بتـــــاريخ : 7/26/2010 3:12:24 PM
الفــــــــئة
  • الآداب والثقافة
  • التعليقات المشاهدات التقييمات
    0 1119 1


    تطور المنهج العلمي التجريبي عند علماء المسلمين

    الناقل : SunSet | العمر :37 | الكاتب الأصلى : د / سعد الدين خرفان | المصدر : www.altareekh.com

    كلمات مفتاحية  :
     

    1ـ المقدمة:

     

    ظهر الإسلام في الجزيرة العربية في القرن السابع الميلادي ، ولم يكن العرب أهل حضارة عريقة فقد شاعت فيهم الأمية وانتشر الجهل والخرافة فكانت أول آية نزلت على النبي الكريم بمثابة ثورة على هذا الواقع ، إذ إنها كانت تأمره بالقراءة والتي هي وسيلة العلم والمعرفة ، يقول الله تعالى: "اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ{1} خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ{2} اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ{3} الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ{4} عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ{5}" (سورة العلق الآيات 1-5).

     

     وفي أقل من قرن انتشر الإسلام حتى بلغ المحيط الأطلسي أو بحر الظلمات غرباً وحدود الصين شرقاً. وامتد من وسط أوروبة وبلاد ما وراء النهر شمالاً إلى الهند جنوباً. ومع توسع الدولة الإسلامية دخلت شعوب عديدة فيه. وكان لهذه الشعوب حضارات قديمة ومعارف مختلفة. ففي بلاد الشام ومصر كانت الحضارة الهلينيستية وريثة التلاقح الحضاري بين اليونان والشرق أيام الإسكندر المقدوني. وفي بلاد فارس كانت الديانة الزرادشتية والحضارة الفارسية القديمة. وفي السند كانت الحضارة الهندية العريقة. واتصل المسلمون بالحضارة الصينية عن طريق الحضارة الهندية وبلاد ما وراء النهر والتجارة.

     

    وهكذا استوعبت الحضارة الإسلامية الجديدة هذه العلوم والمعارف وولفت منها توليفة عجيبة لم يتهيأ مثلها من قبل في التاريخ. ولأول مرة تجتمع حضارة الشرق والغرب ومعارفهما في رباط متقن. وفي ذلك تقول الباحثة خولي(1): (كان العرب المسلمون أمة جديدة بلا تراث علمي سابق. فقرأوا التراث الفكري للقدماء بعقول متفتحة بلا خلفيات تعوقهم. ولذلك وقفت الثقافات الإغريقية واللاتينية والهندية والصينية جميعاً بالنسبة لهم على قدم المساواة وكان من نتائج هذه العقلية المتعطشة للمعرفة عند المسلمين أنهم أصبحوا بالفعل المؤسسين الحقيقيين لمفهوم العالمية أو وحدة المعرفة الإنسانية وهي إحدى السمات بالغة الأهمية بالنسبة للعلم الحديث).

     

    وأقبل العرب على نقل العلوم بسرعة عجيبة. يحضهم على ذلك دينهم الحنيف وتعاليمه السمحة وتسامحهم مع الأقوام التي حكموها وما تمتلكه من قيم ومعارف. وفي ذلك يقول الباحث كوبي(2): (كان المسلمون مفعمين بالحياة أنقياء. وكانوا أناساً تواقين متحمسين للفكر. وتتطلب الديانة الإسلامية من الأشخاص أن يفهموا القرآن من أجل أنفسهم. لذلك فإن معرفة القراءة والكتابة كانت منتشرة على عكس الكنيسة الرومانية المسيحية التي اعتمدت على فهم الإنجيل بواسطة رؤساء الكنيسة , وقد ترجم هذا التشديد على القراءة والكتابة إلى الاهتمام بكل الحرف الفكرية بما في ذلك السيمياء).

     

    ويقول في مكان آخر: (بدأ العرب باستيعاب وخزن معارف الأمم التي أصبحت تابعة لهم. وأصبحت بغداد المركز الفكري المتقدم لأوروبة وآسية وإفريقية. وقد قامت باستضافة المتعلمين من جميع الأنحاء ليقوموا بالتعليم في البلاطات العربية. وكان ضمن هؤلاء علماء هندوس وأطباء وكتبة. ولأن الهند كانت تتبادل إلى حد ما مع الصين فإن الاتصال بالمعرفة الهندية كان يعني الاتصال بالمعرفة الصينية).

     

     وابتدأ هذا النقل من مدرسة الإسكندرية في منتصف الحكم الأموي مع خالد بن يزيد وتزايد في نهاية هذا العصر مع ابن المقفع وترجماته المختلفة من الفارسية. ولكنه تسارع مع استقرار الدولة العباسية في عهد الخليفة المنصور. وتوسع في العصر الذهبي للخليفة هارون الرشيد الذي استخدم المترجمين وجلب لهم الكتب من عمورية ونيقية وأرسل الوفود الدبلوماسية لجلبها من بيزنطة. وتصل حركة الترجمة إلى أوجها في عصر المأمون الذي بنى (بيت الحكمة) وفرغ له أولاد موسى بن شاكر للترجمة والنقل والتأليف. وقام هؤلاء بتشجيع المترجمين والعلماء. وقد حكي عن إقباله الشديد رؤيته لأرسطو في المنام حتى قيل إنه كان يدفع وزن الكتاب المترجم ذهباً.


    ومنذ القرن الثامن الميلادي إلى نهاية القرن الثالث عشر كانت مرحلة التمثل لهذه العلوم وتأصيلها في الثقافة العربية الإسلامية. واستطاع العلماء العرب المسلمون هضم هذه العلوم والسيطرة عليها وبدء الابتكار فيها جميعها والتفوق على العلوم القديمة. وفي الوقت نفسه كانت أوروبة تعيش العصور الوسطى في ظلام دامس امتد من القرن الخامس الميلادي مع سقوط روما وحتى القرن الثالث عشر. وكانت الحضارة الإسلامية تعيش أزهى عصورها فهي لم تحتفظ بعلوم اليونان فحسب – كما يدعي بعض المفكرين في الغرب – وإنما أبدعت علوماً جديدة وزاوجت بين العلم اليوناني والتقانات من الحضارات الشرقية كالصينية وعلم الحساب من الهند. وكان أكبر إسهاماتها استخدامها للمنهج التجريبي في العلوم الذي انتقل منها إلى الغرب مما مكنه من تطوير العلم الحديث .

