بتـــــاريخ : 7/26/2010 3:38:53 PM
الفــــــــئة
  • الآداب والثقافة
  • التعليقات المشاهدات التقييمات
    0 1183 0


    دور الكتّاب والمساجد عند المسلمين

    الناقل : SunSet | العمر :37 | الكاتب الأصلى : د/ محمد منير سعد الدين | المصدر : www.altareekh.com

    كلمات مفتاحية  :
    دور الكتّاب المساجد المسلمين تاريخ

    عندما نفكر في التربية أو نتحدث عنها، فمن الطبيعي أن يتبادر لذهننا أولاً قبل كل شيء المدرسة وما يحدث فيها من مناشط، وحين نقول فلاناً تربى، فنعني بذلك أنه أكمل برنامجاً دراسياً في المدرسة، وعندما ندعو شخصاً متربياً، فإننا نربط بينه وبين المدرسة من الناحية المهنية، وعليه فإنه من المناسب عند دراسة فلسفة التربية أن نتناول المدرسة على أنها المصدر المباشر المحدد الواضح للخبرة التربوية.‏
     

     

     

    ولكن عندما نبدأ التفكير في المدرسة نلاحظ وعلى الفور أنه بالإضافة إلى المدرسة هناك وسائل كثيرة تدار من خلالها عملية التربية، من بين هذه الوسائل تحتل المدارس بالتأكيد أهمية أساسية، "ولكن المدارس ليست الأمكنة الوحيدة التي ينمو فيها الأفراد نمواً موجهاً قصدياً، فقبل المدرسة هناك المنزل , وهو من نواح كثيرة له أثر في الشخصية أقوى وأدوم وأعمق , وتقوم التعاليم الدينية أيضاً في العادة بممارسة تأثيرها القوي.

     

    كما أن الاشتراك مع الأصدقاء ومع الزملاء من المواطنين في مناشط تحتل اهتماماً مشتركاً , والاشتراك في العمل والحياة المهنية لها علاقة بتوجيه النمو الإنساني، فالمؤسسات الاجتماعية كدور الكتب والمتاحف , وكذلك المدارس يمكن أن تكون عوامل للنمو العقلي.

     

    وفي النهاية فالفرد نفسه وسيلة تربوية على جانب عظيم من الأهمية، وما يصبح عليه الفرد لا يتحدد في كليته على الإطلاق، نتيجة تأثير العوامل الخارجية، ولكن يتحدد أيضاً على أساس قدرته الداخلية على التوجه الذاتي"(1).‏

     

    أما بالنسبة للمؤسسات التربوية الإسلامية، "فقد عرف الإسلام المؤسسة التربوية منذ اللحظات الأولى لبدء نزول الوحي على قلب محمد ، فكانت دار الأرقم بن أبي الأرقم أول مؤسسة تربوية، فقد كان المعلم الأعظم يجمع القلة القليلة التي آمنت به سراً في هذه الدار، ويستخلص نفوسها، ويعلمها آيات القرآن التي يتنزل بها الروح الأمين على قلبه، ويشكلها (عقائدياً) بما يتفق وتعاليم الإسلام الحنيف"(2).‏

     

    ولم تكن المؤسسة التربوية الإسلامية مقتصرة على المدرسة فقط، بل تعدتها إلى الكتاب، والمسجد، والمكتبة، وبيوت الحكمة، ودور العلم، وحوانيت الوراقين، ومجالس العلم والمناظرة، ومنازل العلماء، ومجالس الفتوى، والبيمارستانات، والمراكز الصوفية، والعتبات المقدسة وغيرها.‏

     

    ولقد كانت هذه المؤسسات التربوية الإسلامية، نتاج بيئة معينة، نابعة من صميم حاجات المجتمع الإسلامي وتطوراته، مصبوغة بالروح الإسلامية، حيث اهتدت بتعاليم وأغراض الإسلام، إنها ليست بالدخيلة، وإنما هي نتاج نمو وتطور في الحياة الإسلامية العامة، نشأت في أمكنة معينة وأزمان معينة، وظروف معينة , وضمن أغراض معينة أملتها حاجات المجتمع الإسلامي النامية المتطورة.‏

     

    وسنتناول في بحثنا المؤسسات التعليمية عند المسلمين، ونبدأ بدراسة الكتَّاب.‏

     

    ظهر الكُتَّاب عند المسلمين منذ عهد الرسول صلى الله عليه وسلم ، وانتشر مع انتشار الإسلام في مختلف البلدان، وأنشئ من خلال عمل إسلامي بحت، وكان المكان الرئيسي في العالم الإسلامي لتعليم الصغار، وقد تمتع بمكانة كبيرة الأهمية في الحياة الإسلامية، وبخاصة وأنه المكان الذي يتعلم فيه الصبيان القرآن، إضافة إلى ما للعلم من مكانة في نظر الإسلام حيث هو فريضة على كل مسلم، وكذلك تلك القدوة التي نأخذ بها من خلال أقوال وأفعال الرسول صلى الله عليه وسلم حيث حض على ضرورة التعلم , فكلف كل أسير من أسرى الحرب بعد موقعة بدر بتعليم اثني عشر طفلاً من أطفال المسلمين على سبيل الفدية.‏

     

