بداية أقول للقارئ إني أقصد بقطز جنس الحاكم ، وأقصد بالعز جنس العلماء ، فبصلاحهما معا واتفاق رؤيتهما يتحقق النصر للأمة ، أما إن فسد كلاهما أو أحدهما ، أو تناقضت الرؤى بينهما فلن تجني الأمة إلا الشقاء .
نعم إن العالم إن لم يجد من الولاة من ينصر فكرته ، ويشد من أزره ، ولا يرغبه أو يرهبه فقد يحيد عن الحق ، والوالي أيضا إن لم يجد العالم الناصح الأمين فسيضل ويهوى بنفسه وبلاده إلى الهلاك والبوار ، وسيزداد ضلاله إذا كان العالم الذي يلازمه لا هم له إلا منافقته واسترضاء شهواته ونزغاته هو وحاشيته ، إذا كان هذا العالم طامعا في الدنيا وعطايا السلطان ، يبذل كل جهده ليحرف الكلم عن مواضعه طاعة لأوامر الوالي المستبد ، إذا كان هذا العالم جبانا رعديدا يخاف من الحاكم الذي وظفه ومنحه أعلى المناصب الدينية أن يستبدل به غيره ، إذا كان هذا العالم يخشى الناس أكثر من خشيته الله سبحانه وتعالى ..
إن سيف الدين قظز ـ رحمه الله ـ عندما هم بالخروج إلى التتار الذين صاروا قاب قوسين أو أدنى من أخذ مصر والشام ، وأرسلوا إليه طالبين منه أن يرفع الراية البيضاء ، وأن يعلن الخضوع والاستسلام لهم ، وأن يخرج لاستقبالهم وهم يأتون لاحتلال بلاده ـ ما كان يجرؤ على خلع الصبي الصغير (عليّ بن المُعزّ ) عن الملك ، بعد أن بان عجزه ، وانشغاله باللهو واللعب ، وتحكمت أمه في سياسته ، وصار لا يصلح أن يكون ملكا على البلاد في تلك الظروف العصيبة ، لولا أنه وجد التأييد المعنوي من الشيخ عز الدين بن عبد السلام ـ رحمه الله ـ والذي لقب بسلطان العلماء وهو أهل لهذا اللقب ، حيث أفتى له بعزله وأن يتسلطن مكانه .
ولولا أن قطز وجد التأييد المعنوي من الشيخ عز الدين ما استطاع أن يواجه تخاذل الأمراء والقادة عن الخروج للجهاد ، حيث أعلن هذا الشيخ أمامهم جميعا أنه : " إذا طرق العدو البلاد وجب على العالم كلهم قتالهم " ...
ولولا أن قطز وجد التأييد المعنوي من هذا الشيخ ما استطاع أن يسترد الأموال التي كنزها القادة والأمراء من أموال الدولة لينفق منها على إعداد جيشه وإكمال تسليحه ؛ كي يكون قادرا على مواجهة زحف التتار القادم ، فقد أعلن الشيخ في فتواه أنه "يجوز أن يؤخذ من الرّعيَّة ما يُستعان به على جهاد عدوهم ، بشرط أن لا يبقى في بيت المال شيء ، وأن يبيع الأمراء والقادة ما لهم من الممتلكات الزائدة، ويقتصر كل منهم على فرسه وسلاحه ، ويتساووا في ذلك هم والعامَّة ، وأعلمهم أن أخذ أموال العامة مع بقاء ما في أيدي الجند من الأموال والآلات الفاخرة لا يجوز " وقد أفتى بذلك وهو يعلم أن الأموال المكتنزة في حواصل هؤلاء ستكفي للإنفاق على المعركة ، ويبقى منها الكثير .
وقد جاء في خبر آخر أن قطز قال له : إن المال في خزانتي قليل ، وأنا أريد أن أقترض من التجار ، فقال : إذا أحضرت ما عندك وعند حريمك ، وأحضر الأمراء ما عندهم من الحلي ، وضربته سكةً ونقدًا، وفرقته في الجيش، ولم يقم بكفايتهم ذلك الوقت اطلب القرض، وأما قبل ذلك فلا. ..فما كان من قطز والجند إلا أن امتثلوا لأمره ..
