بعد أن بسط صلاح الدين ـ رحمه الله ـ العدل بين الرعية شرع في إصلاح الأسوار حول المدن ، وتجديد الأسطول وإصلاح مراكبه وسفنه وشحنه بالمقاتلة ، وأرصد للأسطول من بيت المال ما يكفيه لجميع شئونه، وأقطع الاقتطاعات الجزيلة للغزاة البحريين تشجيعا لهم ؛ كي يجدوا في تدريباتهم وأعمالهم الجهادية ، كما بنى الفنادق على الطرقات ليستريح فيها المسافرون والتجار دون مقابل ، وزودها بكل ما يحتاج إليه النزلاء ، يقول ابن جبير عن أحد تلك الفنادق: وأسرينا الليل كله، فوصلنا خان ( فندق ) السلطان مع الصباح، وهو خان بناه صلاح الدين ، وهو في نهاية الوثاقة والحسن (1).
كما شرع في الاهتمام بالجانب التربوي والتعليمي ، وزاد في المدارس التي تهتم بتعليم الناس أمور الإسلام ، وبنى المستشفيات ، وأوقف عليها الأوقاف الكثيرة .. وهذا يعني أنه استعد للجهاد بشتى طرقه المادية والمعنوية ، حتى يكون الشعب كله مهيأ للجهاد ، وليس العسكريون فقط .
ثم اتجه إلى الصليبيين ، وكانوا من قبل رغم اختلاف ممالكهم بالشام إلا أنه كان يجمعهم العداوة مع المسلمين ، ولذلك اعتادوا على أن يلقوا المسلمين في كل معركة صفا واحدا ، فإذا تعرضت مملكة أو إمارة من إمارتهم للغزو الإسلامي هبوا جميعا لنجدتها ، وإذا أقدم أحد ملوكهم على شن غارة على إحدى المدن الإسلامية أعانوه جميعا ، وإذا ما جاءت حملة جديدة من أوربا انضم الجميع تحت لوائها ..
كانت تحدث بينهم العداوة والشحناء والاختلافات بسبب تقسيم الغنائم التي كانوا يسلبونها من المسلمين ، ولكنهم سرعان ما كانوا يسوون أمورهم ، ويجمعون كلمتهم ليكون التنسيق بينهم قائما ليظلوا متماسكين أمام المسلمين ، كان كل منهم يحرص على الاستقلال بمملكته ، ولكنهم كانوا يعدون ملك بيت المقدس بمثابة الملك الأعظم الذين ينضمون تحت رايته ..
عرف عنهم صلاح الدين هذا ولذا لم يسلك معهم طريقة واحدة في الجهاد ، فمرة يقاتلهم جميعا إذا اتحدوا عليه ، ومرة يقاتل طائفة ويهادن أخرى ، ومرة يقصد في طلعاته الجهادية جهة ويتلاشى أخرى ، يحارب هذه ويسالم تلك ، يقدم مرة ويحجم أخرى ، وكل همه أن يأتي ممالكهم فينقصها من أطرافها ، ويسعى للحيلولة بينهم وبين الاتحاد عليه ، يبذل قصارى جهده لتقطيع أواصرهم ، يضيق عليهم الخناق بقطع الإمدادات الغذائية حولهم ، وفي ذهنه أنهم إذا قلت مواردهم الاقتصادية اضطروا للعودة من حيث أتوا ، يحرق زروعهم ويدمر منشآتهم ـ وإن كانت قد شيدت بأيدي المسلمين ـ كي لا يستفيدوا منها ، سعى لمنع التجار من ممارسة البيع والشراء معهم إلا ما كان ثمة ضرورة إليه ..
وكان يفعل كل ذلك دون استبداد برأيه ، وإنما يستمع لنصح كل عارف أمين ، فقد كان لفرقة الداوية حصن مشيد قرب بانياس، يعرف بمخاضة الأحزان ، جعلوه مرصدا لحرب المسلمين، وقطع طريقهم ، فساومهم لهدمه فامتنعوا إلا أن يبذل لهم ما غرموه عليه ، فبذل لهم ستين ألف دينار فلم يقبلوا ، ثم أوصلهم إلى مائة ألف دينار ، فقال له ابن أخيه تقي الدين عمر : ابذل هذا إلى أجناد المسلمين ، وسر إلى هذا الحصن فخربه، فأخذ بقوله في ذلك ، وكتب إلى التركمان وأجناد البلاد يستدعيهم ، وحمل إليهم الأموال والخيول ، وسار بهم إليهم فتم له النصر ، وتمكن من هدمه(2)..
وأحيانا كان يرى الفتنة تدب بين أمراء المسلمين حوله فيهادن الصليبيين بحكمته ، ويسارع إلى هؤلاء ليصلح بينهم ؛ كي لا يفكر أحد منهم في الركون إلى الصليبيين والاستعانة بهم كما كان يحدث من قبل ..