     
     

    2ـ تاريخ المنهج التجريبي وخصائصه:

     

    يعطينا تاريخ العلم فكرة واضحة عن تطور المناهج التي اتبعها حتى وصل إلى ما هو عليه الآن. وفي ذلك يقول الفيلسوف كانت (إن فلسفة العلم بدون تاريخه خواء وإن تاريخ العلم بدون فلسفته عمياء)(3). لقد أصبح من المتفق عليه تقريباً لدى جمهرة المهتمين بتاريخ العلم أن المعارف والعلوم في الحضارات القديمة كالمصرية والسومرية والبابلية والفارسية والهندية والصينية لم تأخذ الطابع العلمي قبل الحضارة اليونانية .وقد عبرت خولي(4) عن ذلك بحديثها عن الحضارة الصينية فقالت : (كان العلم الصيني يسير في مسار مختلف ومستقل عن مسار الحضارتين الغربية والعربية. فلم يعرفوا شيئاً عن أرسطو وإقليدس وبطليموس. وبالتالي افتقر العلم الصيني إلى المنطق البرهاني وإلى الرياضيات الاستنباطية والأصول النظرية التي برع الإغريق في صياغتها. ولكنها أسهمت برصيد هائل في العلوم التطبيقية).

     

    وعلى الرغم من أن اليونان استفادوا من منجزات هذه الحضارات في العلم والمعرفة وخاصة من الفينيقيين في شرق المتوسط ومن المصريين في جنوبه إلا أن أهم إنجاز لهم كان في تقديمهم لهذه المعارف والعلوم بشكل منظم، وبنسق محدد. وفي ذلك يقول ريزنك(5) : (إن المنهج العلمي كما هو معروف اليوم لم ينشأ فجأة أو بمحض الصدفة. ففي الغرب دارت مساجلات حول كيفية اكتساب المعرفة ترجع أصولها إلى اليونان القديمة حيث ناقش أفلاطون وأرسطو دور التأمل والملاحظة والاستنباط والاستقراء في اكتساب المعرفة. وقد رأى أفلاطون أنه من الممكن أن نكتسب معرفة حقيقية فقط عن طريق تأمل صور سرمدية ثابتة وغير فيزيقية. ولما كانت الطبيعة تتغير بانتظام فإن المعارف التي نكتسبها من خلال الحواس تواصل مسار الجهل وليس المعرفة الأصيلة. واعتقد أرسطو على الجانب الآخر أن من الممكن أن نحصل على المعرفة عن طريق ملاحظة العالم الطبيعي مادامت الصور قد تكون كامنة في الطبيعة. وادعى أرسطو أن الاستقراء والاستنباط يلعبان دوراً مهماً في العلم ، إذ يمكننا أن نستخدم الاستقراء لنمو التعميمات الكيفية ، وذلك من خلال ملاحظتنا للطبيعة. ومن الممكن استخدام الاستنباط لنشتق نتائج إضافية من هذه التعميمات أي تفسيرات وتنبؤات. وبينما قدم أفلاطون إسهامات غاية في الأهمية في الفلسفة والسياسة نجد معظم مؤرخي العلم يؤكدون بالفعل على أن أرسطو هو الذي وضح حجر الأساس للمنهج العلمي. إن الأفكار الأرسطية بصدد المعرفة والمنهج ساهمت في تشكيل العصر الذهبي للعلم الهليني).

     

    إذن لقد وضع أرسطو أسس المناهج المستخدمة في العلم وعلى الأخص منهج الاستنتاج والقياس والذي يؤدي إلى الخروج بقضية (نتيجة) من قضيتين مطروحتين (مقدمتين) فإذا كانت المقدمتان يقينيتين واتبعنا سبيل القياس الأرسطي فلا بد أن تكون النتيجة يقينية. وكذلك فقد وضع أرسطو منهج الاستقراء واستخدم له المصطلح Epagoge وبحث معانيه في كتاب (الطوبيقا) وحدده بثلاث طرق: الاستقراء التام (لجميع أفراد العينة) والاستقراء الناقص الذي يكتفي بعدد قليل ثم يعمم إلى القانون الكلي والاستقراء الجدلي الذي يبدأ من مقدمات ظنية فتكون النتائج احتمالية. وقد استعمل أرسطو هذا المنهج وأوصى قواد تلميذه الاسكندر بجلب عينات من البلدان المفتوحة ليستكمل بحوثه في علم الأحياء. كما أنه أشار إلى أهمية الحواس بوصفها أبواب المعرفة. إلا أن أرسطو شأنه في ذلك شأن اليونان في ذلك العهد كانوا يمجدون النظر العقلي والتفكير التأملي ويحتقرون العمل اليدوي والحرفة ويعتبرونها من مهام الرقيق الذي كان منتشراً في ذلك الوقت. ولذا فعلى الرغم من معرفته بالاستقراء وأهميته إلا أنه لم يمارسه إلا على نطاق محدود بينما انصرف الاهتمام في معظمه إلى استخدام الاستنتاج والقياس كطريقة مثلى للوصول إلى المعرفة اليقينية. وقد عبرت خولي عن ذلك (بصفة عامة فقد انحسرت المباحث التجريبية وتمركزت إنجازات الإغريق العظمى في العقل النظري والعلوم الاستنباطية أي في المنطق والرياضيات لأنهم دأبوا على تمجيد النظر وتحقير العمل حتى جاهر أرسطو بأن العبيد مجرد آلات حية لخدمة السادة الأحرار المتفرغين لممارسة فضيلتي التأمل والصداقة. وبذلك فقد كان العلم الإغريقي المقابل الصريح للعلم الصيني)(6).

     

    وفي القرون الوسطى ترجمت أعمال الإغريق إلى العربية فلقي كتاب أرسطو في المنطق ترحيباً في بعض الأوساط. وقد رأى بعض العلماء كالغزالي أن في علم المنطق فائدة ويمكن الاستفادة منه للدفاع عن الدين وعقائده. ولاشك أن كثيراً من الفقهاء أيضاً رأوا فيه وسيلة ناجعة واستخدموه في قياسهم الفقهي. ولذا فقد أصبح قياس أرسطو ومنطقه الاستنتاجي عموماً هو منهج البحث العلمي المعتمد في القرون الوسطى وسمي هذا المنطق بالأورغانون أو الأداة.