ولولا أن الأمراء والقادة الذين غلبهم الخوف من التتار وجدوا من تشجيع الشيخ لهم والوعد بنصر الله ما تخلوا عن تخاذلهم وأقبلوا على جهادهم ، فقد وقف أمامهم واثقا من تأييد الله سبحانه وتعالى له ، وقال : " اخرجوا وأنا أضمن لكم على الله النصر" ..
ولكن عز الدين ( رمز العالم الصالح ) ما كان يستطيع أن يقف هذا الموقف الصلب ويجبر السلطان والأمر وسائر القادة على الخضوع لأمره لولا أنه مرن نفسه طوال عمره المديد على قول الحق دون أن يخشى في الله لومة .. فتاريخه مليء بالمواقف العظيمة التي تظهر صلابة معدنه ، وصدق نيته ، وحسن توكله على الله عز وجل ..
فقد دخل على السلطان أيوب بن الكامل في يوم عيد، فشاهد العسكر مصطفين بين يديه ، وقد خرج على قومه في زينته ، وأخذت الأمراء تُقبِّل الأرض بين يديه، فالتفت إليه وناداه قائلا : يا أيوب ! ما حجتك عند الله إذا قال لك: ألم أبوئ لك ملك مصر ثم تبيح الخمور؟! فقال: هل جرى هذا؟ فقال العز: نعم الحانة الفلانية يباع فيها الخمور، وغيرها من المنكرات، وأنت تتقلب في نعمة هذه المملكة ... فقال السلطان أيوب : يا سيدي ! أنا ما عملته !! هذا في زمان أبي !! فقال عز الدين : أنت من الذين يقولون: " إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ " فما كان من السلطان أيوب إلا أن أمر في الحال بإبطال تلك الخانة ومنع بيع الخمور.
ولما تعجب بعض تلامذته من جرأته تلك وسأله كيف أقدم على ذلك قال له: يا بني رأيته في تلك العظمة، فأردت أن أهينه؟ لئلا تكبر عليه نفسه فتؤذيه ، فقال له تلميذه : يا سيدي! أما خفته؟ فقال : والله يا بني لقد استحضرت هيبة الله - تعالى- فصار السلطان قدَّامي كالقط! ..
وموقف آخر له عندما رأى تحالف حاكم دمشق "الصالح إسماعيل بن الكامل" مع الصليبيين، وتنازله لهم عن بيت المقدس وطبرية وعسقلان لما وعدوه أن يتحالفوا معه ضد أخيه نجم الدين أيوب! فقام الشيخ عز الدين بمهاجمته من فوق منبر دمشق في خطبة الجمعة ، فما كان من الصالح إسماعيل إلا أن أمر بعزله عن الإمامة والإفتاء ..
ثم أرسله إليه من يحمل له رسالة الترغيب والتهديد في آن واحد ، وقال له : إن وافق فذلك، وإن خالف فاعتقله ، فذهب هذا الرجل إليه وقال له : يا إمام بينك وبين أن تعود إلى مناصبك وما كنت عليه وزيادة أن تنكسر للسلطان، وتقبل يده لا غير، فما كان من الشيخ عز الدين إلا أن قال : يا مسكين والله -الذي لا إله إلا هو- ما أرضى أن يقبل السلطان يدي فضلا عن أن أقبل يده، يا قوم أنتم في وادٍ وأنا في وادٍ، الحمد الله الذي عافاني مما ابتلاكم به.
أبى الشيخ ما عرضه عليه ولسان حاله يردد مقولة نبي الله يوسف عليه السلام " السجن أحب إلي مما يدعونني إليه " ..
