكانت هذه الليلة باردة جدا، تجمدت فيها كل الأشياء من قوة الجليد.
وأتذكر في هذه الليلة، أن أحد المجاهدين قد تمزق حذاءه، وبقي يمشي حافيا, فنزع أحد المواطنين المرافقين لنا حذاءه (سبردينة)، وأعطاه إياه .
وعلمنا في هذه الليلة، أن العدو كان ينصب لنا كمينا في أحد الممرات التي كنا سنمر منها، فغيّرنا الطريق، وبقينا نسير عبر مسالك وعرة طول الليل دون توقف، إلى أن وصلنا إلى أحد الدواوير مع طلوع الفجر. وقبل أن نحط الأحمال عن ظهورنا، سمعنا هدير الدبابات والسيارات العسكرية.
وشاهدت الحراسة من بعيد، قوات كبيرة للعدو آتية في اتجاهنا، فانسحبنا في الحين، مع مجموعة أخرى من الرفاق كانت موجودة هناك، وباقي سكان ذلك الدوار الذين فضلوا الانسحاب معنا، تاركين أكواخهم وما يملكون. فحزّ هذا في نفوسنا كثيرا، نساء وأطفال عراة، يرتعشون من البرد، يمشون حفاة الأقدام على الثلج والجليد، فأخذنا نخلع من ملابسنا القليلة، ونلف بها الأطفال، وبقينا نسير إلى حوالي منتصف النهار، وساعدنا على ذلك الضباب الذي كان مخيماً على هذه الجهة . وصعدنا إلى قمة جبل شاهق، وقضينا بها ما تبقى من النهار, مقتسمين الزّاد القليل والملبس مع تلك العائلات. وفي هذه الأثناء، كانت قوات الاحتلال الفرنسية تقوم بترحيل سكان هذه النواحي بالقوة، وجمعهم في مراكز التجمع لقطع الصلة بينهم وبين الثوار، مثلما كانت تفعل في باقي البلاد لإدراكها أن سكان الأرياف هم العنصر الأساسي لحياة الثورة.
لقد مشينا ثلاث ليالي، دون أن نعثر على أي دوار أو خيمة واحدة، إذ لم تبق سوى مضارب الخيام، وبقايا الأكواخ والأطلال، شاهدة على وحشية الجنود الفرنسيين.
ولم نجد في هذه الفترة ما نسد به الرمق سوى ما نجده من بلوط في الغابات، وقد تاه بنا الدليل في إحدى الليالي المثلجة، ولم نعرف الإتجاه الذي نسلكه، فاختبأنا في إحدى الشعاب، وبقينا نترقب ما سيأتي به النهار.
ومع الصباح، سمعنا ضوضاء، وشاهدت الحراسة مجموعة من المدنيين مصحوبة بالكلاب في إحدى الهضاب القريبة، فذهبت إليهم مجموعة من الجنود وأتت بهم خوفا أن يكونوا من الخونة والجواسيس.
وبعد التحقيق معهم، تبين لنا أنهم مواطنين من سكان أحد الدواوير الموجودة بمراكز التجمع، خرجوا خفية لاصطياد الأرانب لتقتات منها عائلاتهم، فأخذناهم معنا للاحتياط ، وتوجهنا لأحد الدواوير المتبقية التي دلونا عليها، وكان الجوع قد أخذ منا كل مأخذ، أربعة أيام لم نذق فيها النعمة. فاستقبلنا مسئولو الناحية وسكان تلك الدواوير التي هي عبارة عن أكواخ مغطاة بنبات الديس بالطعام وكل ما يلزم، وقضينا بينهم يومين، استرجعنا فيها نصيبا من قوتنا، واستبدل البعض منا أحذيتهم التي تمزقت، ثم تابعنا المسيرة نحو المنطقة السابعة.
وصلنا إلى جبال "تافرنت"، نواحي فرندة، على أعقاب عملية مسح إجرامية قامت بها قوات الاحتلال الغاشمة ضد سكان المنطقة، منتقمة منهم للضربات التي كانت تتلقاها على أيدي جنود جيش التحرير. فأحرقت الدواوير، وقتلت النساء والأطفال، وبذرت الأقوات، وقضت على المواشي.
ووجدنا بعض المواطنين لا يزالون قائمين بدفن الضحايا, والبحث عن المفقودين عبر الأودية والشعاب, وقد قصّوا علينا كيف كان الجنود الفرنسيين يشعلون النار في الأكواخ على النساء و الأطفال الصغار. من ذلك أن امرأة كانت في حالة وضع، أُحرق عليها الكوخ مع صغيرها الذي لم ير النور.
اتصلنا بمسئولي المنطقة السابعة، وعلى رأسهم سي بوسف والسي طارق مسئولي المنطقة، وسلًّمنا لهم كميّة من الأسلحة خاصة بالمنطقة، تتمثل في مدفعين رشاش من نــوع : أ م, جي 42، وعددا من البنادق من نوع : (بلج)، وكميّة من الذخيرة الحربية والألغام المضادة للدبابات والسيارات العسكرية. وبقيت لنا المرحلة الأخيرة للوصول إلى الولاية الرابعة .
وفي هذه الأثناء جاءتنا أخبار محزنة عن الفرقة الثانية التي خلّفناها بالحدود تستعد للالتحاق بنا، لقد أخفقت في مهمتها، ناحية "سبدو"، بعد أن تمكنت من اختراق خط موريس، ووصلت إلى قرية "مقنافة" في ليلة كانت تتساقط فيها الثلوج، فقرر قائدها الشهيد عبد العزيز أن يقضي النهار بجنوده بالدشرة لاسترجاع قوتهم، وبذلك ارتكب غلطة كبيرة كلفته ثمنا باهظا . فالدشرة كانت قريبة من المدينة وتقع بين الطرق , وموقعها مكشوف لا يصلح لا للدفاع ولا للانسحاب, إذ يوجد تحت منحدرات جبلية جرداء.
وبينما كانت الفرقة تأخذ أماكنها في بيوت الدشرة مع الصباح ، شاهدت الحراسة دبابة للعدو تمر بالطريق أسفل الدشرة، فظنت أنها الدبابة المعتادة المرور كل يوم مع هذا الطريق لإلقاء المناشير، وما هي إلا لحظة حتى أدارت مدفعها وأخذت في قصف الدشرة . وفجأة وجدت الفرقة نفسها محاصرة من كل جانب من طرف القوات الفرنسية .
فدارت المعركة بين الطرفين ودافع جنود جيش التحرير باستماتة، إلى أن نفذت ذخيرتهم، واستشهد الكثير منهم وألقي القيض على المصابين منهم، وتمكن من بقي منهم سليماً من الخروج من الحصار. هذا ما علمناه بعد عودتنا للمنطقة، وكانت وشاية من طرف أحد الخونة.
بعد هذه الأخبار المحزنة، التي تركت في نفوسنا أثرا بليغا، تابعنا الطريق نحو الولاية الرابعة، فتخطينا وادي مينة، الذي وجدناه فائضا، فتخطيناه بصعوبة. وبعد مرحلتين وجدنا مجموعة من المجاهدين في انتظارنا بإحدى المزارع المهجورة، فسلَمنا لها الحصة التي كانت تتمثل في عدد من المدافع الرشاشة السالفة الذكر, والبنادق والذخيرة الخاصة بالمدافع الرشاشة من نوع : 7 ـ 12 (دوز سات) . تلك المدافع التي كان يستولي عليها جنود جيش التحرير في معارك جبال الونشريس الشامخة. ثم رجعنا والفرحة تملأ قلوبنا بعد أن أدّينا مهمتنا بنجاح .
هذه المهمة التي كان كل واحد منا يشعر بمسؤوليتها الثقيلة, ويعمل كل ما في وسعه من جهد وتضحية لإيصالها إلى أصحابها سالمة . فالعدو كان يتتبع خطانا في كل مكان، لقد كان على علم بنا وبوجهتنا منذ الليلة التي اخترقنا فيها الخط, وكلما حاول سد طريقنا، كنا نتخطاه ونفلت من عملياته وكمائنه.