     

    وقد تعزز هذا المنطق في أوروبة بعد أن ترجمت أعمال ابن رشد الشارح الأكبر لأعمال أرسطو إلى اللاتينية. وقد بنى عليها القديس توماس الأكويني مدرسته المعروفة التي سميت بالسكولاستية أو المدرسييين وهم الذين قدسوا منهج أرسطو وعلومه ورفعوها إلى رتبة القداسة بعد أن فسروها بما يتوافق مع عقائد الدين المسيحي. وبذلك أصبحت علوم أرسطو ومناهجه جزءاً من العقيدة المسيحية. وظل هذا الأمر إلى أن ترجمت الأعمال العربية إلى اللاتينية وبدأ عصر العلم الحديث في أوروبة بكوبرنيكوس وبدأ الصراع بين العلم الحديث والكنيسة .
    أما في العالم الإسلامي فقد استخدم منهج أرسطو الاستنتاجي كما ذكرنا في الفكر والمنطق وعلوم الكلام والفقه. ومع ذلك فقد كان هناك من لم يقبل بهذا المنطق كابن تيمية الذي كتب كتابه (نقض المنطق) و (الرد على المنطقيين) وشن حملة شعواء على أرسطو ومنطقه. وكذلك فإن العلم الطبيعي لدى علماء المسلمين بدأ يطور منهجه التجريبي الذي يقوم على الاستقراء ويتوسع فيه ليجري التجارب ويقارن النتائج ويعممها ويكممها بشكل لم يكن معهوداً من قبل. وقد ظهر علماء كبار وصل هذا المنهج التجريبي على أيديهم إلى درجة عالية من الرقي مثل الرازي وابن الهيثم والبيروني. وقد أدى هذا إلى تقدم العلم وتحرره من النظريات اليونانية وبذلك يكون العلماء المسلمون قد بذروا بذور العلم الحديث الذي انتقل إلى أوروبة.

     

    ومع انتقال العلوم الإسلامية إلى أوروبة عن طريق الترجمة بدأ العلم الحديث هناك مستفيداً من آخر ما توصل إليه العلماء المسلمون من بحوث. لقد كانت البدايات في إثبات كوبرنيكوس بأن الشمس وليست الأرض هي مركز الكون متأثراً بنظرية ابن الشاطر الذي ذكرها قبله بثلاثة قرون. وبدأ العلماء في أوروبة يبتعدون عن الآراء المسبقة التي تبنتها الكنيسة ويعتمدون على العقل وعلى استقراء الطبيعة عن طريق الملاحظة والتجربة. وكان أشهر من نظروا لهذه المناهج ديكارت وبيكون. تقول خولي(7): (إن العلم الحديث يدين لاثنين من كبار الرواد أولهما رينيه ديكارت (1596-1650م) أبو الفلسفة الحديثة الذي أكد أن العقل أعدل الأشياء قسمة بين الناس يدرك البديهيات بالحدس أي الإدراك الفوري المباشر ويصل إلى الحقائق اليقينية. (الله لا يخدع أبداً فلنثق في الله وفي العقل ولنرفع الوصاية عن الإنسان لينطلق باحثاً عن الحقيقة ومشيداً للعلوم). فقدم ديكارت واحدة من أمضى صور العقلانية.

     

    وأما الرائد الثاني لعقلانية القرن السابع عشر فيرتبط اسمه مباشرة بحركة العلم الحديث انه فرانسيس بيكون (1561- 1626م) الذي رفع الوصاية عن الإنسان عن طريق الثقة في الحواس وفي الطبيعة فكان أبا التجريبية الحادة التي اقترن بها العلم الحديث في مراحله الأولى). وقد صاغ بيكون كتابه الذي عنونه بالأورغانون الجديد رداً على أورغانون أرسطو وقال فيه (لقد فقدوا غاية العلوم وهدفها واختاروا طريقاً خاطئاً بإتباعهم منهجاً ليس من شأنه أن يكشف جديداً من مبادئ المعرفة ويكتفي باتساق النتائج معاً. فليكف الناس عن التعجب من أن تيار العلوم لا يجري قدماً في طريقه الصحيح.

     

    لقد ضللهم منهج البحث الذي يهجر الخبرة التجريبية ويجعلهم يلفون ويدورون حول أنفسهم في دوائر مغلقة بينما المنهج القويم يقودهم من خلال إخراج التجربة إلى سهول تتسع لبداهات المعرفة)(8). لقد عرض بيكون في كتابه الرئيس تقدم العلم 1605 الذي يعتبر أهم كتبه ما أسماه (إعادة البناء العظمى) لجميع فروع المعرفة الإنسانية. وكانت نقطة الانطلاق عنده أن أسلوب التفكير ذاته قد تردى وأنه كان في أسوأ عهوده.

     

    لقد أصابه شر تعاليم المدرسة السكولاستية التقليدية القاحلة باعتماده على النصوص (مثل نص أرسطو) أكثر من اعتماده على التجربة. وقال بأن ذلك قاد إلى جدل عقيم بدلاً من الإبداع وادعى لعلاج ذلك الطريق الصحيح الوحيد لتقدم الفهم وهو المنهج الاستقرائي. ويجب أن نذكر هنا أن بيكون لم يتعرض إلى الدين وقال بأن حقائق الدين تقع وراء نطاق اختبار العقل ولا طائل من البحث عن حقائق الطبيعة في اللاهوت أو البحث في اللاهوت المقدس عن حقائق الطبيعة.

     

     لقد أدى أتباع هذا المنهج في أوروبة إلى التقدم العلمي المذهل في شتى أنواع العلوم. وقد ظهرت بعد ذلك الوضعية على يد أوغست كونت (1798ـ1857م) التي مثلت حالة متطرفة من التجريبية. وقد صنف كونت تطور العقل البشري على مراحل ثلاث هي الغيبية الدينية والفلسفة الميتافيزيقية والمرحلة العلمية الوضعية. وظهرت بعد ذلك نظرية الفيزياء الكوانتية ونظرية النسبية اللتين يصعب توافقهما مع الوضعية. ومنذ عام 1932 ظهر كتابان يحاربان الوضعية. الأول ظهر في فيينا ومؤلفه كارل بوبر والثاني في فرنسا ومؤلفه غاستون باشلار. لقد اعتقد بوبر في كتابه (مدخل لدراسة الطب التجريبي) أن التجربة يسبقها تدبير لظروفها ولإيجادها لأن تعميم التجربة ليس إلا توجيه سؤال يراد الإجابة عليه. أي أن الفرضية تسبق التجربة التي تثبت صحتها أو بطلانها.

     

     من هنا نجد أن أهم خصائص التفكير العلمي الحديث هي:

     

    1-     البدء بتطهير العقل من معلوماته السابقة.

     

    2-      الملاحظة الحسية مصدر وحيد للحقائق.

     

    3-      نزوع العلم الحديث إلى التكميم

     

    4-     موضوعية البحث ونزاهة الباحث

     

    5-     الاعتقاد مقدماً في مبدأ الحتمية

     

    6-     توافر الثقافة الواسعة للعلماء

     

    7-     التراكم العلمي

     

    8-     عالمية العلم الحديث ونشره.