والعجب أن الصالح إسماعيل لم يكتف بسجن الشيخ وإنما صار يقول للصليبيين : هذا أكبر رجل دين في المسلمين، وقد حبسته وعزلته عن الخطابة والتدريس من أجلكم.
وكم من حاكم ردد مثل تلك العبارة الدنيئة ، وإن لم يرددها بلسانه ، فيرددها بفعله فيعتقل ويسجن ويقتل ويعذب ويشرد الصالحين من أجل إرضاء أعدائه ..
ولكن الصالحين من عوام المسلمين ما كانوا ليتركوا شيخهم يسجن ويعتقل ويتخلون عنه وإنما أجبروا السلطان على الإفراج عنه ، وتركه ليهاجر إلى مصر ..
وفي مصر تلقاه نجم الدين أيوب بالترحيب وبالغ في إكرامه ، ثم ولاه قضاء القاهرة والوجه القبلي مع خطابة جامع مصر ( جامع عمرو بن العاص ) ثم حدث أن بعض غلمان وزير الصالح، وهو معين الدين ابن الشيخ، بنى بنياناً على سطح مسجد ، فأنكر عز الدين ذلك ، ومضى بجماعته وهدم البنيان، وعلم أن السلطان والوزير يغضبان، فأشهد عليه بإسقاط عدالة الوزير، وعزل نفسه عن القضاء، فعظم ذلك على السلطان، وقيل له: اعزله عن الخطابة وإلا شنع عليك على المنبر كما فعل في دمشق، فعزله فأقم ببيته يوعظ الناس ..
ولما رأى مضايقته قرر العودة إلى الشام، فتبعه العلماء والصلحاء والتجار والنساء والصبيان مناصرين له ؛ مما شجع بعض أعوان السلطان لأن يذهب ويقول له : متى ذهب الشيخ ذهب مُلكُك ، فخرج نجم الدين مسرعاً ولحق بالشيخ، وأدركه في الطريق وترضّاه، ووعده أن ينفّذ حكم الله في المماليك كما أفتى الشيخ ، فرجع العز ونفّذ الحكم!.
وهؤلاء العامة ما كانوا ليقفوا هذا الموقف المؤيد للشيخ لولا ما رءوه من صدق إخلاصه وحرصه على مرضاة الله والزهد في الدنيا والدفاع عن حقوقهم ..
نعم رءوا ذلك منه عندما رءوه يخرج ويحمل متاعه القليل على حماره ، ورءوه عندما حدث غلاء كبير بدمشق حتى صارت البساتين تباع بالثمن القليل، فأعطته زوجته مَصاغا ًلها، وقالت: اشتر لنا به بستاناً نَصيف به، فأخذ المصاغ وباعه وتصدق بثمنه، فقالت: يا سيدي اشتريت لنا؟ قال: نعم، بستاناً في الجنة، إني وجدت الناس في شدة فتصدقت بثمنه، فقالت له: جزاك الله خيراً
ورءه من خلال زهده في المناصب ، فقد جاء إليه رجل ذات يوم برسالة من الملك الأشرف بدمشق يخبره بعزله عن الإفتاء، فقال له: يا غرز من سعادتي لزومي لبيتي، وتفرغي لعبادة ربي، والسعيد من لزم بيته، وبكى على خطيئته، واشتغل بطاعة الله تعالى، وهذا تسليك من الحق، وهدية من الله تعالى إلي، أجراها على يد السلطان وهو غضبان، وأنا بها فرحان، والله يا غرز لو كانت عندي خلعة تصلح لك على هذه الرسالة المتضمنة لهذه البشارة لخلعت عليك، ونحن على الفتوح، خذ هذه السجادة صل عليها، فقبِلها وقبّلها، وودعه وانصرف إلى السلطان، وذكر له ما جرى بينه وبينه. فقال السلطان لمن حضره: قولوا لي ما أفعل به، هذا رجل يرى العقوبة نعمة ..