وفي العودة، مررنا على "الخشبة" نواحي سيدي بلعباس, حيث أخذنا معنا مجموعة من الطلبة كانت الجبهة قد بعثت بهم من مدينة سعيدة إلى هذه الناحية في انتظار أخذهم إلى الخارج لمتابعة دراستهم عن طريق المغرب. وأخذنا معنا كذلك عددا من الألمان (اللفيف الأجنبي)، كانوا قد فرّوا من الجيش الفرنسي من مدينة سيدي بلعباس، والتحقوا بجنود جيش التحرير في الجبال , وقررنا الدخول إلى المغرب عن طريق "مغورة" لكون الخط في هذه الجهة كان لا يزال غير مكهرب.
لكن المشكل الكبير أنه لم يكن يوجد لدينا مقص (سزاي) لقص الأسلاك الشائكة، ولا واحد منا يعرف أسرارها, فأخذنا نسير بجانبها لعلنا نجد ثغرة نمر منها، لكن دون جدوى، ووقعنا في مشكل خطير : هل نستمر في السير إلى جانب الخط إلى ما لا نهاية، أم نرجع على أعقابنا؟ فالوقت قصير، والمنطقة عبارة عن سهب من نبات الحلفاء والشيح، محاطة بالقواعد العسكرية، مما يجعل الاختفاء بها مستحيلا .
وهنا تقدم أحد الألمان، وطلب من قائد الكتيبة أن يسمح له بتجريب وضع ثغرة في الخط, فرفض سي مراح في أول الأمر، ثم سمح للألماني بعد أن أقنعه هذا الأخير بأنه يعرف أسرار هذه الخطوط. فناولناه سكينا حربية تطوى، فتقدم بها إلى الخط, وأخذ يقص بها الأسلاك بواسطة الضغط , ويبحث بها عن الألغام. وكلما يجد لغما يضع عليه علامة بيضاء ( قطن). واستطاع بعد حوالي ساعة ونصف، أن يجعل لنا ممرا تسربنا منه الواحد تلو الآخر, ولما ابتعدنا عن الخط بحوالي 200 مترا، اكتشفتنا وسائل الرادار، وأخذ العدو في إمطارنا بالقنابل. في حين أخذت الدبابات تتحرك نحو الحدود لسد الطريق أمامنا، فتفرقنا أفرادا وجماعات, واخترقنا الحدود بعد أن استشهد منا ممرض الكتيبة.
وفي مركز " أوزين " استقبلنا مسؤولي المركز وكذا سي صالح قائد الناحية الثانية, وقدم لنا الراية الوطنية باسم القيادة, وكان ذلك في : 8 جانفي سنة 1958 .
بعد فترة من الراحة بالمراكز الخلفية بالحدود, أخذنا نحضر للمرحلة الثانية التي ستقودنا إلى الولاية الرابعة, حاملين مدفع هون عيار 80 مم وكمية كبيرة من ذخيرته، بعد أن تم تدريب تسعة جنود على استعماله، كنت من ضمنهم تحت مسؤولية بوتويزغة، الذي كان من رماة الأسلحة الثقيلة في صفوف الجيش الفرنسي قبل فراره ، والتحاقه بكتيبتنا التي تقلصت إلى فصيلة من 35 جندي بقيادة لمقامي عبد الله (عبد الله المازري), بعد إصابة قائدها الشهيد مراح بغداد بجراح مع كاتبه نيقرو محمد, الذي بترت رجله في إحدى محاولات عبور الخط, وتسريح الجنود الذين كان يفوق سنهم الأربعين سنة, مع بقائهم في الخدمة بالمراكز الخلفية, وتحويل البعض إلى فرق أخرى ,على إثر قرار القيادة ببقاء الفصيلة بالولاية الرابعة لاستعمال هذا السلاح.
بعد أن استكملنا الاستعداد , قمنا بعدة محاولات لعبور الخط لكن دون جدوى . ففي كل محاولة, كنا نفشل بحكم أن الجيش الفرنسي آنذاك كان قد عزّز مراقبة الحدود بإمكانيات كبيرة يصعب اختراقها حينذاك. قررت القيادة دخول "بوتويزغة" بمدفع " الهون" مع بضعة جنود عن طريق" بوعرفة" بالمنطقة الثامنة , وباقي الفصيلة بقيادة عبد الله المازري, تدخل عبر معابر المنطقة الأولى بالذخيرة وبعض الأسلحة الخفيفة بحيث يكون اللقاء بالولاية الرابعة في نقطة معينة.
توجهت فصيلتنا التي كانت متمركزة بـ "دار برطيلو" (مركز خلفي بالحاسي طويل، كان تحت مسؤولية محمد عدة )، نحو مركز أوزين بالجنوب , ومن هناك إلى أحد الدواوير بـ "سهب خيلين" القريبة من الحدود.
· رؤيا حق:
في تلك الليلة , رأيت في المنام أني خرجت من الخيمة التي كنت بها إلى خيمة مجاورة , فهاجمني كلب أسود , ونهشني من رجلي اليمنى , وسال الدم. ولم أعر هذه الرؤيا أي اهتمام في حينها ، لكنها بقيت راسخة في ذهني بعد أن بترت رجلي في الليلة الموالية.
في اليوم التالي، ومع غروب الشمس، كانت فصيلتنا جاهزة للانطلاق تجاه خط شال وموريس, ناحية "سهب الطاقة" التي تبعد حوالي 12 كلم عن الدوار الذي انطلـقنا منـه, و القريبة من القاعدة العسكرية الفرنسية الإستراتيجية بـ "البويهي" التي تشرف على مراقبة المنطقة السهبية بواسطة الرادار . و كان من المقرر الدخول عبر ممر "عين خليل" نحو جبل "تنوشفي" الشاهق, وكان ذلك ليلة 16 أفريل 1958.
· بتر رجلي اليمنى:
بعد وصولنا إلى الخط, وجدنا فوج الألغام قد أنجز مهمته بفتح الثغرة في الأسلاك. وبحذر شديد، بدأنا نتسرب الواحد بعد الآخر. وفي هذه اللحظة، انفجر لغم تحت قدم الجندي بن الشاذلي قويدر, وأصيب جندي آخر في وجهه بشظايا الأحجار المتطايرة بفعل الانفجار، اسمه ضياف عبد القادرالمدعو بودغن , وكان هذان الجنديان ينتميان إلى الفوج الأول . تم سحبهما من الأسلاك الشائكة وسار بهما بعض المسبلين نحو " سهب خيلين" . وقد أدى هذا الانفجار إلى تفطن العدو, وأخذ في إطلاق الأضواء الكاشفة من قاعدة "البويهي" القريبة من موقع العبور, في الوقت الذي اجتاز فيه الفوج الأول الخط الأول, وأخذ الفوج الثاني في العبور. انفجر لغم ثاني تحت قدمي فسقطت على الأسلاك الشائكة، فصارت أشلاء ، أخرجوني بسرعة من الخط بعد أن نزعوا الحمولة والسلاح، وحملني جنديان من فوج الألغام, وسارا بي حوالي 200 متر عن الخط, والدماء تنزف من قدمي التي سارت أشلاء ومن فمي المصاب بشظايا الأحجار . ولما شاهدا التحركات الكثيفة للقوات الفرنسية القادمة من كل صوب, نحو الموقع، فصار الليل نهارا بفعل الأضواء الكاشفة مع إطلاق نيران المدفعية الثقيلة وأسلحة 7 / 12 تجاه الفصيلة التي كانت قد نجحت في اجتياز الخط، طرحاني أرضا, وهربا.
· بطولة وشجاعة منقطعة النظير:
فأخذت أناديهم مستعطفا إياهم أن يقتلوني ولا يتركاني يقبض علي العدو حيا. وفي الوقت الذي كانت الدبابات تقترب مني, اختبأت بين نبات الحلفاء إلى أن اجتازت نحو النقطة التي عبرت منها الفصيلة , فقطعت من قميصي قطعة ربطت بها ساقي بعد فوات الأوان ، لتخفيف نزيف الدم.