     

     3ـ مراحل تطور المنهج التجريبي لدى المسلمين:

     

     3-1 مرحلة النقل:

     

     بدأت حركة النقل منذ منتصف الخلافة الأموية. وكانت بداياتها مع خالد بن يزيد بن معاوية ت 85 هجرية ولكنها لم تتوسع إلا في العصر العباسي وخاصة خلال خلافتي الرشيد والمأمون. لقد أسهم المترجمون في تكوين المصطلح العلمي والفلسفي الذي لا يزال بعضه يستخدم إلى الآن. وكانت الترجمة في بادئ الأمر تتم من اللغة الأصلية إلى السريانية ومنها إلى العربية ثم أصبحت بعد ذلك تتم من اللغة الأصلية إلى العربية مباشرة. وكان المترجمون على نوعين السريان والمسلمون. فكانت أغلب أعمال السريان من اليونانية أو السريانية. أما المسلمون فترجموا مباشرة من الفارسية والهندية إلى العربية. ومن أبرز هؤلاء المترجمين في مجال الترجمة العلمية ما سرجويه ويسمى أيضاً ماسرجيس وقد نقل موسوعة طبية يونانية تسمى الكناش وأبو يحيى البطريق الذي ترجم أربع مقالات في علم النجوم لبطليموس وكتاب النفس والحيوان لأرسطو. وآل بختيشوع ومنهم جورجيس بن جبريل الذين ترجموا الكتب الطبية وآل حنين وأشهرهم حنين بن اسحاق الذي ترجم سبعة من كتب أبوقراط ومعظم أعمال جالينوس الطبية وآل قرة وأبرزهم ثابت بن قرة وقد ترجم سبعة من كتب أبولينوس الثمانية في المخروطات ونقل كتاب جغرافية المعمور وصفة الأرض لبطليموس وقسطا بن لوقا البعلبكي الذي نقل كتباً كثيرة من أهمها كتاب الحيل وكتاب أوطولوقس ومحمد بن ابراهيم الفزاري الذي ترجم أهم كتب الفلك من اللغة السنسكريتية. وبذلك فقد ترجمت معظم المؤلفات المشهورة مع نهاية القرن الثالث الهجري .لقد كانت الترجمة هي الخطوة الأولى والهامة في تشييد الصرح العلمي الذي بناه العرب في العصور الوسطى.

     

    3-2 مرحلة الإنتاج والابتكار :

     

    وبعد أن تمت عملية النقل واستقرت أحوال الدولة العباسية اقتصادياً واجتماعياً وعسكرياً برز علماء ومفكرون استوعبوا هذه العلوم ، ثم قاموا بالتأليف فيها بعد أن أعملوا فيها أفكارهم واجتهاداتهم. وصارت لهم طرقهم الخاصة التي اعتمدت على الاستقراء المبني على الملاحظة والتجربة واعتبروها هي الأساس وخاصة في العلوم الطبيعية ، ولم يتورعوا عن تبيان أخطاء من سبقهم.

     

    وقد كان لأسلوب الجرح والتعديل الذي اتبعه علماء الحديث في وقت أبكر في تدقيق الحديث وتمييز الصحيح من الموضوع أثر كبير في توجيه منهج المسلمين في البحث العلمي. لذا نجد أن علماء المسلمين جعلوا البرهان دليلاً لهم في شتى ميادين المعرفة. يقول جابر بن حيان 200 هجرية (إن واجب المشتغل في الكيمياء هو العمل وإجراء التجربة وإن المعرفة لا تحصل إلا بها). ويقول أيضاً (ويجب أن نعلم أننا نذكر في هذه الكتب خواص ما رأيناه فقط دون ما سمعناه أو قيل لنا وقرأناه بعد أن امتحناه وجربناه. فما صح عندنا بالملاحظة الحسية أوردناه وما بطل رفضناه).

     

    ولعل أبرزهم في ذلك الحسن بن الهيثم 1029م الذي يقول في مقدمة كتابة (المناظر) (يبدأ في البحث باستقراء الموجودات وتصفح أحوال المبصرات وتمييز خواص الجزئيات ويلتقط ما يخص البصر في حال الإبصار وما هو مطرد لا يتغير وظاهر لا يشتبه في كيفية الإحساس ، ثم نترقى في البحث والمقاييس على التدريج والتدريب مع انتقال المقدمات والتحفظ في الغلط في النتائج)(9). وعندما اجتاح الطاعون أوروبة في منتصف القرن الرابع عشر الميلادي عده أطباؤها قضاء من الله لا يرد بينما تحدث ابن الخطيب الغرناطي في رسالته (مقنعة السائل عن المرض الهائل) عن العدوى فيقول : (فإن قيل كيف نسلم بعدوى المرض وقد ورد في الشرع بنفي ذلك؟ قلت لقد ثبت وجود العدوى بالتجربة والاستقراء والحس والمشاهدة والأخبار المتواترة وهذه مواد البرهان).

     

    وأما الطبيب أبو بكر الرازي فيمثل هذه الاتجاه خير تمثيل وينسب إليه كتاب بعنوان (التجارب) لا يزال محفوظاً فيه جمل من تجاربه في الطب السريري جمعها أحد تلاميذه. وعن استخدامه التجربة وأخذ عينة شاهد يقول مرحبا (لم تكن التجربة عنده مرتجلة مباشرة مبنية على الصدفة والاتفاق كما كان حالها عند اليونان ، بل لقد كانت تجربة موجهة مدروسة ، إذ كان يقسم مرضاه مجموعتين أو أكثر ، يعالج إحداهما بنوع من العلاج ، ويتوقف عن علاج الأخرى ، ثم يراقب الأثر والنتيجة في أفراد كل من المجموعتين ليصل إلى الحكم السديد في قيمة العلاج)(10).

     

    ومن تجاربه أنه كان يجرب على الحيوان فيقول : (كما أن الرازي أجرى التجارب على الحيوانات وعلى القردة خاصة لشدة شبهها بالإنسان ، فكان يجرع القردة الزئبق ويختبر تأثير الأدوية فيها ، ويسجل جميع ما يشاهده ، بل لقد كان يجرب على نفسه ليرى ما يكون من أمر الدواء الذي يستعمله لعلاج مرض أصابه).

     

     ويروى عنه أنه عندما استشاره عضد الدولة في بناء المشفى اخترع طريقة مبتكرة تمثل منهجه للتحقق من جودة الهواء وصلاح الموقع. فكان يعلق اللحوم في أنحاء مختلفة من بغداد في وقت واحد فأيها أسرع إليه العفن اجتنب مكانه ، واختار المكان الذي تتأخر فيه عوارض الفساد.

     

     وأما ابن النفيس فيقول في مقدمته لكتاب (شرح قانون ابن سينا) : (أما منافع الأعضاء فإنما يعتمد في تعريفها على ما يقتضيه النظر المحقق والبحث المستقيم. ولا علينا أوافق ذلك الرأي أم خالفه ).