ولم ينس وهو في غمار الكفاح أنه مسئول عن حماية حمى الديار الإسلامية وإن لم تكن داخل مملكته ، ولم يخطر على باله يوما أن يردد ما يردده الأمراء والحكام بعده الذين ركنوا إلى الحياة الدنيا ، وصار بعضهم إذا عجز عن الجهاد قال : إني مسئول عن شعبي وكفى ، عن وطني وكفى ، عن بلادي وكفى ، وإنما كان يسارع لنصرة الجميع ، ويسعى لحماية كل الديار ، فقد جاءه يوما ـ وهو مشغول بقتال فرق الداوية في حصن مخاضة الأحزان ـ أن صاحب الكرك يحاول أن يجد طريقا لمدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأنه أعد مراكبه في بحر القلزم ( الأحمر ) ليقطعوا الطريق على الحجاج والتجار، فأمر أخاه الملك العادل بأن يرسل الأمير حسام الدين لؤلؤ أمير الأسطول الإسلامي لمقاتلته ، فظفر به، وقتل كثيرا من جنده ، وأمن بذلك طريق الحجاج البري والبحري(3).
وكان وهو يفعل كل ذلك دائم الثقة بالله سبحانه وتعالى ، وأنه لا بد معينه حتى يحرر الأقصى ما دامت نيته لله صافية ، فقد صادف أن مرض أثناء عوده من بعض المعارك مرضا شديدا، فصار يتجلد ولا يظهر شيئا من الألم حتى قوي عليه الأمر ، وتزايد الحال، حتى وصل إلى حران فخيم هنالك من شدة ألمه، وشاع ذلك في البلاد، وخاف الناس عليه وأرجف الكفرة والملحدون بموته، وقصده أخوه العادل من حلب بالأطباء والأدوية، فوجده في غاية الضعف، وأشار عليه بأن يوصي، فقال: ما أبالي وأنا أترك من بعدي أبا بكر وعمر وعثمان وعليا - يعني أخاه العادل وتقي الدين عمر صاحب حماه ، وابنيه العزيز عثمان والأفضل عليا .
وخرج من مرضه وهو أشد تصميما على أن يجد ويسعى حتى يحرر بيت المقدس وكل شبر مغتصب من أيدي الصليبيين ..
وصار لا يخرج من معركة إلا ويدخل في أخرى ، والأيام دول بينه وبينهم ؛ حتى جاءت وقعة حطين التي كانت المحطة الأخيرة لفتح بيت المقدس سنة ثلاث وثمانين وخمسمائة.. فخرج من دمشق يوم السبت مستهل محرم ، وسير في مقدمته سرية نحو بلاد الصليبيين فحققت مرادها وعادت غانمة ، فكان ذلك بمثابة مقدمات الفتح والنصر ..
ثم اتجه ومعه اثنا عشر ألفا غير المتطوعة ، فلما سمع الصليبيون بقدومه اجتمعوا كلهم وتصالحوا فيما بينهم ، وجاءوا بحدهم وحديدهم ، وقد خوفهم صاحب طرابلس من المسلمين فاعترض عليه البرنس صاحب الكرك فقال له : لا أشك أنك تحب المسلمين وتخوفنا كثرتهم ، وسترى غب ما أقول لك ، فتقدموا نحو المسلمين ، فلم يعبأ صلاح الدين بجمعهم ، وأقبل ففتح طبرية وتقوى بما فيها من الأطعمة والأمتعة ، وتحصنت منه القلعة فلم يضيع وقته أمامها ، وإنما سار فحاز البحيرة في حوزته ، ومنعهم أن يصلوا إلى قطرة ماء منها حتى صاروا في عطش عظيم ..
ثم برز لهم إلى سطح الجبل الغربي من طبرية عند قرية حطين .. فتواجه الفريقان عشية يوم الجمعة ، وبات كل فريق منتظر صباح السبت للقاء الحاسم ، وهيأت الأقدار للمسلمين وجود حشائش في المكان الذي نزل به الصليبيون ، فأمر صلاح الدين أن يلقى عليه النفط فتأجج نارا تحت سنابك خيولهم ، ثم دارت رحى المعركة تعلوها أصوات التكبير لتنتهي بنصر مؤزر ، حيث قتل من الصليبيين ثلاثون ألفا ، وأسر ثلاثون ألفا ، وكان في جملة من أسر جميع ملوكهم سوى قومس طرابلس فإنه انهزم في أول المعركة وفر منها مصابا ليموت بعد قليل من فراره. (4).
ثم أمر بعد جلاء المعركة بضرب مخيم عظيم ، وجلس فيه على سرير المملكة ، وجيء بالأساري تتهادى بقيودهم فأمر بضرب أعناق جماعة من مقدمي الداوية ومن كانوا ذا بأس على المسلمين من قبل ، ولم يترك أحدا منهم ممن كان يذكر الناس عنه شرا ، ثم جيء بملوكهم فأجلسوا عن يمينه ويساره على مراتبهم ، فأجلس ملكهم الكبير جفري عن يمينه ، وأجلس أرناط برنس الكرك وبقيتهم عن شماله ، وجيء إليه بشراب من الجلاب مثلوجا ، فشرب ثم ناول الملك فشرب أولا ثم ناول أرناط صاحب الكرك ، فغضب صلاح الدين وقال له : إنما ناولتك ولم آذن لك أن تسقيه ، هذا لا عهد له عندي ، إذ كان في نيته أن يقتله ثأرا للنبي صلى الله عليه وسلم ، وإسقاؤه معناه تأمينه ..