     
    ولقد قسمت الكتاتيب إلى قسمين:‏

     

    1 ـ  كتاتيب أولية :‏ وكان يتعلم الأطفال فيها القراءة والكتابة , ويحفظون القرآن , ومبادئ الدين وأوليات الحساب.‏

     

    2 ـ  كتاتيب قانونية :‏ إن صح هذا التعبير –كانت لتعليم الأطفال والشباب علوم اللغة والآداب، وكانوا يتوسعون فيها بعلوم الدين والحديث وسائر صنوف العلوم الأخرى بصورة عامة(3).‏

     

    إلا أن أحد الباحثين يفصل بين الكتاتيب بحيث يرى أنه "كان من الشائع المتعارف عليه أن يقوم غير المسلمين بمهنة تعليم القراءة والكتابة , وكان هذا النوع من التعليم يجري في منازل المعلمين , وربما خصص هؤلاء حجرة في بيوتهم لاستقبال الطلاب، وقد حافظ الكتاب من هذا النوع في الكثير الغالب على استقلاله التام عن الكتاب الآخر الذي كان يجري به تعليم القرآن الكريم , ومبادئ الدين الإسلامي، وكثير من الباحثين لم يفرقوا بين نوعي الكتاب هذين , وقرروا أنه كان هناك نوع واحد من الكتاتيب , تعلم فيها القراءة والكتابة , ويحفظ فيه القرآن , وتدرس به علوم الدين"(4).‏

     

    نستنتج من هذا أنه كان هناك نوعان من الكتاتيب، أحدهما لتعليم القرآن , ومبادئ الدين الإسلامي، وثانيهما لتعليم القراءة والكتابة والحساب، إلا أن هذا لا يمكن تعميمه , حيث كان ثمة كتاتيب تجمع بين تعليم هذه المواد، لكن نستطيع القول إن الكتاتيب القرآنية قد انتشرت بشكل واسع وبارز ؛ نتيجة تحمس الناس الشديد للقرآن الكريم، وكثرة الفتوحات الإسلامية، وبالتالي اتساع رقعة الدولة.‏

     

    كذلك ظهر نوع من الكتاتيب اختص بالأيتام، وكان الغرض من إنشائها، تعليم الأيتام وأبناء الفقراء ورعايتهم، إلى جانب التقرب إلى الله تعالى.‏

     

    ولم تقتصر هذه الكتاتيب على تعليم الأيتام بل "أضيف إليهم أولاد الفقراء والجند والبطالين، وقد وفر هذا النوع من التعليم الرعاية العلمية والاجتماعية لهذه الفئة غير القادرة , والذين لم يكن في وسع ذويهم إرسالهم إلى المكاتب الخاصة , أو إحضار مؤدبين لهم إلى المنازل"(5).‏

     

    ولقد كثر الاهتمام بكتاتيب الأيتام خلال عهود الزنكيين، والأيوبيين والمماليك، فهذا نور الدين زنكي يبني "في كثير من بلاده مكاتب للأيتام ويجري عليهم وعلى معلميهم الجرايات الوافرة"(6).‏

     

    واختلفت أحجام الكتاتيب صغراً وكبراً، "فكتاب أبي القاسم البلخي كان يتعلم فيه (3000 تلميذ) وتدل رواية ياقوت على أن هذا الكتاب بجانب استقلاله عن المسجد كان فسيحاً ليتسع لهذا العدد الكبير ,ولهذا كان يحتاج البلخي أن يركب حماراً ليتردد بين هؤلاء وأولئك ؛ وليشرف على جميع تلاميذه"(7).‏

     

    وكان المكان المخصص للكتاب "يختلف باختلاف المعلمين ومشاربهم , فمن مكان متسع طلق الهواء , يساعد الصبية على الإقبال على الدرس , إلى مكان مظلم , لا تدخله الشمس يحدّ من استعداد الصبية للحفظ والإفادة من التعليم"(8).‏

     

    أما أثاث الكتاب فكان يفرش بالحصر غالباً، يجلس عليها الصبيان متربعين حول معلمهم، وكانت أدوات الدراسة تتضمن مصحفاً شريفاً، وعدة ألواح، وعدداً من الدوي والأقلام.‏

     

    وقد يختص المعلم "بسرير أو كرسي مرتفع , وربما عوض الكرسي بمصطبة مبنية (دكانة) ليس عليها من الرياش سوى بساط صغير"(9).‏

     

    أما سن ذهاب الصبي إلى الكتاب فيلاحظ بصفة عامة أن هناك "اتجاهاً نحو التبكير في التعلم بالكتاب، فمنذ السنة الخامسة أو السادسة أو السابعة ينتقل الطفل إلى بيئة جديدة هي الكتاب، حيث يبقى فيها إلى أن يتم حفظ القرآن بأكمله , أو يحفظ جزءاً منه إلى جانب تعلمه القراءة والكتابة، وبعض النحو والعربية , وشيئاً من الحساب، وما إلى ذلك من الأمور التي كانوا يعتبرونها وسائل للإحاطة بالدين"(10).