     

    وكان رشيد الدين الصوري 1241 م صاحب كتاب الأدوية يدرس النباتات في منابتها بل يستصحب معه إلى لبنان وسورية مصوراً يحمل أصباغاً مختلفة. فإذا شاهد النباتات في منابتها حققها واطلع المصور عليها لينقلها بألوانها ومقادير ورقها وأغصانها وأصولها ويصورها كما تبدو في الواقع(11).

     

    3-3 مرحلة انتقال العلوم إلى أوروبة :

     

    مع احتكاك العرب المسلمين بأوروبة أثناء الحروب الصليبية وعلى الأخص في الأندلس وصقلية بدأت عملية نقل العلوم والمعارف الإسلامية إلى الغرب. وقد تم هذا النقل من اللغة العربية إلى اللغة اللاتينية ، وأحياناً إلى اللغة العبرية ومنه إلى اللاتينية. ولم يبدأ النقل والترجمة من اليونانية إلى اللاتينية إلا في وقت متأخر. وقد أدرك الأوروبيون الذين كانوا يعيشون عصر الظلمات ما في هذه المعارف من قيم وفي ذلك يقول هاف : (كان لابن ماجه وابن ميمون وابن رشد أهميتهم بالنسبة للغرب أكثر مما كانت لهم للحضارة العربية الإسلامية ، فقد اضطهد ابن ميمون وابن رشد ومات ابن ماجه مسموماً )(12).

     

    وقد شهدت أوروبة في القرن الثاني عشر والثالث عشر نمواً اقتصادياً و اجتماعياً وديموغرافياً. وشهدت مدنها نمواً مضطرداً بسبب صعود الطبقة الوسطى البورجوازية وتقهقر عصر الإقطاع. وكانت المعارف في القرون الوسطى محصورة في الأديرة التي اقتصر فيها التعليم على الأساسيات و علم اللاهوت. ومع هذا التغيير بدأت العلوم تنتقل من الأديرة إلى المدن وتأسست الجامعات.

     

    ومع إن الأكاديميين في هذه الجامعات كانوا لا يزالون ضعفاء في مواجهة المعارضة الكنسية إلا أنهم بدءوا بدراسة النصوص المترجمة حديثاً من العربية واليونانية. وقام الموسوعيون بجمع المعلومات في موسوعات والمدرسيون بمناقشة المعرفة في سياق الإنجيل والتوراة والتجريبيون باختبار هذه المعارف الجديدة(13).

     

    وقبل القرن الثاني عشر كانت الترجمة محصورة في أفراد قلائل مثل جيربرت أوريلاك الذي عرف فيما بعد باسم البابا سلفستر الثاني. وقسطنطين الأفريقي ت1002 م الذي قضى فترة في البابوية وكان ملماً بالتراث العربي من إسبانية وسافر في شمال إفريقية والمشرق العربي ولكنه أصبح غير مرغوب به في تونس. ثم سقطت بالرمو في صقلية عام 1072.

     

     وفي عام 1224م تأسست جامعة نابولي وجلب علماء مسلمون إليها لترجمة المؤلفات العربية إلى اللاتينية. وبعد سقوط قرطبة مباشرة عام 1120 م قام رئيس الأساقفة ريموند بتأسيس مركز للترجمة في بلاطه. وأتى إلى هذه المدرسة علماء بارزون أمثال روبرت الشستري وأديلار الباثي وجيرار الكريموني وميخائيل السكتلاندي. ولعل جيرار الكريموني كان أكثرهم إنتاجاً وشهرة في الغرب. فلقد ترجم حوالي 87 كتاباً من العربية والإغريقية. وقد اصطبغ العديد من الأسماء العربية باللاتينية مثل أفسينا (ابن سينا) وأفيروس (ابن رشد) والهازن (الخازن) و الباتينيس (البتاني). وقد وضع دانتي في عمله (الكوميديا الإلهية) الذي كتبه في العقد الأول من القرن الرابع عشر ابن رشد وابن سينا مع الوثنيين الفضلاء .

     

    3-4 مرحلة التقهقر والانتكاس:

     

    شهد العالم الإسلامي في القرنين الثاني عشر والثالث عشر تقهقراً في شتى المجالات. لقد أدت الحروب الطويلة كالغزو المغولي والحروب الصليبية في المشرق وحروب الاسترداد في المغرب إلى إنهاك قواه وتدمير مراكز الحضارة فيه وتوجيه إمكاناته المادية والبشرية إلى مقاومة هذه الاجتياحات. وكان رد الفعل على هذا الغزو والحروب هو ضعف الثقة بالنفس وارتداد الناس إلى الإيمان الغيبي وازدياد التعصب والانقسامات المذهبية والطائفية والجمود العقائدي والتضييق على حرية الفكر. وقد تجلى هذا في تحريم الفلسفة واضطهاد الفلاسفة والعلماء , وفي هذا يقول هاف: (مع إن كتاب ابن رشد كان معروفاً في الشرق فإن وجهة نظره كانت غريبة على أولئك الذين اعتبروا أنه لم يقل شيئاً. ومن المفارقات أن مؤلفاته قدرت كثيراً في الغرب وبخاصة شرحه وتعليقاته على أرسطو)(14).

     

    وكذلك الأمر بالنسبة لكثير من العلماء والفلاسفة ومنهم ابن خلدون مؤسس علم الاجتماع الذي لم ينتبه إليه العلماء المسلمون حتى جاء من الغرب من يظهر أفكاره ويعطيها ما تستحقه من التقدير .

     

    4ـ أسباب التقدم العلمي لدى المسلمين :

     

    ربما يبرز السؤال ما هي الأسباب التي وقفت وراء التقدم العلمي للمسلمين ؟ لقد كان أولى هذه الأسباب هو أن الدعوة الإسلامية الجديدة كانت تحض على العلم. والشواهد على ذلك كثيرة في الكتاب والسنة. ولا مجال هنا لحصرها أو تعدادها. ففي القرآن قوله تعالى (إنما يخشى الله من عباده العلماء) (سورة فاطر الآية 28) وفي آية أخرى (قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون) (سورة الزمر الآية 9). وفي آية أخرى (يرفع الله الذين آمنوا والذين أوتوا العلم منكم درجات) (سورة المجادلة الآية 11).

     

    وفي أحاديث النبي وسيرته تأكيد على هذا الاهتمام بالعلم ؛ لأنه كان يريد بناء حضارة وتشييد دولة ، فقد جعل الرسول الكريم فداء أسرى المشركين يوم بدر تعليم كل واحد منهم لعدد من الصبية القراءة والكتابة.

     

     وهذه أول محاولة لمحو أمية جماعية لا نزال نعاني منها إلى اليوم. وللرسول الكريم أحاديث كثيرة تجعل العلم بمثابة العبادة (منهومان لا يشبعان طالب علم وطالب مال). و(طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة). وأيضاً (اطلبوا العلم من المهد إلى اللحد).