بقيت أزحف على بطني مرات، وعلى ركبتي ويداي مرات أخرى، إلى أن تخطيت الطريق المار بين "البويهي" و "حاسي سيدي امحمد". عاقدا العزم للوصول إلى الغابة لعلي أجد قطعة خشبية أرتكز عليها لأصل إلى " مركز سهب خيلين" لكوني أعرف مسالك المنطقة جيدا. لكن قوتي خارت بعد أن قطعت مسافة كبيرة, ففقدت الوعي, ودخلت في غيبوبة تامة لم أفق منها إلى أن استيقظت والألم يعصرني. فوجدت نفسي ملقى على الفراش، في قاعة مملوءة بأشخاص ممددين على الأرض بالضمادات. ونظرت إلى ساقي، فوجدتها مبتورة يلفها الضماد, وضماد آخر على فمي.
· الوقوع في أسر العدو:
خُيل إلي أني بإحدى المصحات بالمراكز الخلفية , قبل أن أشاهد الشرطي الفرنسي بلباسه الرسمي، يقف حارسا على الباب. فشعرت كأن تيارا كهربائيا سار في جسدي, فتمنيت الموت فهو أفضل من الوقوع في يد العدو.
بعدها رأيت جنديين من فصيلتنا ممددين على الفراش والجبس على صدر وذراع أحدهما وهو الميلود بوسعيدي والآخر لم أتذكر اسمه, ألقي عليهما القبض في جبل " تنوشفي" في المعركة التي خاضتها فصيلتنا مكرهة مع قوات الجيش الفرنسي الذي تتبع خطاها من خـط موريس إلى جبــل "تتوشفي", و حاصرها من كل الجهات .
فخاضت معه معركة حامية الوطيس، طول النهار، إلى أن نفذت ذخيرتها، و استشهد منها عدد من الجنود, وأُلقي القبض على الجنود المصابين، وخرج الباقي من المعركة مع ظلام الليل, وفشلت المهمة, مع الأسف الشديد.
بقيت في هذه القاعة ـ السجن ـ بمستشفى تلمسان حوالي شهرين مع بقية المصابين المقبوض عليهم, تحت حراسة الشرطة الفرنسية.
· أخلاق المجاهد مع الأسير:
وقبل انتقالي إلى سجن تلمسان ، سُلّمت إلى رجال الدرك الفرنسي, فقادوني إلى محكمة تلمسان للتحقيق، حيث تم لاستنطاقي من طرف القاضي بواسطة مترجم، وقد اعترفت بكل ما هو مسجل في محضر التحقيق وفي الختام قال لي القاضي بواسطة مترجم، " أنظروا كيف أن فرنسا التي رفعتم السلاح في وجهها تجدكم في حالة الهلاك وتنقد حياتكم، وأنتم الفلاقة إذا وقع بين أيديكم جندي فرنسي تقطعون رأسه بالشاقور " فقلت " إن هذا ليس صحيح، فنحن يمنع علينا أن نمس الأسير بسوء، كما أننا نعلم أن الجنود الفرنسيين الذين يقعون في الأسر يسلمون للصليب الأحمر عن طريق تونس أو المغرب ".
· تعذيب ثم سجن أشبه بالجحيم:
وفي السجن استقبلني الحرس بالصفع والركل والضرب، طوال مدة إجراءات الدخول
بعدها قادوني إلى القاعة رقم 2 الخاصة بالمساجين السياسيين، فاستُقبلت بحرارة من طرف مساجين هذه القاعة الذين غمروني بعطفهم, وبكى البعض منهم لحالتي التي كان يُرثى لها بسبب الضرب الذي تلقيته من الحراس، ولباسي العسكري الرث المخضب بالدماء. فألبسوني ألبسة نظيفة, وأحاطوني برعايتهم طوال المدة التي قضيتها بينهم في هذه القاعة, والتي دامت حوالي شهرين قبل نقلي إلى سجن وهران, مع مجموعة كبيرة من المساجين, حيث لقينا الحساب والعقاب, أثناء إجراءات الدخول إلى هذا السجن، من طرف الحراس الذين لا رحمة في قلوبهم . فنقلوني إلى القاعة رقم 6، حيث التقيت بها بـ فاصلة عبد المجيد الذي أُلقي عليه القبض, وهو مصاب وبُترت ساقه هو الآخر. فبقينا مع بعض، ثم نُقلنا إلى المعتقل العسكري بـ "أولاد ميمون" في شهر ديسمبر من سنة 1958.
والفرق بين السجن والمعتقل العسكري كبير، لكن السجن أرحم رغم قساوة الحراس أثناء إجراءات الدخول , وأثناء التفتيش. أما المعتقل فهو أكثر من جحيم. لن ننسى أبدا ما فعله بنا الحركة, وخاصة الكبران حليمة.
في هذا المعتقل, الجهنمي, وضعونا في بيوت مبنية بالطوب, سقفها من الصفيح (الزنك)، جحيم في الصيف، وزمهرير في الشتاء. ننام على مبلطة بالإسمنت دون فراش ولا غطاء.
والأكل: نصف رغيف خبز، وطاس حساء للفرد الواحد، مرة في اليوم على الساعة الثانية عشرة.
· المنافقون والحركى أشدّ على المجاهدين من العدو:
في الصباح, كانوا يخرجوننا بالضرب والركل إلى الساحة، يضعون المعطوبين منا أمام جدار تحت منصة الحراسة (القريطة)، تحت أنظار الحارس، نضع حجرا فوق حجر ندق به طول النهار. والمعتقلون الأصحاء منا، يذهبون بهم إلى الأشغال الشاقة بالمعتقل، ومن حين لآخر، تأتي إلينا الكابران حليمة وتبادرنا بالضرب والركل والشتم وتقول : "دقو دقو الحجر", وتستمر في إذلالنا بوضع دلو في عنق أحدنا، وتبعث به، وهو برجل واحدة، لجمع أعقاب السجائر من ساحة المعتقل بالركل والصفع، وهي تقول : " احذر أن يطأ قدمك على اللّغم المكتوب عليه كلمة الحرية، فإنه سيقطع رجلك الأخرى" . وما فعلته بنا تلك الحركية الفاجرة والحركي الطاهر القرع, وبقية الحركي لم يفعله بنا الجنود الفرنسيون. الذين كانوا يعطوننا السجائر ، خفية في بعض الأحيان.
· الخروج من السحن بعد الإذلال والإهانة:
ظللنا على هذا الحال في هذا المعتقل المعروف بقساوته مدة. وفي مساء يوم من أيام فصل الشتاء أواخر سنة 1958، جاءنا الحركي الطاهر لقرع مع بعض الجنود، وبيده غزّال الزبوج الذي لا يفارقه (عصى رقيقة)، برفقة جنود، وأخرجونا من الزنزانة، نحن، تسعة معطوبين: المتحدث، فاصلة عبد المجيد، دفافني محمد، قويدر الملحاوي وخمسة آخرين نسيت أسماءهم. قادونا إلى مكتب، وغزّال الحركي في ظهورنا، فأدخلونا الواحد بعد الآخر.
فوجدنا به امرأة وضابطا فرنسيا ومترجما.
سألونا عن عنوان سكن عائلاتنا وقالوا لنا: إن الدولة الفرنسية قررت إطلاق سراحكم, وغدا سيوصلكم الجيش إلى عائلاتكم، بشرط أن يأتي أحد من أفراد العائلة إلى أقرب مركز للمكتب الثاني للتوقيع على ضمانكم, ويأتي يوميا للتوقيع على حضوركم، فلم نصدق ذلك ظنا منا أنهم سيخرجوننا من المعتقل ليقتلونا، كما كانوا يفعلون مرارا ببعض المعتقلين بالمعتل العسكري , ويقولون عنهم أنهم حاولوا الفرار.