     

    ولعله من الأرجح أن يبقى الصبي في الكتاب حتى سن الثانية عشرة أو ما دون ذلك، ولكن لا يمنع الأمر أن يكون هناك من هم في سن أكبر من الثانية عشر.‏

     

    ولما كان الصبيان يأتون إلى الكتاب صغار السن، لذا كان على الأهل أن يؤمّنوا من يرافقهم في غدوهم ورواحهم إلى الكتاب، وأطلق على هذا المُرافق اسم السائق , واشترط فيه أن يكون "أميناً ثقة متأهلاً، لأنه يتسلم الصبي في الغدو والرواح , وينفرد به في الأماكن الخالية , ويدخل على النسوان , فيلتزم أن يكون كذلك"(11).‏

     

    وتعد مثل هذه الأمور ظاهرة اهتمام واضحة من المسلمين بسلامة أطفالهم، وخاصة من خلال تلك القواعد التي وضعوها , ورعوا فيها الظروف الاجتماعية والأخلاقية للمجتمع، فوضعوا شروطاً وقيوداً للمحافظة على الأطفال من بعض الأمراض الاجتماعية التي كانت منتشرة، وقد امتد الاهتمام بالأطفال ليشمل أوقات الراحة والذهاب إلى المنزل والعودة منه.‏

     

    أما معلم الكتاب فقد جمع مهاماً متعددة بيده، ومهمته تشبه إلى حد ما مهمة المعلم المنفرد، لكنه يتصرف ضمن لوائح وإرشادات معينة لا يحق له الخروج عنها.‏

     

    "وقد تحرى أجدادنا –رحمهم الله- جهدهم في انتخاب المعلم الذي يتولى تعليم صبيانهم، فلا يختارون لهذه المهمة إلا من تقرر عندهم حسن أخلاقه، وتوفرت فيه خصال رشيدة جمَّة، منها الاشتهار بالاستقامة والعفاف، والعدالة مع الخبرة العامة بالقرآن وعلومه. وقد وضع الفقهاء المسلمون خصالاً ينبغي توفرها في معلم الكتاب، فالقابسي يرى أنه ينبغي أن يكون مهيباً لا في عنف، لا يكون عبوساً مغضباً، ولا مبسطاً، مرفقاً بالصبيان دون لين، وينبغي أن يخلص أدب الصبيان لمنافعهم"(12).‏

     

    ولقد أنيطت مهمة الإشراف على معلم الكتاب بالمحتسب , فاشترط بهذا المعلم أن يكون من "أهل الصلاح والعفة والأمانة، حافظاً للكتاب العزيز، حسن الخط، ويدري الحساب، والأولى أن يكون متزوجاً، ولا يفسح لعازب أن يفتح مكتباً إلا أن يكون شيخاً كبيراً , وقد اشتهر بالدين والخير , ومع ذلك فلا يؤذن للتعليم إلا بتزكية مرضية وثبوت أهلية"(13).‏

     

    أما منهج التعليم ومواده المقررة، فكان يطلب من الصبي أن يحفظ القرآن الكريم كله أو بعضه عن ظهر قلب أو رواية واتقاناً، ويتعلم القراءة والكتابة والخط، ومبادئ الحساب الأولية.‏

     

    وقد اهتم المربون المسلمون بتكوين الشخصية السوية لأطفال الكتاب بتعويدهم الكتابة للناس، وتعليم بعضهم بعضاً , وخاصة من خلال ذلك الصبي المتميز بعلمه , والمعروف بالعريف , وإملاء بعضهم على بعض , وإمامة من بلغ سن الاحتلام وصلح لإمامة غيره في صلاة الجماعة، مع ما في ذلك من اهتمام في التطبيق العملي لما يتعلمونه.‏

     

    وقد يفرغ المعلم من تعليمهم القراءة والكتابة وحفظ القرآن الكريم، فيعلمهم "مبادئ علوم الدين واللغة، أي أن النشاط التعليمي داخل الكتاب كان يمتد ليشمل تعليم الأطفال بعض الأحاديث النبوية وآداب الدين، ويعلمهم عقائد أهل السنة والجماعة، ومما يتناسب مع السن والفهم، وكذلك قواعد اللغة , وما يستحسن من المراسلات والأشعار , ويدرجه بذلك حتى يألفه طبعاً"(14).‏

     

    أما تنظيم التعليم في الكتاب فقد قام الفقهاء بمحاولات تنظيمه قدر الإمكان، وأخضعوا الكتاتيب لشروط موحدة، بالإضافة إلى ما كانت تقوم به الدولة بالإشراف عليها , وعلى أنظمتها من خلال المحتسب , ومراقبته لها، والذي له الحق أن يمنع من لم تتوفر فيه الشروط اللازمة لممارسة المهنة.‏

     

    وكانت الحياة في الكتاتيب "فطرية في الغالب" وأوقات الدراسة فيها كانت تحدد بعلامات طبيعية, فشروق الشمس كان بدء اليوم الدراسي , يطول ويقصر تبعاً لشروق الشمس، وأذان العصر"(15).‏

     

    وأما بالنسبة للراحة والعطل المدرسية، فقد لوحظ اهتمام المسلمين بإعطاء الصبي قسطاً من الراحة بعد عناء الدراسة، فهذا ابن الحاج العبد ري (ت 737هـ/ 1336م) يقول "إن ذلك مستحب لقوله عليه الصلاة والسلام "روحوا القلوب ساعة بعد ساعة" فإذا استراحوا يومين في الجمعة نشطوا لباقيها"(16). وهناك تعطيل في أيام الأعياد، وحالات المرض، والرياح والعواصف والبرد والمطر الشديد.‏