     

     ونجد في القرآن الكريم آيات تشير إلى وجوب الإيمان عن طريق التصديق بما جاء في القرآن وخاصة ما يتعلق بالإلهيات والميتافيزيقية وهي التي يقصر عنها العقل وتقع خارج مجال الحس. يقول تعالى: "آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ "  (سورة البقرة الآية 285).

     

    وفي آيات أخرى يحض المؤمنين على النظر في الطبيعة والتفكير فيها واستقرائها للاهتداء إلى الخالق "إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِّأُوْلِي الألْبَابِ " (سورة آل عمران الآية 190). ويقول في آية أخرى: "َفَلَا يَنظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ{17} وَإِلَى السَّمَاء كَيْفَ رُفِعَتْ{18} وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ{19} وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ{20} فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ{21}" (سورة الغاشية الآيات 16- 21). وبهذا يكون بتشجيعه المسلمين على استقراء الطبيعة واستجلاء ما فيها من أسرار قد زرع أسس المذهب الاستقرائي الذي لم يكن موجوداً بهذا الشكل المتقدم لدى الأمم السابقة والذي كان من أهم إنجازات العلم في الإسلام.

     

    ومن هذه الأسباب أيضاً أن الإسلام الذي حض على التفكير واستخدام العقل للوصول إلى حقيقة الكون وفهم أسرار الحياة لم يجعل ذلك لأسباب ذهنية صرفة وإنما وجه ذلك لخدمة الناس ومنفعتهم في دينهم ودنياهم. قال تعالى: "وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا " (سورة القصص الآية 76). وجاء في الحديث الشريف: (اعمل لدنياك كأنك تعيش أبداً واعمل لآخرتك كأنك تموت غداً). وفي الدعاء المأثور: (اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وزدنا اللهم علماً). وفي الحديث الشريف أيضاً: (إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له).

     

     وعلى الرغم من أن العديدين في الشرق والغرب اتهموا حجة الإسلام الغزالي بعدائه للفلسفة والتفكير العقلي إلا أنه في الحقيقة فرق بين العلوم الدنيوية النافعة والفلسفة وعلى الأخص الإلهيات.

     

    ودعا إلى الاستفادة من علوم الأقدمين الدنيوية حتى علم المنطق رأى فيه فائدة ومنفعة للمسلمين من أجل القياس الفقهي والدفاع عن معتقداتهم. وكذلك فقد خلق الإسلام حاجات جديدة للناس كان لابد من تطوير العلوم من أجل تلبيتها. فالحساب وعلم الجبر كانا ضروريين لنظام الميراث وعلم الفلك كان أساسياً لمعرفة مواعيد الصوم والصلاة والحج. والجغرافية أيضاً تفيد في الأسفار والحج والعمرة إلى بيت الله الحرام. وكانت هذه الحاجات الدنيوية سبباً في تطوير هذه العلوم. يقول ماكليش: (كان هدف الخوارزمي من كتاب الجبر تمكين العلميين من حل مسائل معقدة مثل حساب توزيع الإرث على مستحقيه وفقاً للشريعة الإسلامية التي قيدت الموصي في التصرف بأملاكه لزوجته وأولاده وبناته وإخوته وأبناء إخوته وبنات الأخوة والأخوات وفق نسب معينة حسب درجة القرابة من المورث. ولكنه أيضاً تجاوز هذه الشؤون الدنيوية ذلك أنه كان مهتماً بالنواحي النظرية للجبر باعتباره علم المعادلات)(15).

     

     ولعل اتساع رقعة الدولة الإسلامية وربطها الحضارات الشرقية كالصينية والهندية والفارسية مع الحضارات الغربية كالبيزنطية والرومانية والقوطية كان عاملاً ثالثاً في تقدم العلم لدى المسلمين. وقد حض الإسلام على الاختلاط والتواصل والتحاور بين الأمم والشعوب. قال تعالى ?يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ? (سورة الحجرات الآية 13).

     

     كما أنه دعا إلى طلب المعرفة من كافة مصادرها كما فعل الرسول عندما أخذ بفكرة الخندق من سلمان الفارسي وكما يقول الحديث الشريف: (الحكمة ضالة المؤمن أينما وجدها فهو أحق بها). وقد دعا الرسول الكريم إلى طلب العلم ولو كان في الصين. وهذا يعني أنه لا يوجد أي مانع يمنع من الأخذ بعلوم الآخرين كما أنه لا توجد لدى الصينيين علوم شرعية مما يعني أنه كان يقصد بالعلم هنا كل العلوم التي تفيد المسلمين في دنياهم وتزيدهم قوة ومنعة. لقد كان العلم اليوناني ينقصه المنهج الاستقرائي على الرغم من أننا نجد بعضاً من ملامحه في كلام أرسطو عن الطبيعيات. ولكن هذا المنهج كان يقوم على الملاحظة الحسية فقط مع إهمال التجريب.

     

    وكان هذا لاحتقار اليونان للعمل اليدوي الذي كان من اختصاص العبيد وتقديرهم للتفكير النظري المجرد. أما الحضارات الشرقية فقد جلبت كثيراً من الاختراعات والابتكارات التجريبية كما هو حال الحساب ونظرية الأعداد من الهند والورق والطباعة والبوصلة واختراع البارود من الصين. وقد جمع المسلمون بين هذين المنهجين فكان لهم منهجهم الخاص الذي يشجع على الاستقراء والتجربة ضمن المنهج العلمي.

     

     وفي ذلك يقول كارل مينتجنر (كانت بغداد وقرطبة الخلافتان العربيتان المشرقية والمغربية موضعين طرفيين لنظام عملاق يمتد إلى عدة قارات. ومن بينهما تدفق التيار الحضاري عبر كابل فائق الموصلية بلغة عربية واحدة. كان اتجاه التيار من الشرق إلى الغرب. فالشرق إذا تابعنا بأسلوب المجاز هو المرسل والغرب هو المستقبل)(16).

     

     وتقول خولي : (بصفة عامة انحسرت المباحث التجريبية وتمركزت انجازات الإغريق في العقل النظري وفي العلوم الاستنباطية أي في المنطق والرياضيات لأنهم دأبوا على تمجيد النظر وتحقير العمل حتى جاهر أرسطو بأن العبيد مجرد آلات حية لخدمة السادة الأحرار المتفرغين لممارسة فضيلتي التأمل والصداقة. لقد كان العلم الإغريقي المقابل الصريح للعلم الصيني )(17).

     

    ومن الأسباب الأخرى تشجيع الخلفاء على الترجمة واقتناء المكتبات الضخمة. فقد أسس المأمون بيت الحكمة وأوكل إدارته لأبناء موسى وأجزل العطاء للمترجمين. وكان عدد من الخلفاء يبادلون أسراهم بالكتب من البيزنطيين. وقد ساعد على هذا توفر مناخ من الحرية الفكرية ووجود جو من التسامح.