ثم تحول به إلى خيمة صغيرة داخل تلك الخيمة ، كي لا يقتله أمامهم ، مراعاة لشعورهم ، واستدعاه ، فلما أوقف بين يديه دعاه إلى الإسلام فامتنع ، فذكره بتطاوله على النبي صلى الله عليه وسلم ، وقال له : نعم أنا أنوب عن رسول الله في الانتصار لأمته ، ثم قتله بنفسه ، وأرسل برأسه إلى الملوك وهم في الخيمة ، فلما علاهم الرعب والخوف لذلك طمأنهم بقوله: لم تجر عادة الملوك أن يقتلوا الملوك . (5).... إن هذا تعرض لسب رسول الله فكان هذا عقابه ..
ثم سار بعد ذلك إلى قلعة طبرية فأخذها عنوة ، واتجه بعدها إلى إقليم الأردن، فتسلم بلاده كلها (6). ثم ارتحل قاصدا عكا فدخلها عنوة أيضا ، واستنقذ من كان فيها من الأساري ، وكانوا زهاء أربعة آلاف نفر ، واستولى على ما فيها من الأموال والذخائر والبضائع والتجائر ..
وتفرقت عساكره بعد ذلك في بلاد الساحل يأخذون الحصون والقلاع والأماكن المنيعة ، ومن بينها نابلس وحيفا وقيسارية وصفورية والناصرة ، ثم سار هو إلى قلعة تبتين الحصينة ففتحها وأسر من بها من المقاتلين ، ثم فتح صيدا وبيروت وعسقلان والرملة وبينا والدارون وبيت جبرين والنطرون .. ثم رجع سائرا نحو غزة ونابلس وبيسان وأراضي الغور، فاسترد ذلك كله ، وكان جملة ما افتتحه في هذه المدة القصيرة خمسين بلدا..
ثم أمر جيوشه أن يستريحوا ، ويرعوا خيولهم ليعود إليها قوتها ونشاطها ، وأذيع في الناس أنه عازم على فتح بيت المقدس، فقصده العلماء والصالحون تطوعا، وجاءوا إليه من كل جهة ، فاجتمع من عباد الله ومن الجيوش شيء كثير جدا، فقصد بهم ـ رحمه الله ـ القدس ..فنزل غربي المدينة في الخامس عشر من رجب سنة ثلاث وثمانين وخمسمائة - فوجدها قد حصنت غاية التحصين، وكان فيها من عساكر الفرنجة ستون ألف مقاتل أو يزيدون، فأقام السلطان بمنزله خمسة أيام، وسلم إلى كل طائفة من الجيش ناحية من السور وأبراجه، ثم تحول السلطان إلى ناحية الشام لأنه رآها أوسع للمجال والجلاد والنزال، وقاتل الصليبيون دفاعا عن المدينة قتالا هائلا، ولكن ذلك لم يزد المسلمين إلا إصرارا ، وظلوا يرمون سور المدينة الحصين، حتى انهار الجانب الشمالي منه وخر برجه ، فلما شاهد الصليبيون ذلك قصد أكابرهم صلاح الدين ، وتشفعوا إليه أن يعطيهم الأمان، فامتنع من ذلك أولا وقال: لا أفتحها إلا عنوة، كما افتتحتموها أنتم عنوة، ولا أترك بها أحدا من النصارى إلا قتلته كما قتلتم أنتم من كان بها من المسلمين، فطلب صاحبها بالبان بن بازران الأمان ليحضر عنده فأمنه، فلما حضر ترقق للسلطان وذل ذلا عظيما، وتشفع إليه بكل ما أمكنه.. فوافق السلطان على الصلح أخيرا (7).
ودخل بعدها وجنوده مكبرين مهللين ، وكان أول ما فعله هو تنظيف المسجد الأقصى مما كان فيه من الصلبان والرهبان والخنازير، وغسلت الصخرة بالماء الطاهر، وأعيد غسلها بماء الورد والمسك الفاخر ، ثم صليت أول جمعة ببيت المقدس بعد فتحه في اليوم الرابع من شعبان سنة 583 هـ (8). وهو اليوم الذي يتوق كل مسلم إلى عودته ، ويدعو الله أن يزيد في عمره حتى يكون من شهود تحرير بيت المقدس مرة أخرى ..
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الهوامش :
1ـ رحلة ابن جبير - (ج 1 / ص 108) ..
2 ـ البداية والنهاية - (ج 12 / ص 375)..
3 ـ البداية والنهاية - (ج 12 / ص 385)..
4 ـ البداية والنهاية - (12 / 321)
5 ـ النوادر السلطانية والمحاسن اليوسفية - (ج 1 / ص 60)..
6 ـ النوادر السلطانية والمحاسن اليوسفية - (ج 1 / ص 60)..
7 ـ البداية والنهاية - (ج 12 / ص 396)..
8 ـ البداية والنهاية - (ج 12 / ص 399)..