     

    أما المعلم فإذا تغيب لشغل طارئ "فعليه أن يستأجر للصبيان من يكون فيهم بمثل كفايته إذا لم تطل مدة ذلك... كذلك إن هو سافر فأقام من يوفيهم كفايته لهم، إن كان سفراً لا بد منه، قريباً اليوم واليومين، وما أشبههما فيستخف ذلك إن شاء الله، وأما إن بعد أو خيف بعد القريب لما يعرض في الأسفار من الحوادث فلا يصلح له ذلك"(17).‏

     

    أما تعليم البنات، فيبدو أن التعليم الابتدائي لم يكن مختصاً بالصبيان الذكور دون الإناث، بل إنه كان شاملاً للجنسين، لا سيما عند الأغنياء، وأصحاب المناصب العالية والعلماء، "فهذا القاضي الورع عيسى بن مسكين المتوفى سنة (275هـ/888م) كان يقرئ بناته وحفيداته. قال عياض: وكان من سيرة عيسى بن مسكين في غير مدة قضائه أنه كان إذا أصبح قرأ حزباً من القرآن، ثم جلس للطلبة إلى العصر. فإذا كان بعد العصر دعا بنتيه وبنات أخيه يعلمهن القرآن والعلم"(18).‏

     

    ويبدو أن بعض الصبيان كانوا يستمرون في الكتاب إلى سن الاحتلام , ولهذا كان يخشى على الإناث من الفساد، ولذلك لم يمنع البنات من التعليم، وإنما منع اختلاطهن بالذكور، انطلاقاً من الغيرة على الأخلاق، وحفظ الدين، وأكبر دليل على انتشار التعليم بين الإناث تلك الأعداد الكبيرة من النساء الفقيهات، والشاعرات، والكاتبات... الخ.‏

     

    أما الحياة الاجتماعية في الكتاب، فلم يسمح المسلمون أن تقوم عزلة وحواجز بين الكتاب والمجتمع، ولذلك فهو يتفاعل مع مجتمعه , ويشارك في حياته اليومية "فإذا مات عالم جليل أفاد العباد بعلومه , أو رئيس نفع البلاد بآرائه وأعماله، أو أمير عادل أنصف في أحكامه، أغلقت الكتاتيب أبوابها، وعطل الأحداث دراستهم يوم دفنه مشاركة في المصاب العمومي، وإظهاراً للتأسي وإجلالاً لخدمة الصالح العام"(19).‏

     

    ويشارك الصبيان في القضايا العامة التي تلم بالمجتمع فيقول ابن سحنون: "إذا أجدب الناس , واستسقى الإمام , فأحب للمعلم أن يخرج بهم من يعرف الصلاة منهم، وليبتهلوا إلى الله بالدعاء ويرغبوا إليه، فإنه بلغني أن قوم يونس –صلى الله على نبينا وعليه السلام- لما عاينوا العذاب خرجوا بصبيانهم , فتضرعوا إلى الله بهم"(20).‏

     

    وقد تميز التعليم في الكتاب بالاهتمام بالآداب الاجتماعية حيث "يقوم المعلم بتأديب الأطفال , وتربيتهم التربية الصالحة , وتعويدهم العادات الحسنة، وتعليمهم كيفية احترام الناس , ومراعاة الذوق والأدب طبقاً للعرف الجاري، وأن يلقي السلام على من يدخل عليهم , أو يمر بهم من الناس، ويأمرهم ببر الوالدين، والانقياد لأمرهما بالسمع والطاعة، والسلام عليهما , وتقبيل أياديهما عند الدخول إليهما، ويضربهم على إساءة الأدب , والفحش من الكلام وغير ذلك من الأفعال الخارجة عن قانون الشرع"(21).‏

     

    والملفت للنظر اهتمام الفقهاء المربين المسلمين بصحة الصبيان في الكتاب، فنصحوا بعزل الصبي المريض عن رفاقه حتى لا ينتشر المرض بينهم، يقول ابن الحاج العبدري: "ينبغي إذا اشتكى أحد من الصبيان وهو بالمكتب بوجع عينيه , أو شيء من بدنه، وعلم صدقه أن يصرفه (المعلم) إلى بيته ولا يتركه يقعد في المكتب"(22). وذلك ليترك لأهله الاهتمام به , والعمل على معالجته ؛ خوفاً من انتشار عدوى المرض بين الصبيان.‏

     

    وطلب إلى معلم الصبيان منعهم من أكل الطعام والحلوى المكشوفة والمعروضة من قبل الباعة الجوالين "فلا يدع المعلم أحداً من البياعين يقف على المكتب ليبيع للصبيان، إذ فيه المفاسد إن اشترى منه"(23)، وبلغ الحرص عندهم لدرجة "ترتيب طبيب يحضر بالمكتب في كل شهر"(24).‏

     

    ووصلت عناية المربين المسلمين بنظافة الصبيان في المكتب بأن أوجبوا عليهم أن يكون لمسح الألواح مكان طاهر نظيف، وأن يستخدموا الخرق الطاهرة لمسح الألواح، ولا يستخدموا البصاق بل الماء الطاهر، لأن البصاق فيه القذارة وعدم الاحترام للمادة المكتوبة على الألواح.‏