ولكون عائلتي التجأت بكاملها إلى المغرب، فقد أعطيتهم عنوان أحد الأقرباء كان يسكن بحي بودغن بتلمسان وهو الطرشاوي عبد القادر الذي التقيت به في سجن تلمسان، وقبل خروجه من السجن أعطاني عنوانه، وأوصاني في حالة إطلاق سراحي من السجن في يوم ما أن أذهب عنده لكون، عائلتي لاجئة بالمغرب.
و في اليوم الموالي، أركبونا شاحنة عسكرية GMC، وتوجهوا بنا إلى تلمسان, ومن ثم، أوصلوا كل واحد إلى عائلته, وبقيت أنا، فذهبوا بي إلى مركز للمكتب الثاني بالمنصورة أسفل حي بودغن، فأدخلوني على الضابط المكلف الذي سألني بعربية دارجة عن عنوان عائلتي، فأخبرته أن عائلتي التجأت إلى المغرب لكون منطقتنا أصبحت محرمة. وأن لي أحد الأقرباء يسكن بحي بودغن هنا في تلمسان اسمه: الطرشاوي قويدر, فقال لي: " اذهب إليه وقل له أن يأتي إلى المكتب هنا مرفقا بوثائقه الشخصية ليوقع على ضمانك عنده, وعلى أن يأتي يوميا ليوقع على حضورك. فقلت له: "لا أستطيع برجل واحدة الصعود إلى حي بودغن وطلب المساعدة منه". فقام من مقعده, وضربني بصفعة قوية أسقطني أرضا, وزادني بركلة في البطن كادت أن تقضي علي, وقال لي: أتريد أن أحملك على ظهري؟ يا كلب امشي وإلا سأعيدك إلى السجن . فحملت نفسي بصعوبة, وخرجت أركض على رجل، وتوجهت إلى إحدى ورشات البناء كانت قريبة من هناك، وبها مجموعة من العمال, فتوقف الجميع عن العمل مشرئبين نحوي، وأنا في تلك الحالة فحييتهم وقلت لهم أني جندي من جيش التحرير الوطني ألقي علي القبض من طرف الجيش الفرنسي, وقد أطلق سراحي, ولي قريب يسكن في بودغن أريد الذهاب إليه, وطلبت منهم المساعدة ، فنطق أحدهم وقال لي أنه يعرف المعني ولكنه غير موجود فقد ذهب إلى وهران عند أصهاره, ولن يعود قريبا ، وطلبت منهم إن كان في استطاعتهم إيصالي إلى أحد أفراد جبهة التحرير الوطني، فركبهم الخوف، وتفرقوا من حولي ولسان أحدهم يقول: " ارحل من هنا احنا خاطينا هذا البوليتيك" .
· العودة إلى السجن:
فرجعت على أعقابي ولسان حالي يقول : " أين أذهب الآن؟ هل أبقى أهوم على رجل واحدة في الشوارع ؟", والجوع يكاد يقتلني, وكل من أسأله المساعدة, وأفصح له عن حقيقتي, يهرب مني.
ففضلت الرجوع إلى مكتب ذلك الضابط. فلما رآني قال لي والشر يتطاير من عينيه: "أين هو قريبك ؟" فقلت له أنه رحل إلى وهران، فقال لي:" إذن ستعود إلى السجن". وتناول سماعة الهاتف, وأخذ يتحدث بالفرنسية. ففهمت أن الحديث كان يدور حولي. وما هي إلا دقائق, حتى توقفت سيارة جيب أمام البـاب, فأركبوني بها, وانطلقت بي مع غروب الشمس إلى ثكنة " قرمالة " وسط مدينة تلمسان, وأدخلوني إلى زنزانة مظلمة, وأغلقوا الباب. وبعد لحظات، فُتح الباب وقدموا لي الأكل الذي كان شيئا من المقرون مع قطعة لحم. فرجعت في الروح بعد جوع كاد يقتلني.
وفي صبيحة اليوم الموالي، ذهبوا بي إلى دار جنرال. وهو مركز للتعذيب (مقر القطاع العسكري لولاية تلمسان حاليا). فأدخلوني زنزانة ضيقة تشبه بيوت الكلاب، لا يستطيع الفرد أن يقف فيها أو أن يمد رجليه.
بت في هذا القفص الجهنمي ليلة واحدة كأنها شهور, سمعت فيها بكاء و أنين المقبوض عليهم نتيجة التعذيب. في الصباح، فُتحت تلك الأقفاص, فأخرجونا منها وأوقفونا أماما. في الوقت الذي كان فيه أحد الضباط الكبار من الجيش الفرنسي يتفقد المحبوسين ويطرح عليهم الأسئلة, وقبل أن يصل دوري لم أتحمل الوقوف فسقطت أرضا, فضربني أحد الجنود بركلة.
وأمرني بالوقوف. فرآه ذلك الضابط ونهره وقال له : أتركه. فجاءني وسألني بواسطة المترجم الذي كان برفقته: " من أين أتوا بك ؟ وما هي تهمتك ؟". فقلت له : أني كنت في معتقل أولاد الميمون , وقد تم إطلاق سراحي, وليس لي عائلة هنا في الجزائر أذهب إليها, فهي موجودة بالمغرب , فأتوا بي إلى هنا , وأظهرت له بيان التسريح.
· مخازي الحَرْكَة والمنافقين:
فثار غضبه على مرافقيه، وأمرهم بنقلي من أمام ذلك الجحر، ووضعوني على كرسي تحت شجرة بها حبال متدلية على حوض ماء عميق، وكان ذلك المكان مخصص للتعذيب. فأتوا لي بالأكل، ثم استدعاني ضابط تلك الثكنة، وأخبرني بأنه مكلف من السلطات العليا بوهران. ومن ثم نقلوني إلى ثكنة السايس, ووضعوني مع مجموعة من الجنود الجزائريين، أغلبهم من الذين شاركوا في حرب الفيتنام حسب ما يدور بينهم من حديث عن أحداث هذه الحرب. أخذوا يسألونني عن إصابتي (بتر رجلي), وعن وجودي بينهم. فكنت أجيبهم بأني مغربي كنت أعمل في ضيعة (فيرما) عند الكولون يسكنها الجيش الفرنسي, فوقع لي حادث : دهستني سيارة عسكرية. فأُخذت إلى المستشفى حيث بُترت رجلي, ومن هناك, أُتي بي إلى هنا في انتظار ذهابي إلى المغرب, وذلك خوفا من أن يمسوني بسوء.
لقد كنت أسمع بعضهم يتحدث عن العمليات العسكرية التي شاركوا فيها ضد جنود جيش التحرير الوطني، وعن زملائهم الذين سقطوا فيها على يد جيش التحرير الوطني, ويتوعدون بالانتقام لهم, إن سقط أحد الفلاقة بأيديهم سيقطعونه إربا إربا ويلقون به في النار. والحقيقة أن البعض الآخر منهم كان متعاطفا مع الثورة ، ويسبون فرنسا التي كانوا يطلقون عليها اسم فافا. ونفس الرواية رويتها للجنود السنغاليين.
أحد الجنود كان مكلفا بإطعامي (كان يجلب لي الأكل من المطعم) قال لي ذات مرة : "راك تشوف راني نتهلى فيك، لما يخلصوك عن الحادث ماتنسانيش، اتهلى في كما راني نتهلى فيك".