     

     5ـ أسباب تراجع العلم لدى المسلمين:

     

    بقي العالم الإسلامي مركز الإشعاع الحضاري في شتى ضروب المعرفة من القرن الثامن إلى القرن الثالث عشر الميلادي. ولكنه في القرنين الثاني عشر والثالث عشر عاش حروباً مدمرة واجتياحات أتته في الوقت نفسه من الغرب والشرق. فمن الشرق أتت جحافل المغول مدمرة الزرع والضرع ومخربة للبلاد والعباد. وعندما استولى المغول على بغداد أهلكوا من كان فيها. كما دمروا المكتبات وألقوا بالكتب في نهر دجلة حتى قيل بأنه جرى أسود لأيام عدة. وفي ذلك يقول كوبي : (حطم الغزو المغولي المدن العربية الكبرى ودمر المكتبات والمخطوطات والمدارس. وأصبحت مهمة العرب هي إنقاذ ما يمكن إنقاذه دون أن يطوروا أي جديد. وفي العام 1260م تحطمت أسطورة المغول الذين لا يقهرون بعد هزيمة أحد جنرالاتهم. وانتهى عصر من الرعب والإرهاب. غير أنه بحلول هذا الوقت كان الظلام التام قد أحاق بالفكر العربي. وكان العرب مثل باقي الأمم التي سبقتهم قد لفتهم الأسوار العقلية والحقيقية. وكانت معارفهم قد حفظت ثم عبرت إلى الغرب)(18). ومن الغرب أتت الجحافل الصليبية يقودها هوس ديني ورغبة في الاستيلاء على الشرق ومكتسباته. ودمر هؤلاء القدس عند الاستيلاء عليها حتى جرت الدماء في شوارعها إلى الركب. واستمرت الحروب الصليبية على مدى قرنين من الزمان. واستنفدت فيها طاقات العالم الإسلامي الاقتصادية والبشرية. كما أن هذه الحروب كانت بالنسبة لأوروبة بمثابة جسر انتقلت عليه العلوم والمعارف والتقانات والثقافة بشكل عام. وعندما تغلب العالم الإسلامي أخيراً على هذين الاجتياحين كان في حالة إنهاك بينما بدأت أوروبة في التقدم. وفي غرب العالم الإسلامي كانت الحروب والمعارك مستمرة بين الفرنجة والأسبان وبين العرب فيما دعي بحروب الاسترداد. وهكذا سقطت بالرمو في صقلية عام 1097م وتبعتها طليطلة ثم قرطبة واشبيلية.

     

     ومن الأسباب الأخرى انصراف الناس عن العلوم العقلية والدنيوية عامة إلى العلوم الشرعية واللغوية. ولقد كان هناك منذ البداية فصل بين العوم الشرعية واللغوية وبين العلوم الدنيوية. ومع الزمن ترسخ هذا الفصل وأصبح تعلم العلم يعني الاعتناء بالعلوم الدينية كالتفسير والحديث والفقه وعلم الكلام والتصوف التي كان تعلمها فرض عين وبالعلوم اللغوية كالشعر والنثر والنحو بينما نظر إلى العلوم الدنيوية على أنها فرض كفاية إذا قام به البعض سقط عن الباقين. ناهيك عن الفلسفة التي حوربت وحظر تعلمها إلا للقلة من الناس وبشكل سري .وقد بقيت هذه التفرقة بين العلوم سائدة خلال عصور الانحطاط حتى قدوم نابليون إلى مصر وإدخاله للعلوم الحديثة معه. وقد تنبه ابن خلدون إلى هذا الأمر وهو الذي أتى متأخراً بعض الشيء وفي عصر الانحطاط فقال في المقدمة: (وكذلك بلغنا لهذا العهد أن هذه العلوم الفلسفية ببلاد الفرنجة من أرض رومة وما إليها من العدوة الشمالية نافقة الأسواق وأن رسومها هناك متجددة ومجالس تعليمها متعددة ودواوينها جامعة متوفرة وطلبتها متكثرة والله أعلم بما هنالك وهو يخلق ما يشاء ويختار)(19).

     

    ومما زاد الطين بلة هو أن العلوم في القرون الوسطى كلها كانت مرتبطة بالفلسفة. وكان العلماء في القرون الوسطى موسوعيين وإن تميز بعضهم بعلم دون الآخر كتميز ابن سينا في الفلسفة والطب والرازي في الطب والكيمياء والخوارزمي في الرياضيات وابن الهيثم في الفيزياء. ولقد تسبب الخوض في الفلسفة وبخاصة في المنطق والإلهيات إلى ظهور فرق وتيارات عديدة. وأدى هذا إلى تناحر المسلمين واقتتالهم مما تسبب في ضعفهم أمام الغزو الخارجي. وقد تصدى الفقهاء ورجال الدين للفلسفة وتابعهم على ذلك العامة من الناس حتى قيل (من تفلسف فقد تزندق). وجاء كتاب الغزالي (تهافت الفلاسفة) ليعبر عن هذا النفور من الفلاسفة وتأثيرهم على الدين.

     

    والحق أن الغزالي نفسه لم يكن ضد العلوم جميعها فقد هاجم الفلسفة التي تنظر للدين والألوهية بينما رأى في العلوم الدنيوية فائدة. وحتى علم المنطق لأرسطو فقد رأى فيه (معياراً للنظر والاعتبار وميزاناً للبحث والابتكار وصقلاً للذهن وشاحذاً لقوة الفكر والعقل فيكون بالنسبة لأدلة العقول كالعروض بالنسبة للشعر والنحو بالإضافة للإعراب. فكل نظر لا يتزن بهذا الميزان فهو فاسد العيار).

     

    وإلى جانب هذه العوامل كانت هناك مؤثرات أخرى ثقافية واجتماعية. ومنها تراجع الحريات الفردية. وقد رأينا ذلك يبدأ في أواخر عصر المأمون وعهد المعتصم والمتوكل مع مشكلة رأي المعتزلة بخلق القرآن ومحنة ابن حنبل. وأيضاً في محاكمة المتصوف الحلاج وصلبه نتيجة لآرائه. وفي محاكمة ابن رشد في المغرب وحرق كتبه.

     

    وفي قتل المفكر الصوفي السهروردي صاحب نظرية الأنوار في حلب. وفي قتل محي الدين بن عربي وغيره *. وقد تراجعت هذه الحريات مع ازدياد الضغوط الخارجية على بلاد المسلمين وضعف ثقتهم بأنفسهم وظهور طبقة من الحكام العسكريين الذين اعتمدوا على قوة السلاح مثل المماليك والعثمانيين.