     

    أما تمويل التعليم في الكتاب فكان يتم عن طريق ما يقوم به الآباء نحو أبنائهم، وما يدفع لمعلمهم من أجر مشاهرة، أو مسانهة ( أي معاملة بالسنة ) أو مقاطعة ( أي يقطعه مقاطعة مقابل تعليم الطفل ) أو بما يقوم به القادرون مادياً، نحو أقاربهم الفقراء وغير أقاربهم من أبناء المسلمين، مما يدخل في باب التكافل العلمي عند المسلمين.‏

     

    ولقد أبرز التطبيق العملي لمبادئ الإسلام صوراً من التضامن الشعبي في مجال الخدمات التعليمية , مما رفع عن كاهل الدولة الصرف على التعليم وتمويله إلا في أضيق الحدود، ولعل ذلك كان سبباً للانتشار الواسع لمؤسسات التعليم الأولي في العالم الإسلامي.‏

     

     
    المسجد ورسالته التربوية عند المسلمين:‏

     

     
    نشأ التعليم ودروسه بنشأة الإسلام، فكان جماعة من الصحابة يعلِّمون في مسجد قباء في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم ، واستخدمت المساجد للتدريس منذ العهد الأول. "ومسجد قباء هو أول مسجد بني في الإسلام ثم مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم "(25) ويعد المسجد النبوي أول مكان علمي أنشئ في الإسلام، وقيامه قيام أمة الإسلام في المدينة، وتاريخ مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم يعرض جانباً كبيراً من تاريخ هذه الأمة.‏
     

     

    وإذا دققنا في خطط القواعد الإسلامية الأولى نرى أن ظاهرة انتشار المساجد لم تكن وليدة الصدفة , بل كانت أثراً من آثار سياسة الدولة الإسلامية المرسومة لعمارة البلدان الإسلامية في البلدان المفتوحة، وترجع هذه السياسة إلى الخليفة الثاني عمر بن الخطاب حين كتب إلى ولاته في الأمصار أن يتخذوا مسجداً للجماعة(26).‏

     

    ولقد انتشرت المساجد انتشاراً كبيراً جداً في أنحاء العالم الإسلامي، وقام الخلفاء والأمراء والأثرياء والعلماء والفقهاء ببناء المساجد في كل مدينة وقرية ؛ انطلاقاً من دعوة الآيات القرآنية لتعمير المساجد وبنائها وتكريمها , والاهتمام بها على اعتبار أنها إحدى الصدقات الجارية , ولارتباطها أيضاً بالشعور الديني الحماسي العارم عند المسلمين , وبخاصة في الفترات المتأخرة من العصر.‏

     

    وارتبط تاريخ التربية الإسلامية ارتباطاً وثيقاً بالمسجد، "ولهذا فالحديث عنه حديث عن المكان الرئيسي لنشر الثقافة الإسلامية، وقد قامت حلقات الدراسة في المسجد منذ نشأ، واستمرت كذلك على مرّ السنين والقرون، وفي مختلف البلاد الإسلامية دون انقطاع، ولعل السبب في جعل المسجد مركزاً ثقافياً هو أن الدراسات في سني الإسلام الأولى كانت دراسات دينية تشرح تعاليم الدين الجديد وتوضح أسسه وأحكامه وأهدافه , وهذه تتصل بالمسجد أوثق اتصال"(27).‏

     

    لقد توسع المسلمون في فهم مهمة المسجد "فكان مصلى ومدرسة وجامعة وداراً للافتاء، ومنطلقاً للثوار والوطنيين في كل العصور، وبذلك لعب المسجد دوراً خطيراً في حياة المسلمين , وما يزال إلى اليوم مركزاً هاماً للوعي الإسلامي... ولم تقف وظيفة المسجد التربوية عند هذا الحد بل كانت أشبه بنواد أدبية , تثار فيها المسائل والمجادلات الأدبية واللغوية المختلفة، كذلك كانت مقصداً للقصّاص يجلسون فيها , فيقصون على الناس القصص التي تجمع بين العبرة والتسلية... وكذلك كانت المساجد مسرحاً للشعر العربي"(28).‏

     

    والظاهرة الأولى من المظاهر التربوية في المسجد خطبة الجمعة التي هي "الدرس التربوي الأسبوعي للمسلمين , والتي تُلقى من على منبر المدرسة الأولى للمجتمع, وتلكم هي المسجد، ولأمر ما اقترن التعليم بالمساجد في نشأة الدولة الإسلامية والمجتمع الإسلامي ؛ تجسيداً للعلم والإيمان وأهميتهما في بناء الفرد الصالح , والمجتمع الفاضل"(29).‏

     

    والمساجد ملك للجماعة الإسلامية استخدمتها معاهد للتعليم "لأن العلم كان دائماً من اختصاص الجماعة، فلم تكن دول الخلافة أو دول السلاطين مسئولة عن التعليم حتى في عصر الراشدين , وإنما كان التعليم من اختصاص الأفراد والجماعة، فكانت الجماعة تتكفل بمعاش المعلمين , سواء كانوا معلمين صغاراً , يعلمون الصبيان القراءة والكتابة , ويحفظونهم القرآن، أو شيوخاً أجلاء يقرؤون علمهم على طلابهم في المسجد في علوم القرآن والحديث والفقه واللغة والأدب , فلم نسمع أن الدولة قررت راتباً لمعلم أو شيخ إلا ابتداء من منتصف القرن الخامس الهجري( الحادي عشر الميلادي )عندما قامت المدارس"(30).‏

