|
|
|
حينما يكثر الحساد لا يملك الشاعر إلا أن يجمع حبال خياله ويسرج صهوة عاطفته ويطلق عنان لسانه ليرد على الوشاة بكل ما أوتي من فنون البديع والتراكيب الجميلة، فهذه القصيدة الملحمة التي تجمع بين أبياتها كل أغراض الشعر من شوق وفخر وهجاء وحكمة فهي قصيدة تختصر فيها القصائد وتنحني أمام معانيها أجمل الأبيات، وهي مسرحية لأنها قيلت أمام الملأ في حضرة سيف الدولة الحمداني أمير حلب، وكانت معظم أبياتها ارتجالاً رداً على الوشاة وما أكثرهم، ولولا صدق عاطفة المتنبي لما كانت القصيدة بهذه الانسيابية في المشاعر والقوة في التعابير المركبة التي تجمع بين عدة أغراض في تركيب واحد، ولولا الفلسفة العميقة التي تحتويها لما كان لها صدى واسعاً حتى بعد موت المتنبي الذي كان صرخة قوية في الشعر العربي، ولعله الأكثر شعبية بين شعراء العرب فكان له أنصار ومعارضون.
وشاعر القصيدة هو أبو الطيب المتنبي أحمد بن الحسين المولود عام 915م ولد في الكوفة، وهو عربي الوجه واليد واللسان. اتصل بسيف الدولة الحمداني أمير حلب ولزمه تسع سنوات وكانت أغنى حقبة في حياة المتنبي. قتل عام 965 وهو في طريقه إلى بغداد.
والقصيدة من البحر البسيط.
واحَرَّ قلباهُ ممَّنْ قلبُهُ شَبِمُ
و مَن بِجِسْمي وحالي عندَهُ سَقَمُ
ما لي أُكَتِّمُ حُبّاً قد بَرَى جَسَدي
وتَدَّعِي حُبَّ سَيْفِ الدَّولَةِ الأُمَمُ
إنْ كانَ يَجْمَعُنا حُبٌ لِغُرَّتِهِ
فَلَيْتَ أنَّا بِقَدْرِ الحُبِّ نَقْتَسِمُ
قد زُرْتُهُ وسُيوفُ الهِنْدِ مُغْمَدَةٌ
وقد نَظَرْتُ إليهِ والسُّيوفُ دَمُ
وكانَ أحْسَنَ خَلْقِ اللهِ كُلِّهِمُ
وكان أحْسَنَ ما في الأحْسَنِ الشِّيَمُ
فَوتُ العَدُوِّ الذي يَمَّمْتَهُ ظَفَرٌ
في طَيِّهِ أسَفٌ في طَيِّهِ نِعَمُ
قد نابَ عَنْكَ شَديدُ الخَوْفِ واصْطَنَعَتْ
لكَ المَهابَةُ ما لا تَصْنَعُ البُهَمُ
ألْزَمْتَ نَفسَكَ شَيْئاً ليسَ يَلْزَمُها
أنْ لا يُوارِيَهُمْ أرْضٌ ولا عَلَمُ
أكُلَمّا رُمْتَ جَيْشاً فانْثَنى هَرَباً
تَصَرَّفَتْ بِكَ في آثارِهِ الهِمَمُ
عليكَ هَزمُهمُ في كلِّ مُعْتَرَكٍ
وما عليكَ بهمْ عارٌ إذا انْهَزَموا
أما تَرى ظَفَراً حُلْواً سِوى ظَفَرٍ
تَصافَحَتْ فيهِ بيضُ الهندِ واللِّمَمُ
يا أعْدلَ النّاسِ إلاّ في مُعامَلَتي
فيكَ الخِصامُ وأنتَ الخَصْمُ والحَكَمُ