كما رءوه وهو نقي القلب صافي الفؤاد لا يحمل في قلبه كراهية ولا شحناء حتى لمن آذوه فقد أرسل إليه الملك الأشرف لما مرض يدعوه لزيارته فلم جاءه قال :: يا عز اجعلني في حل ، وادع لي فقال : أما محاللتك فإني كل ليلة أحالل الخلق ، وأبيت وليس عندي لأحد مظلمة ، وأرى أن يكون أجري على الله لا على عباد الله عملا بقول الله : ( فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ) ولم ينس خلال تلك الزيارة أن يذكر الأشرف بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ..
وبعد مغادرته أمر الشرف بأن يصرف له ألف دينار مصرية كصلة له ، فردها عليه، وقال: هذه زيارة لله لا أكدرها بشيء من الدنيا.
ورءوه عندما أذن الصالح إسماعيل للصليبيين في دخول دمشق وشراء السلاح، فأكثروا من ابتياع الأسلحة وآلات الحرب من أهل دمشق، فأنكر المسلمون ذلك، مما جعل بعض الصالحين يذهبون إليه يخبرونه بالأمر ، فأفتى على الفور بتحريم بيع السلاح للصليبيين ، ثم قطع من الخطبة يوم الجمعة الدعاء للصالح إسماعيل، واستبدل الدعاء له بقوله : اللهم أبرم لهذه الأمة إبرام رشد ، تعز فيه أولياءك، وتذل فيه أعداءك، ويعمل فيه بطاعتك، وينهي فيه معصيتك، حتى ضج الناس بالبكاء في دعائهم ..
ورءوه والظاهر بيبرس يعرض عليه في نهاية حياته أن يجعل أي أبنائه شاء خلفاً له في مناصبه بعد وفاته فأبى ذلك .. وقال: ما فيهم من يصلح، وهذه المدرسة الصالحية تصلح للقاضي تاج الدين أحد تلاميذه، ففوضت إليه.
وفي نهاية الحديث نقول : إن شخصية العالم المتمثلة في العز بن عبد السلام لم تكن هي وحدها سبب تتحقق النصر ، وإنما شاركها في ذلك شخصية الحاكم الصالح المتمثلة في قطز ، لأنه العز لو لم يجد الاستجابة من قطز وما حوله من الأمراء الذين جاهدوا معه ما تحقق من النصر شيء ، ولولا أن طبيعتهم كانت مهيأة لتقبل حض الشيخ لهم وتنفيرهم إلى القتال ما خرجوا ، ولو كانت نفوسهم جلبت على ما جلبت عليه طبيعة فرعون من النفرة من الحق وسماعه ما استجابوا له ، بل لكان مصيره القتل بدلا من الاعتقال ..
فإن غاية ما صنعه الصالح الذي كان أقسى الأمراء عليه هو أنه منعه من الخطابة ، وأمره بملازمة داره، وألا يفتى، ولا يجتمع بأحد البتة، ولما استأذنه في صلاة الجمعة، وأن يأتي إليه طبيب أو مزين إذا احتاج إليهما، وأن يدخل الحمام العام إذا أراد أذن له في ذلك، أما الطبيعة الفرعونية فما كان يصلح معها رجل العز بن عبد السلام ، ألم تروا كيف كان حال نبي الله موسى عليه السلام وما كان معه من آيات بينات ؟!!
لم ينفع كونه من أولي العزم من الرسل في أن يقنع فرعون وزبانيته بشيء حتى انتهى الأمر بإغراقهم وتدمير ما كانوا يصنعون وما كانوا يعرشون ، ولكن بعد أن تحولت الشعوب التي رضيت بتأليههم إلى فقر وبؤس وشقاء ، نتيجة ما نزل بهم من الجراد والقمل والضفادع والدم الذي لم يترك لهم شربة ماء من النيل العذب ليرووا بها ظمأهم !
نعم إنهما صنفان إذا صلحا صلح بصلاحهما المجتمع وتحقق النصر ، وإن فسدا فسد بصلاحهما المجتمع وحلت الهزائم ، العالم والحاكم .