     

    ولقد أدى استخدام المسجد كمعهد للعلم إلى تلك الخاصة الهامة التي امتازت بها الحضارة الإسلامية وهي الحرية الفكرية، فقد ارتاد مجالس المساجد العلمية الراغبون في العلم، والعلماء المسلمون من جميع أنحاء الدولة الإسلامية، وكان متاحاً في مجالسها لأي شخص من المستمعين أن يسأل العالم، وفي حال عجزه عن الرد وإقناع السائل، يفقد الثقة، ويضطر إلى ترك حلقته إما لينتقل إلى مسجد آخر، أو ليعد نفسه علمياً من جديد.‏

     

    ولقد ضمنت مثل هذه المواقف "كفاءة العلماء من ناحية , وحرية أهل العلم من ناحية أخرى , فقد أصبحوا –بهذا- في امتحان ومحنة يوماً بعد يوم، ومن المؤكد أنه لو كانت الأمة تركت العلم لرجال الدولة لما ظل العلم في بلاد الإسلام دائماً في ذلك المستوى الرفيع، فقد كان على العلماء أن يواصلوا الدرس ؛ ليحافظوا على مكانتهم أمام الناس الذين يستمعون إلى دروسهم.

     

    ولو تبنت الدولة العلم لفرضت على الناس -إذا شاءت- الأدعياء والدخلاء , وأفسدت العلم بذلك، ولو قعد العلماء للتدريس في دور بنتها لهم الدول , وتقاضوا أرزاقهم فيها لأصبحوا في عداد خدامها وحواشيها... ولكن الجماعة الإسلامية كلها كانت تشرف على القضاء , وتحافظ على تقاليده , وكانت ترعى العلم والعلماء وتحرص على أن تظل مؤسسة العلم –أو نظام العلم وأهله- في مستواها الرفيع من الجد والوقار والتعاون وحسن السمعة والإخلاص للعلم... وكان أكبر ما أعان الجماعة على المحافظة على سلامة مؤسساتها –كالقضاء والعلم- أنها كانت تملك المساجد , فوضعتها تحت تصرف القضاة وأهل العلم"(31).‏

     

    وتبين الدراسة في المساجد أهم خصائص التربية الإسلامية ومبادئها من "البساطة ومساواة الفرص والحرية في التحصيل والارتباط والانسجام بين حاجات الدين وحاجات الدنيا"(32) والحرية المطلقة للمعلمين والمتعلمين في اختيار مناهج الدراسة وطرائقها، وأوقاتها..

     

    وكان للمتعلم الحرية في أن يذهب إلى أية حلقة في المسجد، وإلى أي شيخ يأنس له ولعلمه، وإذا أتم علماً من العلوم عند شيخ من الشيوخ انتقل إلى الآخر، وقد يبدأ بدراسة علم ما , فيجد شيخه من خلال ما لديه من خبرة وحسن فراسة أن هذا المتعلم لا يصلح لهذا العلم , فينصحه أن يتخصص بعلم آخر هو أنسب له، وأكثر تلبية لحاجاته وقدراته.‏

     

    ولقد اشتهرت مساجد وجوامع متعددة في العصر العباسي، وكانت قبلة أنظار العلماء والمتعلمين، ومن هذه المساجد في العراق جامع المنصور في بغداد، ومساجد الكوفة والبصرة، وفي الشام الجامع الأموي، وفي مصر جامع عمرو بن العاص، وجامع ابن طولون، والجامع الأزهر، وانتشرت في هذه المساجد الحلقات العلمية فلم تقتصر على الحلقات المتخصصة بالدراسات الدينية واللغوية , بل تعدتها إلى سواها من معارف ذلك العصر , كالفلك والحساب والطب وغيرها.‏

     

    يقول عبد اللطيف البغدادي (ت 629هـ/ 1231م) "كانت سيرتي في هذه المدة أنني أقرئ الناس بالجامع الأزهر من أول النهار إلى نحو الساعة الرابعة وسط النهار, يأتي من يقرأ الطب وغيره، وآخر النهار أرجع إلى الجامع الأزهر فيقرأ قوم آخرون"(33).‏

     

    ومن المؤكد أن تعليم الطب الذي يشير إليه البغدادي في الجامع الأزهر والذي مارس تعليمه هو الجانب النظري منه، لأن الجانب العملي التطبيقي ترك ليمارس في المدارس والبيمارستانات.‏

     

    "ولا نزاع في أن الدراسات الدينية كانت أهم ما يجذب الطلاب , ويعنى به العلماء المعلمون في حلقاتهم، والتي كان نشوء نظامها في المساجد هو نشوء نظام في التخصص"(34).‏

     