أُعيذُها نَظَراتٍ مِنْكَ صادِقَةً
أَن تَحْسَبَ الشَّحْمَ فيمن شَحْمُهُ وَرَمُ
وما انْتِفاعُ أخي الدّنيا بِناظِرِهِ
إذا اسْتَوَتْ عِنْدَهُ الأنوارُ والظُّلَم
سَيَعْلَمُ الجَمْعُ ممّن ضَمَّ مَجلِسُنا
بأنّني خيرُ من تَسْعى بِهِ قَدَمُ
أنا الذي نَظَرَ الأعْمى إلى أدبي
وأسْمَعَتْ كَلِماتي من بهِ صَمَمُ
أنامُ مِلْءَ جُفوني عن شَوارِدِها
ويَسْهَرُ الخَلق جَرَّاها ويَخْتصِمُ
وجاهِلٍ مَدَّهُ في جَهْلِهِ ضَحِكي
حتى أتَتْهُ يَدٌ فَرَّاسَةٌ وفَم
إذا رأيتَ نُيوبَ اللّيثِ بارِزَةً
فلا تَظُنَنَّ أنّ اللّيثَ يَبْتَسِمُ
ومُهْجَةٍ مُهْجَتي من هَمِّ صاحِبِها
أدْرَكْتُها بِجَوادٍ ظَهْرُهُ حَرَمُ
رِجْلاهُ في الرَّكْضِ رِجْلٌ واليَدانِ يَدٌ
وفِعْلُهُ ما تُريدُ الكَفُّ و القَدَمُ
ومُرْهَفٍ سِرْتُ بينَ الجَحْفَلَيْنِ بِهِ
حتى ضَرَبْتُ ومَوْجُ المَوتِ يَلْتَطِمُ
الخَيلُ واللّيل و البَيْداءُ تَعرِفُني
و السَّيفُ والرُمْحُ والقِرْطاسُ والقَلَمُ
صَحِبْتُ في الفَلَواتِ الوَحشَ مُنفرِداً
حتى تَعَجَّبَ منّي القُورُ والأكَم
يا من يَعِزُّ علينا أن نُفارِقهُمْ
وُجْدانُنا كُلُّ شيءٍ بعدكم عَدَمُ
ما كان أَخْلَقَنا بِتَكْرِمَةٍ
لو أنَّ أمْرَكُمُ من أمْرِنا أَمَمُ
إن كان سِرَّكَمُ ما قال حاسِدُنا
فما لجُرْحٍ إذا أرْضاكُمُ أَلَمُ
وبَيْننا لو رَعَيْتُمْ ذاكَ مَعرفةٌ
إنَّ المعارِفَ في أهل النُّهى ذِمَمُ
كم تَطْلُبونَ لنا عَيْباً فيُعْجِزُكُمْ
ويَكْرَهُ اللهُ ما تأتونَ والكَرَمُ
ما أَبْعَدَ العَيْبَ والنُّقْصانَ من شَرَفي
أنا الثُّرَيّا وذانِ الشَيْبُ والهَرَمُ
ليْتَ الغَمامَ الذي عندي صَواعِقُهُ
يُزيلُهُنَّ إلى من عنده الدِّيَمُ
أرى النّوى يَقْتَضيني كُلَّ مَرْحَلَةٍ
لا تَسْتَقِلُّ بها الوَخَّادَةُ الرُّسُمُ
لئن تَرَكْنَ ضُمَيْراً عن مَيامِنِنا
لَيَحْدُثَنَّ لِمَنْ ودَّعْتُهُم نَدَمُ
إذا تَرَحَّلْتَ عن قوم ٍوقد قدَروا
أن لا تُفارقهم فالراحِلونَ همُ
شَرُّ البِلادِ مكانٌ لا صَديقَ بهِ
وشَرُّ ما يَكْسِبُ الإنْسانُ ما يَصِمُ
وشَرُّ ما قَنَصَتْهُ راحَتي قَنَصٌ
شَهْبُ البُزاةِ سَواءٌ فيه والرَّخَمُ
بأيِّ لَفْظٍ تَقولُ الشِّعْرَ زِعْنِفَةٌ
تَجوزُ عندكَ لا عُرْبٌ ولا عَجَمُ
هذا عِتابُكَ إلاّ أنّه مِقَةٌ
قد ضُمِّن الدُّرَّ إلا أنه كَلِم