· الخروج من السجن:
وبعد أسبوع جاءني ضابط (كبورال), أخبرني بأن السلطات قد وافقت على إرسالك إلى أهلك بالمغرب، وأركبني سيارة جيب, وذهب بي عند المصور, وأخذ لي صورا شمسية خاصة ببطاقة المرور عند الحدود. وبعد يومين, جاءني نفس الكبورال, وذهب بي إلى محطة القطار المتوجه إلى مدينة وجدة المغربية. وبالحدود، سألني رجال الشرطة الفرنسية عن أسباب دخولي إلى المغرب، وعن إعاقتي ، فردّدت لهم الحكاية السابقة. وبعد دقائق معدودة، توقف القطار بمحطة وجدة. وعند نزولي، لقيني رجلان، عرفت للوهلة الأولى أحدهما ، إسمه الجيلالي. كان ينشط في صفوف جبهة التحرير الوطني بالمراكز الخلفية بالحدود. سألاني من أين أتيت، وإذا كنت من المعتقلين الذين أُطلق سراحهم من معتقل أولاد الميمون, فأجبتهم عن ذلك, وسألوني عن الآخرين الذين تعرفت بهم في تلمسان, لقد كان هذان الرجلان من السلطة السرية للثورة, وكانوا على علم بعملية إطلاق سراحنا التي كانت بواسطة الصليب الأحمر الدولي, مقابل جنود فرنسيين أُطلق سراحهم من طرف قيادة الثورة، تم تسليمهم إلى الصليب الأحمر بالرباط بالمملكة المغربية.
ذهبوا بي إلى مقر القاعدة 15 la base ligne , أخذوا مني المعلومات من اليوم الذي ُلقي فيه القبض علي, إلى أن تم إطلاق سراحي, وعن المعاملات التي يتلقاها المعتقلون إلخ....
· حرارة اللقاء مع والدي رحمهما الله:
ثم أخذوني إلى منزل والدي الذي كانوا يعرفونه جيدا, وكان الظلام قد أسدل ستاره. وقبل أن يدق الباب, قال لي أحد المرافقين: " ابق هنا بالسيارة" حتى لا يصاب والدي بصدمة.
فتح الباب, وخرج والدي فسلّموا عليه وسأله الجيلالي قائلا : " عمي الجيلالي كانش أخبار عن ولدك العربي ؟", تفاجأ والدي بهذا السؤال, ورد عليه : " خير إن شاء الله كانش ما سمعتوا عليه؟ العربي انقطعت أخباره من آخر رسالة بعثها لي من سجن وهران هذي أكثر من أربعة أشهر, يكونوا قتلوه".
فقال له أبشر يا عمي الجيلالي إن ابنك العربي حي يُرزق وأتينا لك به . فأخذته رجفة وهو يقول " أين هو ؟". فخرجت إليه على العكاكيز, فلم يصدق عينيه, فاستقبلني بلهفة, واحتضنني بقوة وهو يبكي بكاء الفرح، ويحمد الله على نجاتي.
وجاءت والدتي وهي لا تصدق, وأخذتني بين ذراعيها كالصبي, وراحت تقبلني بحرارة وتبكي و تزغرد وتقول: "يا فرحي ولدي حي، يا فرحي ولدي طلقوه".
قامت القيامة في العائلة, الكل يحاول احتضاني وتقبيلي بشغف. كانت حالتي يُرثى لها من الضعف والهزال. وزني لا يتجاوز الأربعين كيلوغراما من شدة الجوع والإحباط والتنكيل الذي عشته في ذلك المعتقل الرهيب في أولاد الميمون.
[
التوجّه إلى يوغسلافيا للعلاج:
قضيت حوالي ثلاثة أشهر بين أفراد العائلة. وفي تلك الفترة، كانت قيادة الثورة، القاعدة الغربية, تحضر لإرسال مجموعتين من الجنود المحاربين إلى جمهورية يوغسلافيا والإتحاد السوفيتي. كنت من ضمن الفوج المتوجه إلى يوغسلافيا. ثم نقلنا من قاعدة العربي بن مهيدي بوجدة إلى مدينة طنجة في فوج يتكون من 12 جندي مجروح مرفقين بالدكتور الهدام عبد السلام، والكابتان عبد الوهاب رحمهما الله، انضممت إلى المجموعة التي كانت موجودة بقصر القلاوي بأعالي طنجة وبالفيلا بوسط المدينة تحت مسؤولية الكبتان بن قدادرة عبد المجيد, ثم جاء بعده ولد قادة الخضر.
قضينا بطنجة حوالي شهرين, وفي 01 ماي 1959, ركبنا سفينة يوغسلافية في مجموعة تتكون من خمسين مجروح، أغلبيتنا مبتوري الأرجل. وقبل ذهابنا, جاءنا الكولونيل بومدين (هواري بومدين) رحمه الله، وتحدث إلينا طويلا، موصيا إيانا بالانضباط وتمثيل الشعب الجزائري أحسن تمثيل قائلا لنا : " إنكم لستم ذاهبون للعلاج فقط، بل إنكم ذاهبون لهذا البلد لتمثيل ثورة الشعب الجزائري ضد الاستعمار الفرنسي, التعريف بتقاليده وعاداته التي تختلف عن عادات وتقاليد فرنسا التي تدّعي أن الجزائر قطعة من أرضها, وأن الشعب الجزائري فرنسي", محذرا إيانا من الأخطاء والتصرفات التي تسيء للجزائر وتشوه صورتها. وكل من يرتكب مثل هذه الأخطاء، ستعاقبه الثورة عقابا شديدا, فكونوا رجالا مثلما كنتم في ميدان المعركة, وارفعوا راية الجزائر عالية في هذه الدولة.قضينا مدة ثمانية أيام في البحر, نخرج فيها في بعض المرات إلى ظهر السفينة التي كانت محملة بالقمح (آتية من أمريكا).
وكلما كانت تظهر سفن الأسطول الفرنسي، كنا ندخل إلى مقصوراتنا بأمر من بحارة السفينة.
وفي التاسع من شهر ماي 1959، رست بنا الباخرة بميناء سبليت اليوغسلافية، حيث استُقبلنا استقبالا حارا بالتحية العسكرية من طرف بحارة الأسطول اليوغسلافي. بعد مراسيم الاستقبال، أركبونا سفينة حربية، رست بنا في ميناء مدينة رييكا, كان في استقبالنا موظفو الهلال الأحمر اليوغسلافي, ومجموعة كبيرة من الصحافيين, وتم نقلنا مباشرة إلى مستشفى المدينة الذي قضينا به مدة خمسة عشر يوما تم خلالها معاينة جراحنا من طرف فريق من الأطباء. إثر ذلك, نُقلنا على إلى إحدى المحطات المعدنية المشهورة بإقليم كرواتيا اسمها "ستوبتشكي طوبليتس" كانت قريبة من مدينة زاغريب بحوالي20كم . ومن ثم تم توجيه البعض منا إلى مستشفيات زاغريب لإجراء عمليات جراحية, وكنت من ضمنهم ، حيث أُجريت لي عملية جراحية على ساقي الذي كان ينزف بالدم والقيح منذ اعتقالي كما سبق أن ذكرت. قضيت مدة شهرين بمسليف , ثم عدت إلى محطة استوبتشكي طوبليتسي، أين تم تجهيزنا بالأرجل الاصطناعية. وخلال هذه الفترة، كانت الصحافة اليوغسلافية والأجنبية ومنها العربية : المصرية، والسورية، والأردنية، والعراقية، واللبنانية، تزورنا من حين إلى آخر لأخذ المعلومات عن الثورة المسلحة في الجزائر من أفواهنا، لكوننا نحمل آثارها على أجسادنا, وهو دليل قاطع يدحض الدعاية الفرنسية الشائعة آنذاك التي كانت تقول أن ما يجري في الجزائر هو عبارة عن تمرد لعصابات من قطّاع الطرق.
وقد زارنا في هذه المحطة رئيس الحكومة المؤقتة المرحوم فرحات عباس رفقة أعضاء من الحكومة المؤقتة, وتحدث إلينا عن نجاحات الثورة والتأييد الذي تلاقيه القضية الجزائرية عبر العالم، موصيا إيانا بحسن السلوك, والتعريف بالثورة في وسط المواطنين اليوغسلافي.
قضينا بهذه المحطة حوالي ستة أشهر, كنا نتلقى فيها دروسا في اللغة اليوغسلافية التي أصبحنا نتحدث بها بطلاقة, ونكتب بها الرسائل، وقد انبهر اليوغسلافيون بسرعة استيعابنا للغتهم.
هذه الصورة تم تصغيرها تلقائيا .