    أما الحلقات العلمية في المساجد فقد توالى ذكرها في كتب التاريخ والتراجم، بل يكاد لا يخلو تاريخ عالم من العلماء أو شيخ من الشيوخ، من الإشارة إلى (حلقة) له بمسجد من المساجد، وكانت تلك الحلقات منتشرة منذ العصور الأولى في المساجد الجامعة بالحجاز والشام والعراق ومصر والقيروان وقرطبة , وغيرها من المناطق والممالك الإسلامية وعواصمها ومدنها، وسمي الدرس (حلقة) لأن الطلاب كانوا (يتحلقون) أي ينتظمون في شبه عقد أو حلقة حول شيخهم وكانت الحلقة تضيق أو تتسع أو تتضاعف تبعاً لعدد الطلاب"(35).‏

     

    فهذا محمد بن سليمان أبو بكر البغالي (ت 380هـ/ 990م) "كانت حلقته في مسجد عمرو العتيق تدور على سبعة عشر عموداً من كثرة من يحضرها"(36).‏

     

    لقد كان الشيخ يتخذ مكانه في المسجد إلى جانب أسطوانة يستند إليها بظهره إن أمكن "وإذا اقترب أحد من هذه الحلقة سمع النداء: دوروا وجوهكم إلى هذا المجلس، وقد أحصى المقدسي في المسجد الجامع بالقاهرة وقت العشاء مائة عشر مجلساً من مجالس العلم"(37).‏

     

    وكان المتعلمون يجلسون حول الشيخ "على شكل دائرة إن كان العدد صغيراً بشكل كاف وبحيث يدع المعلم يشرح المادة بطريقة موحية بالألفة والدفء، ومشجعة للنقاش الحيوي بينما الطلاب يسجلون الملاحظات ويوجهون الأسئلة"(38). أما إذا زاد العدد فتتخذ الحلقة شكل نصف دائرة.‏

     

    وقد سمي مجلس الشيخ أحياناً بالطاق أو المحراب، وقد تسمى الحلقة زاوية، فهذا ابن جبير في القرن السادس الهجري يشاهد في الجامع الأموي بدمشق للمالكية زاوية للتدريس في الجانب الغربي يجتمع فيها طلبة المغاربة ولهم أجر معلوم(39).‏

     

    ولقد أصبحت بعض المساجد وحلقاتها مطمحاً ومطلباً لبعض العلماء، ربما لما تعطيه للعالم من مكانة علمية أو اجتماعية، ورغبة في نشر العلم بين أكبر مجموعة من الجماهير المسلمة، فهذا الخطيب البغدادي يذكر أنه "لما حج شرب من ماء زمزم ثلاث شربات وسأل الله ثلاث حاجات: آخذاً بقول النبي صلى الله عليه وسلم: "ماء زمزم لما شرب له" فالحاجة الأولى أن يحدث بتاريخ بغداد، والثانية أن يملي الحديث بجامع المنصور، والثالثة أن يدفن إذا مات عند قبر بشر الحافي"(40).‏

     

    وبنتيجة للصراعات السياسية والمذهبية، سرعان ما جمعت المساجد بين الصبغتين العلمية والمذهبية، كما كان الحال بالنسبة للجامع الأزهر، والذي اختص في العهد الفاطمي بعلوم آل البيت، وتخصصه بمثل هذا النوع من المعرفة "كان نموذجاً شيعياً لتأسيس (المدرسة) في عالم السنة، فالمعهدان مظهران من مظاهر التنافس المذهبي في العالم الإسلامي، فيهما استخدمت وسائل التربية والتعليم لأغراض موازية متباينة، فالدعوة لمذهب من المذاهب تحت رعاية الدولة أصبح مألوفاً منذ بدء التنافس بين الفاطميين والعباسيين على السيادة في القرن الرابع الهجري"(41).‏

     

    وكان المسجد مركزاً للتعليم العالي، وقد أثر في نمو العلوم وانتشارها لاتصاله بالدين وكونه مكاناً للعبادة، وكذلك فتح أبوابه ليتلقى الجميع العلم فيه، على اعتبار أن بيوت الله ليس لأحد عليها سلطان، ولا يحتاج الدخول إليها إلى استئذان، ويشعر الطالب فيها بالحرية واليسر أكثر مما هو الحال في منازل العلماء والحكماء ومجالسهم الأدبية والخاصة، فالمنازل محجورة على الناس إلا مَنْ أبيح له دخولها، ولها مكانتها واحترامها وأدبها.‏

     

     
    ولقد عدَّ المسجد بمثابة مدرسة عالية وقسِّم طلبته إلى قسمين:‏

     

    1 ـ طلاب منتظمون في الدراسة لا ينقطعون عن الدرس إلا بعد إتمام المنهج , والحصول على إجازة من الأستاذ المختص، وهؤلاء يتفرغون للعمل سنوات عدة , فيحضرون إلى الجامع من الصباح الباكر ينكبون طيلة النهار على الدرس.‏

     

    2 ـ طلاب مستمعون غير منتظمين وهؤلاء يذهبون لاستماع بعض الدروس , كما نذهب نحن لاستماع بعض المحاضرات العامة دون تقيد بمنهج معين(42).‏

     

    ولقد عمد الخليفة في فترة من فترات العصر العباسي إلى تعيين شيخ الحلقة، وكان بعض أصحاب النفوذ في الدولة يوجهون نظره بعض الأحيان إلى من يختاره، مع الإشارة إلى أن مكانة العالم العلمية والاجتماعية كانت تلعب دورها الكبير في اختياره للتدريس في المسجد.‏