     

     وشاعت نزعة التصوف التي كانت في كثير من الأحيان ردة فعل على الظلم الاجتماعي والفساد السياسي والاقتصادي مما شجع على الزهد والاعتزال والانصراف عن الدنيا إلى الآخرة والإيمان بالغيبيات وتغييب العقل. وفي ذلك يقول هاف: (لم تكن المشكلة داخلية ولا علمية ولكنها كانت سوسيولوجية وثقافية ).

     

    إنها تتعلق بالمؤسسات. وطالما تعلق الأمر بالعلم فإنه يجب أن يعتمد الأفراد على العقل وأن ينظر إلى العلم على أنه كل معقول متسق فضلاً عن مستويات مختلفة من القصور العالمي والمشاركة كما يجب أن يكون الحوار ميسراً. هذه بالضبط كانت نقطة الضعف في الحضارة العربية الإسلامية التي حالت دون إنجاب العلم الحديث)(20).

     

    6ـ خلاصة:

     

    وخلاصة القول فإن الحضارة الإسلامية استوعبت خلاصة المعارف القديمة في الشرق والغرب. وتلاقت على أرضها شتى الحضارات فتفاعلت مع بعضها في جو من التسامح والحرية الفكرية والإقبال على العلم. وقد استطاع علماء المسلمين أن يهضموا هذه العلوم وأن يمحصوا ما ورد فيها من عيوب وأن يطوروها وأن يبتكروا لأنفسهم بحوثاً ونظريات وعلوماً جديدة. وقد اعتمدوا في ذلك على المنهج العلمي التجريبي الذي طبقوه في علومهم فكان رائدهم التحقق والتدقيق والنزاهة والموضوعية حتى لقد استحقوا بحق أن يكونوا ولقرون عدة سادة العلم. وحتى عندما نقلت علومهم ومعارفهم إلى الغرب فإنها ظلت قروناً عديدة تدرس في جامعاته فكانوا بحق بناة العلم الحديث الذي بزغ في الغرب.

     

    ــــــــــــــــــــــــــــــــ

     

    الهوامش :

     

    (1)   فلسفة العلم في القرن العشرين : يمنى الخولي، عالم المعرفة، الكويت، 264، 2000 م .

     

    (2)   إبداعات النار : كاب كوبي ، عالم المعرفة، الكويت، 266، 2001 م .

     

    (3)   بنية الثورات العلمية: توماس كون، عالم المعرفة، الكويت، 168، 1992 م .

     

    (4)   فلسفة العلم في القرن العشرين: يمنى الخولي، عالم المعرفة، الكويت، 264، 2000 م .

     

    (5)   أخلاقيات العلم: ديفيد ريزينك، عالم المعرفة، الكويت، 316، 2005 م .

     

    (6)   فلسفة العلم في القرن العشرين : يمنى الخولي، عالم المعرفة، الكويت، 264، 2000 م .

     

    (7)   فلسفة العلم في القرن العشرين: يمنى الخولي، عالم المعرفة، الكويت، 264، 2000 م .

     

    (8)   فلسفة العلم في القرن العشرين : يمنى الخولي، عالم المعرفة، الكويت، 264، 2000 م.

     

    (9)   في تراثنا العربي الإسلامي : توفيق الطويل، عالم المعرفة، الكويت، 87، 1985 م .

     

    (10)                      المرجع في تاريخ العلوم عند العرب: محمد عبد الرحمن مرحبا، دار الفيحاء، بيروت 1978 م.

     

    (11)                      في تراثنا العربي الإسلامي : توفيق الطويل، عالم المعرفة، الكويت، 87، 1985 م .

     

    (12)                      ) فجر العلم الحديث جزء 1 + 2 : توبي هاف، عالم المعرفة، الكويت، 220+219، 1997م .

     

    (13)                      إبداعات النار : كاب كوبي ، عالم المعرفة، الكويت، 266، 2001 م .

     

    (14)                      فجر العلم الحديث جزء 1 + 2 : توبي هاف، عالم المعرفة، الكويت، 220+219، 1997م .

     

    (15)                      العدد : جون ماكليش، عالم المعرفة، الكويت، 251، 1999 م .

     

    (16)                      العدد : جون ماكليش، عالم المعرفة، الكويت، 251، 1999 م .

     

    (17)                      فلسفة العلم في القرن العشرين: يمنى الخولي، عالم المعرفة، الكويت، 264، 2000 م .

     

    (18)                      إبداعات النار : كاب كوبي ، عالم المعرفة، الكويت، 266، 2001 م

     

    (19)                      المقدمة : ابن خلدون ، دار القلم، بيروت ، 1978 م .

     

    *لم يكن قتل بعض هؤلاء تقييدا للحرية وإنما كان تنفيذا لحكم الردة بعد أن ثبتت عليهم ، وصدرت الأحكام من القضاة بحل دمائهم .

     

    (20)                      فجر العلم الحديث جزء 1 + 2 : توبي هاف، عالم المعرفة، الكويت، 220+219، 1997م .

     

    المراجع :

     

    1ـ إبداعات النار: كاب كوبي، عالم المعرفة، الكويت، 266، 2001م.

     

    2ـ أخلاقيات العلم : ديفيد ريزينك، عالم المعرفة، الكويت، 316، 2005م.

     

    3ـ بنية الثورات العلمية : توماس كون، عالم المعرفة، الكويت، 168، 1992م.

     

    4ـ العدد: جون ماكليش، عالم المعرفة، الكويت، 251، 1999م.

     

    5ـ العلوم والهندسة في الحضارة الإسلامية : دونالد هيل، عالم المعرفة، الكويت، 305، 2004م.

     

    6ـ فجر العلم الحديث جزء 1 + 2 : توبي هاف، عالم المعرفة، الكويت، 220+219، 1997م.

     

    7ـ فلسفة العلم في القرن العشرين : يمنى الخولي، عالم المعرفة، الكويت، 64، 2000م.

     

    8ـ في تراثنا العربي الإسلامي : توفيق الطويل، عالم المعرفة، الكويت، 87، 1985م.

     

    9ـ ما هو العلم؟: ألان شالمرز، وزارة الثقافة، سورية 1997م.

     

    10ـ المرجع في تاريخ العلوم عند العرب : محمد عبد الرحمن مرحبا، دار الفيحاء، بيروت 1978م.

     

    11ـ المقدمة: ابن خلدون، دار القلم، بيروت ، 1978م.

     

    مقدمة في تاريخ الفكر العلمي في الإسلام: أحمد سعيدان، عالم المعرفة، الكويت، 131، 1988م.

     

    ــــــــــــــــ

    المصدر : مجلة التراث العربي السورية ـ العدد 111 السنة الثامنة والعشرون - ايلول 2008 م - رمضان 1429 هـ


    كلمات مفتاحية  :

    تعليقات الزوار ()