انتقلنا مع نهاية عام 1959 إلى العاصمة بلغراد, وأقمنا بمركز للراحة خاص بالطلبة بقرية " أنالا" Anala القريبة من مدينة بلغراد بـ : 15 كيلومتر, وخلال هذه الفترة التحق بنا فوج آخر قادم من تونس، يتكون من مائة جندي مجروح تم توزيعهم على المستشفيات، أما نحن أفراد الفوج الأول القادم عن طريق المغرب بجوازات سفر مغربية مزورة، فبعد أن تم تجهيزنا بأرجل اصطناعية من الخشب تم توجيهنا إلى مدارس التكوين المهني لتعلم حرفة نستفيد منها بعد الإستقلال مثلما كان يُقال لنا من قبل ممثلي الحكومة المؤقتة ببلغراد آنذاك وهما : الحاج يعلى وبعده جاء مسعود بوقدوم والكبتان موسى بن أحمد الذي كان يأتي إلينا من حين لآخر من تونس, إذ تحصل الكثير منا على شهادات في التمريض والكهرباء والميكانيك, والسياقة وإصلاح أجهزة الراديو والتلفزة.
طريق العودة إلى أرض الوطن:
وبعد ذلك جاء وقت الرحيل, ففي يوم 24 جوان 1960 أقلعت بنا الطائرة من مطار بلغراد وحطت بنا بمطار العوينات بتونس حيث وجدنا في استقبالنا بعض المسؤولين على رأسهم الكومندا سليمان (قايد أحمد), وتم نقلنا إلى مركز لطاندانس الموجود آنذاك بنهج الهادي شاكر بحي باردو قضينا به مدة ستة أشهر تقريبا ثم انتقلنا إلى مركز " البطان بتربة" على بعد ثلاثين كيلومترا من مدينة تونس, والذي كان قد فتح أبوابه حديثا وجعلته القيادة مركز عبور وتوجيه للجنود المجاريح المتوجهين للعلاج بالخارج أو نحو جبهة القتال بالنسبة للذين تعافوا من إصاباتهم. وكانت به عيادة طبية وقاعات لتعليم القراءة والكتابة من طرف أساتذة من الجنود المصابين، وكان يسيره هذا المركز سي محمود نبي.
حرص وحثّ قيادات جبهة التحرير الوطني على أداء الشعائر الدينية:
خلال شهر رمضان المعظم الموافق لسنة 1961, كان يأتي إلينا من حين لآخر الكولونيل ناصر محمدي سعيد وزير بالحكومة المؤقتة.
كان يتناول معنا وجبة الإفطار ويصلي معنا التراويح، ويحثنا على المواظبة على الصلاة. وكان يمر بغرف النوم, وإذا وجد أحدا نائما وقت الصلاة، أنبه تأنيبا شديدا.
اغتنمنا، نحن فراد من الفوج القادمين إلى يوغسلافيا عن طريق المغرب, وجوده بيننا، فتقدمنا له بطلب السماح لنا بالذهاب إلى المغرب أين توجد لأغلبيتنا عائلات مهاجرة هناك, ولكوننا معطوبين قد أدينا واجبنا الوطني ولا يسمح لنا بالعودة إلى ساحة المعركة وكذا التخفيف من عبء المصاريف.
وسلمناه رسالة موقعة من طرف أغبية أفراد الفوج, وبعد أسبوع جاءنا بالرد والقبول من طرف الحكومة المؤقتة. فكان سفرنا إلى المغرب عبر مطار روما مدريد طنجة في مجموعات تتكون من خمسة إلى ستة أفراد في كل سفرية. فكنت أنا ضمن المجموعة الأولى، بعد أن زودتنا الحكومة بمبالغ مالية من العملتين الفرنسية والمغربية 000 10 فرنك قديم و5000 درهم, وفي مطار طنجة وجدنا بعض الأشخاص من الجبهة في انتظارنا بوسائل النقل، حيث توجهنا إلى مركز سلا (مركز عبور) بقرب العاصمة الرباط قضينا به الليل. وفي صباح اليوم التالي انتقلنا إلى مركز القنيطرة. و بعد أن قضينا به يومين توجهنا لمقابلة رئيسه آنذاك ليوطنا لزرق, فأظهرنا له أمر التسريح المسلم لنا من قبل الحكومة المؤقتة , فرفض ذلك رفضا قاطعا وقال لنا أن لديه أوامر من القيادة ببقائنا بالمركز، وأن الثورة لا تهمل أبناءها، وأن مهمتنا لن تنتهي إلا بعد استقلال الجزائر.
بعد مدة خمسة عشر يوما قضيناها بهذا المركز الذي وجدنا به مجموعة من المجاريح، انتقلنا جميعا إلى مركز فيلا بوطويل بالدار البيضاء الذي كان قد افتتح حديثا لجمع عدد كبير من المجاريح الذين كان يؤويهم بعض الجزائريين الميسورين القاطنين بالمغرب آنذاك .
زارنا في هذا المركز رئيس الحكومة المؤقتة بن يوسف بن خدة, ووزع علينا مبلغا ماليا قدره 000 10 درهم لكل واحد منا، كما منحنا إجازة مدتها خمسة عشر يوما, زرنا فيها عائلاتنا المهاجرة بالمغرب, وكان ذلك أواخر سنة 1961, وقت كانت مفاوضات إيفيان جارية بين الحكومة المؤقتة وفرنسا.
كان مركز فيلا بوطويل مسيرا في تلك الفترة من طرف الطيب النهاري، ثم جاء بعده البكاي رحمه الله. وكان هذا المركز يضم في بعض الأحيان أكثر من 200 جندي مجروح معاق بصفة نهائية، ويتربع على مساحة تقدر بحوالي ثلاثة هكتارات، تتوسطه بنايتان وعدد من الشاليات، اشترتها الجبهة سرا من القاعدة العسكرية الأمريكية، التي كانت متواجدة آنذاك بالنواصر القريبة من الدار البيضاء . كُلّفت لفترة قصيرة بمهمة تسيير الحراسة Larelève , ثم مكتب المراقبة Poste de police.
ففي هذه الأثناء، كانت الخلافات ما بين الحكومة المؤقتة وقيادة الأركان العامة لجيش التحرير الوطني قد برزت على السطح.
فقبل أيام من توقيف القتال, جاءنا موسى بن أحمد مبعوثا من طرف الحكومة المؤقتة ، فأخبرنا عن تلك الخلافات بحذافيرها ، موجها التهم إلى قيادة الأركان العامة، لكون أن بعض القادة دخلوا إلى تونس والمغرب ، واستقروا بهما, وتزوجوا هناك، ويبعثون بالجنود البسطاء للموت على خطوط موريس المكهربة.
وأخبرنا أن العديد من فيالق جيش التحرير الوطني بالمراكز الخلفية بالحدود الشرقية والغربية تؤيد الحكومة المؤقتة . ففعلت هذه الدعاية فعلتها لكوننا كنا نلاحظ ممارسات من هذا النوع من طرف بعض القادة الذين استقروا خارج ميدان المعركة. فأعلنا مساندتنا للحكومة المؤقتة، وقمنا باحتجاز رئيس المركز المرحوم بكاي, ووضعناه في غرفة بقبو البناية وأغلقنا عليه الباب، في حين تمكن معاونوه من الفرار من المركز، فنظمنا أنفسنا ووضعنا حراسة مشددة حول المركز حيث تعرضنا لحصار شديد، وقطع عنا التموين لمدة أكثر من أسبوع، أكلنا فيها خبز الملة الذي كنا نطهيه تحت رماد النار. إلى أن خاننا أحد المكلفين بالحراسة، فأدخل علينا في منتصف الليل فرقة من الجنود, مدججة بالسلاح، يقودها الكبتان صالح نهاري. فأيقظونا وأخرجونا إلى الساحة, وأغلبنا يركض على العكاكيز, ولم يمهلونا لتركيب أرجلنا الاصطناعية. لقد كنّا في قائمة المحكوم عليهم بالإعدام من طرف قيادة الأركان العامة, وكان من المقرر نقلنا جميعا إلى عوينة رياض بالحدود لتنفيذ العملية. و لحسن الحظ، تمكن أحد الجنود، مبتور الذراع، بلقلاز الحبيب من الفرار متخطيا السور، وذهب إلى دار عمالة الدار البيضاء, وأخبرهم أن مجموعة مسلحة اقتحمت المركز الخلفي الخاص بجنود جيش التحرير الوطني الجزائري المجاريح، ويحتمل أنهم قتلوا كل من وجدوه بالمركز . وماهي إلاّ دقائق، حتى طوّق المركز بجنود الجيش الملكي المغربي, وتم القبض على أفراد الفرقة الذين كنّا نعرف أغلبيتهم, إذ أنهم كانوا من رفقائنا في جبهة القتال قبل أن نصاب بجراح.
بقينا تحت حماية الجيش الملكي في هذا المركز بتكفل من الحكومة المؤقتة، طيلة هذه المدة الممتدة من تاريخ إعلان وقف القتال، إلى غاية 05 جويلية 1962 , تاريخ الإعلان عن الإستقلال. وقد نظمنا فيه احتفالا كبيرا بحضور ممثلين عن الحكومة المؤقتة, والكثير من أفراد الجالية الجزائرية بالدار البيضاء وما جاورها. وفي السابع من شهر أوت 1962، أقلعت بنا ثلاث طائرات من مطار النواصر, وحطت بنا بمطار الدار البيضاء بجزائنا الحبيبة المحررة, التي ضحينا من أجلها بكل ما نملك . ولم نجد أي مسؤول في استقبالنا لأن الكل كان مشغولا بحرب الولايات . وجدنا بعض الأشخاص في انتظارنا بالحافلات لا نعرفهم, من بينهم أحد المكلفين من طرف الحكومة المؤقتة، اسمه باسطا رزقي. فأركبونا الحافلات، ونقلونا إلى مركز الجنود المعاقين الواردين من مختلف المناطق المؤيدة للحكومة المؤقتة.
وهو مركز تادمايت camp de maréchal, الذي كان الفرنسيون يستعملونه كمركز للاستنطاق والتعذيب ، وكان من يدخله لا يخرج منه إلا ميتا أو مختل العقل.
قضينا مدة أسبوعين تقريبا بهذا المعتقل الذي كان مسيّرا من طرف باسطا رزقي، وتحرسه مجموعة من الجنود. كان الحراس يمنعوننا من الخروج الشيء الذي لم نقبله, واعتبرناه بمثابة احتجاز. فقمنا بإضراب عن الطعام ، وأشعلنا النار في بعض الأفرشة ( أفرشة المعتقلين التي كنا ننام عليها)، وطلبنا حضور مسؤول من القيادة. فجاءنا الكولونيل موح والحاج رحمه الله قائد الولاية الثالثة آنذاك ، مع بعض المسؤولين من قيادته، فقدمنا له احتجاجنا على الوضعية التي كنا نعيشها في هذا المعتقل الموحش، الذي تكاد جدرانه تنطق بمآسي وآلام مئات المعتقلين الذين دخلوه, وأبلغناه أننا نريد تسريحا لنذهب للبحث عن عائلاتنا بما أن الحرب قد انتهت، والجزائر قد حصلت على استقلالها، فما المبرر لوجودنا في هذا المعتقل ؟ . تكلم الكولونال موح والحاج وقال لنا: " إننا لم نأت بكم إلى هنا إلاّ لحمايتكم، وأقول لكم بصراحة إن الإخوة الذين كانوا في خندق واحد لمحاربة الاستعمار, أصبحوا اليوم يتحاربون فيما بينهم، (الأزمة التي وقعت ما بين الولايات)، من أجل الكراسي, وأنتم قد أديتم واجبكم كاملا. ومهما كان الأمر، فإن الجزائر سترعاكم ولن تتخلى عنكم. عليكم بالصبر ريثما تهدأ الأمور، وسوف تلتحقون بعائلاتكم.
وهذا ما حدث فعلا، فبعد أقل من أسبوع تسلّمنا وثائق المرور, ومبلغا ماليا قدره 2500 فرنك قديم لكل واحد منا، ولقلة وسائل النقل بين تادمايت والعاصمة (النقل العمومي)، وصلنا إلى العاصمة عن طريق الأوطوسطوب، مع المساء . توجهنا حينها إلى مقر عمالة الجزائر آنذاك (الولاية حاليا)، حيث كانت توجد قيادة الولاية الرابعة, ولم نجد أماكن للمبيت، فقضينا الليل على الكراسي بمقر العمالة (la préfecture), وفي اليوم الموالي, تسلمنا رخص الركوب في القطار (réquisitions) مع 00 فرنك قديم لكل واحد منا, والجدير بالذكر أن هذه المجموعة من جنود جيش التحرير الوطني (المجاريح), كانت تنتمي إلى مختلف مناطق البلاد من بشار إلى الطارف، وكان من المقرر العودة إلى العاصمة بعد شهر، والتوجه إلى المركز العائلي ببن عكنون قصد إجراء الفحوص الطبية, وتحديد نسبة العطب.
الالتحاق بعائلتي:
وجدت عائلتي التي كانت لاجئة بالمغرب قد رجعت إلى البلاد, وتقيم بمدينة سبدو في حوش يشبه الإسطبل، سقفه من الزنك, لا يستطيع أي مخلوق أن يحتمل فيه حرارة الصيف، بعد أن دمر الجيش الفرنسي منازلنا بالريف، وقضى على الأخضر واليابس مثلما كان يفعل في عامة أرياف ومداشر الوطن. قمت رفقة والدي، رحمه الله، بمساعي لدى سلطات المدينة قصد إخراج العائلة من الجحيم بالحصول على سكن يليق بالبشر، لكن دون نتيجة, فكل السكنات التي هجرها أصحابها من المعمّرين استولى عليها.
كان أحد الأوربيين اسمه بسينتيBicinti ، بقي بالمدينة, وكان من الأصدقاء القدامى لوالدي، وكان مولع بالصيد، يعيش في أغلب الأوقات بين سكان الأرياف، يتعاطف معهم, ويشاركهم في مسراتهم وأحزانهم . أعطى لوالدي مفتاح منزل جاره المدعو بوايي Boyer، الذي غادر مدينة سبدو دون رجعة. فتحولت العائلة إلى هذا السكن المريح ريثما يتم ترميم منازلنا بالريف حيث تطلب ذلك وقتا طويلا لقلة الإمكانيات.
قضيت مدة حوالي عشرين يوما مع العائلة, وفي طريق العودة إلى الجزائر العاصمة بواسطة القطار المنطلق من مدينة تلمسان مع بعض الرفاق, توقفنا بمدينة وهران حيث تم منعنا من مواصلة الطريق نحو العاصمة لأسباب أمنية، إذ كانت المعارك جارية مابين جنود الولاية الخامسة وجنود الولاية الرابعة بنواحي الأصنام آنذاك، في خضم الأزمة التي كانت قائمة آنذاك ما بين الحكومة المؤقتة وهيئة الأركان العامة لجيش التحرير.
ثم نُقلنا من محطة القطار إلى المستشفى العسكري بالمدينة الجديدة المحاذي لمقر قيادة الولاية الخامسة آنذاك (لاكورال)، التي كان يقودها العقيد عثمان رحمه الله.
قضيت بهذا المستشفى مدة حوالي شهر كانت فيها حرب الولايات قد انتهت بانتصار هيئة الأركان العامة بقيادة العقيد بومدين ضد فريق الحكومة المؤقتة.
وفي صبيحة أحد أيام أكتوبر ركبت القطار مع بعض الرفقاء متوجهين نحو العاصمة, وفي المحطة، وجدنا من ينتظرنا هناك حيث توجهوا بنا إلى المركز العائلي ببن عكنون، الذي أقيم كمركز تجمع للجنود المصابين القادمين من مختلف مناطق البلاد. قضينا به مدة قصيرة، تم تحويلنا على إثرها إلى شاطوناف (مقر وزارة المجاهدين حاليا)، والذي كان عبارة عن مركز راحة و للجنود الفرنسيين. وجدناه بكل تجهيزاته من أفرشة ووسائل، قضينا به هو الآخر عدة أسابيع دون إجراء الفحوصات الطبية لتحديد نسبة العطب، قبل أن يُسمح بتسريحنا. فقمنا بالإضراب عن الطعام إلى حين حضور المسؤولين، فجاءنا العقيد بومدين رفقة العقيد الناصر (محمدي السعيد)، فقدمنا لهما مطالبنا المتعلقة بالفحوصات الطبية، وتسريحنا للالتقاء بعائلاتنا، واستجابت القيادة لمطالبنا، فبعد أسبوع تمت عملية الفحص الطبي، وتم تسريح الجنود الذين كانت لهم إصابات خفيفة، وتوجيه البعض منهم لأسلاك الشرطة والجمارك و بعض الإدارات.
أما نحن، المصابين الكبار، فقد تم نقلنا إلى مستشفى بالدويرة, وكان ذلك يوم 30 نوفمبر 1962، بحيث أن الكثير منّا كانت جراحه لا زالت تنزف بالدم والقيح، بخلاف الجنود الذين تم علاجهم بالخارج في البلدان التي ذكرتها آنفا. ففي أواخر شهر أفريل 1963 ، توجهنا في مجموعة من الرفاق تضم المتحدث، شلابي العربي، رحمه الله ، قنانو عبد القادر، بشار اعمر, وبوحميدي مصطفى قصد الحصول على مناصب عمل، وكنا نحن الخمسة مصابين مقر المجلس التأسيسي آنذاك حيث تم استقبالنا من طرف الكوماندان سليمان ( قايد أحمد) رحمه الله، والكمندان جمال (شريف بلقاسم) أطال الله في عمره، فطرحنا عليه القضية. فسألنا سي سليمان عن مستويات التعليم لكل واحد منا، فقلنا له : " أغلبنا يكتب ويقرأ، لكن ليست لنا شهادات مدرسية وتعليمنا كان بواسطة الكتاتيب القرآنية ". فقال لنا:" لن أسمح بتوظيفكم في مناصب حقيرة تسيء إلى مكانتكم كشواش بالإدارات ، سوف نمنحكم محلات تجارية تحفظ كرامتكم". فرد عليه أحد الرفاق يُدعى شلبي العربي قائلا: " ياسي سليمان، نحن أبناء فلاحين، من أين لنا المعرفة بالتجارة، أحنا حابين نخدموا"، فرد عليه سي سليمان: " فكروا جيدا إنكم ستندمون" ، فكتب لنا رسالة، واتصل هاتفيا بسي مصطفى بوعرفة رئيس ديوان وزارة الشباب والرياضة التي كان على رأسها آنذاك السيد / عبد العزيز بوتفليقة ) وقال لهم : "أبعث لكم بخمسة جنود مصابين، أعطوهم مناصب عمل" .
استقبلنا سي بوعرفة مع سي يحي بن اعمر رئيس مصلحة الموظفين، وبقيا يتشاوران بحيرة عن مكان يشغلوننا فيه، لعدم حوزتنا على شهادات مدرسية ، فاتفقا على تشغيلنا كشواش، بشرط أن نتابع الدروس الليلية للحصول على شهادات تسمح لنا بالترقية إلى مناصب محترمة.
الاستقرار بالعاصمة ومواصلة الدراسة, وتقلّد بعض المناصب:
على إثر ذلك، استقررت بالجزائر العاصمة بعد أن تحصلت على سكن، وأخذت في متابعة دروس مسائية بالمدارس الخاصة التي كانت منتشرة آنذاك، فبدأ مستواي الدراسي يتحسن شيئا فشيئا ، وتمت ترقيتي إلى مرتبة عون إداري ، وتحولت من مصلحة الموظفين إلى مصلحة الديوان الجزائري للمخيمات الصيفية التي كان يديرها السيد رومان عبد الرحمن، وبالموازاة مع ذلك كنت أتابع الدروس المسائية, وتوصلت إلى المشاركة في امتحانات مديري المخيمات الصيفية في تربص لمدة 15 يوما، وتحصلت على شهادة مدير مخيم بامتياز، وتم تعييني مسؤولاً على مركز العتاد واللوازم الخاصة بالمخيمات الصيفية الكائن مقره آنذاك ببئر راد رايس لمدة ثلاث سنوات، وبعدها مساعدا لمدير بيوت الشباب آنذاك، السيد قاسمي عبد الحفيظ.
ثم انتدبت إلى قسمة المجاهدين لباب الوادي بعد فوزي في الانتخابات لعضوية القسمة, ثم أمينا لها بالنيابة إلى أن تم إحالتي على التقاعد من طرف وزارة الشباب والرياضة سنة 1987 ، حينها تفرغت لمزاولة نشاط التجارة، بعد أن تحصلت على مكان فوق الرصيف بنيت عليه كشكا لبيع التبغ والأدوات المدرسية لمدة سنتين ثم أجّرته.
تأسيس الجمعية الوطنية لكبار معطوبي حرب التحرير الوطني
وصرت أسعى مع مجموعة من الرفاق من مختلف ولايات الوطن، قصد تأسيس جمعية وطنية للمجاهدين كبار معطوبي حرب التحرير الوطني، تحمي حقوقهم المادية والمعنوية. هذه الفئة التاريخية من رموز ثورة نوفمبر المجيدة التي فقدت أطرافا من أجسادها مع الشهداء في ساحة الوغى، و يُعتبر أفرادها بحق شهداء أحياء، ذاقوا مرارة التهميش والنسيان والفقر والحرمان, ولم يلتفت إليهم أحد. فلا رعاية صحية, ولا عناية اجتماعية . القوانين تصدر من أجلهم، ويستفيد منها آخرون بشتى الطرق والوسائل. وقد تُوجت مساعينا بالنجاح , وتمكنّا من تأسيس الجمعية الوطنية ، بمكاتبها الولائية. وكان ذلك في 07 ماي 1991. ورغم العراقيل والمعارضة الشديدة من طرف بعض الرفاق بالمنظمة الوطنية للمجاهدين، استطاعت جمعيتنا الوطنية أن تشق طريقها بثبات نحو أهدافها، وإسماع صوت هذه الفئة المتضررة من المجاهدين للسلطات العليا في الدولة، لرفع الغبن عنهم، ورد الاعتبار لهم، والتكفل بقضاياهم الصحية والاجتماعية. و قد أخذت الأمور تتحسن شيئا فشيئا لتعود إلى طبيعتها، وذلك بفضل الجهود المضنية لمسئولي هذه الجمعية التي أتشرف الآن بتولي منصب أمينها العام.
خاتمة وإهداء:
أهدي هذه النبذة التاريخية البسيطة عن حياتي , التي لا تساوي شيئا أمام ما قدّمه رجال آخرون من تضحيات جسام في حياتهم النضالية من أجل الوطن، إلى أحفادي من بعدي، وإلى أجيال الجزائر أحثهم على حب الجزائر، والتمسك بقيم ومبادئ ثورة نوفمبر المجيدة، التي حررت البلاد والعباد من نير عبودية الاستعمار البغيض.
تحيا الجزائر حرّة قوية موحدة، يسودها الرخاء والتقدم، والعدل والمساواة ما بين أبنائها.
ملاحظة: لقد استعملت في هذه النبذة بعض المصطلحات التي كانت متداولة في أوساطنا خلال السنوات الأولى للثورة مثل الجندي بدل المجاهد المجروح بدل المعطوب وذكرت رتب الضباط بالمصطلح الفرنسي.
وفق الله الجميع لما فيه الخير والسؤدد للأمة والوطن.
العربي بن صفية.
الأمين العام للجمعية الوطنية.
لكبار معطوبي حرب التحرير الوطني.
الجزائر في 15 مارس 2009م