     

    ويعد الفقهاء "أكثر العلماء طلاباً، وكان ذلك طبيعياً لأن الفقهاء يعلمون العلم الذي يؤهل أصحابه لتولي مناصب يعيشون منها"(43). ولأهمية العلوم الدينية في ذلك العصر وبخاصة مادة الفقه. ولكن لو قورن عدد التلاميذ في ذلك العصر بما نراه اليوم لوجدناه صغيراً مما يدل على كثرة العلماء بالنسبة للتلاميذ.‏

     

    ويرى أحد الباحثين "أن الطلاب يكثرون في حلقات المتكلمين لما يجري بينهم من مناظرات وكان الطلاب يختلفون إليها للفرجة والتعليم"(44).‏

     

    ولا شك في أن مثل هذه المجالس تستهوي الناس فهي مثل من أمثلة الإقناع "وصورة بارعة للحركات العقلية المختلفة في الهجوم والدفاع والمداورة واستعمال الحيلة، والجمهور بطبيعته مأخوذ بمشاهدة مثل هذه الخصومات ومتابعة مثل هذه الحركات , متطلع دائماً لمعرفة نتائجها من ظفر هذا وانقطاع ذاك"(45).‏

     

    ومن الوسائل التي كانت تعرف بها أعداد الطلاب "إحصاء محابرهم التي يضعونها أمامهم والتي كانت أهم عتاد الطالب"(46)، وكانوا يمسكون في أيديهم بالأقلام والأوراق للكتابة ويضعون أمامهم المحابر، "ويحضرون كتبهم في شيء يسمى قارورة , ولعلها سميت بهذا الاسم من قبيل الفكاهة"(47).‏

     

    وحين نتوجه إلى تراجم بعض الفقهاء: أمثال أبي حامد الاسفرايني (ت 406هـ/ 1015م)، وأبي المعالي عبد الملك الجويني أمام الحرمين (ت 478هـ/ 1058م) وأبي الطيب الصعلوكي (ت 337هـ/948م)، ومحمد بن جرير الطبري (ت 310هـ/ 922م)، يلفت نظرنا كثرة أعداد طلاب العلم الذين كانوا يرتادون حلقاتهم، فقد تحكمت شهرة ومكانة هؤلاء العلماء في الوسط العلمي من خلال إقبال متزايد من الطلاب عليهم، وبلغ الأمر ببعضهم أن قامت بينهم وبين طلابهم جسور من المحبة والثقة والصلات الطيبة ؛ لدرجة أنهم عمدوا إلى تقديم الأرزاق والمساعدات لهؤلاء الطلاب.‏

     

    أما مواعيد التدريس في المساجد فقد راعى الفقهاء المربون المسلمون في تحديدها "مصلحة الجماعة في تقديم وقت الحضور وتأخيره إذا لم يكن عليه فيه ضرورة ولا مزيد كلفة"(48). ولم يكن هناك وقت محدد بالضبط لحضور الدرس في المرحلة العالية من التعليم، لأنه غالباً ما كان يرتبط ذلك بوقت المعلم، وربما كان أكثر الأوقات ملاءمة لإلقاء الدرس هو الصباح.‏

     

    لكن هذه الأوقات تنوعت فمنها ما كان "صباحاً ومنها ما كان بعد العصر وقبل صلاة المغرب، وبما أن الطالب يقوم بدراسة أكثر من مادة واحدة في ذات الوقت , ويذهب إلى أكثر من معلم في نفس اليوم، فإن الوقت الدراسي كان من المرونة بحيث تناول اليوم بأكمله، ويحرص الطلبة على الوصول إلى مكان أستاذهم مبكرين"(49).‏

     

    أما المدة الزمنية للدرس فيبدو أنها كانت قصيرة "وعادة تتراوح بين ساعة وساعتين حتى لا يمل الطالب أو يشعر بإرهاق، والدروس يومية ومتوالية، ولا يفصل بينها أي فاصل، ما عدا أيام الجمع والأعياد، وحين يهطل المطر غزيراً، وبعض الإجازات الأخرى المتفرقة"(50).‏

     

    وقد يمتد وقت الدرس إلى المدى الذي "يراه الأستاذ وطلابه مناسباً ويتنوع على نحو شديد يبدأ من الاستشارة التي تعودها بعضهم، وقد لا يستغرق لحظة ويمكن أن يمتد ساعات طوالاً"(51).‏

     

    ولم يكن هناك جدول خاص يعيِّن أوقات الدروس أو نوعها , ولكن في الغالب كانت تخصص ساعات البكور والذهن في حالة تهيؤ ونشاط لدراسة العلوم النقلية التي هي عماد الدين كالتفسير والحديث والفقه والنحو والصرف وغيرها، أما بعد الظهر فتخصص لدراسة العلوم الأخرى التي تستند إلى العقل، أما المساء فجعلوه للاستذكار والحوار والتأمل.‏

     

    ولكن ذلك لم يمنع أن تلقى دروس الفقه أو غيره من العلوم الأخرى في أي وقت من أوقات النهار، فقد ذكر المقدسي (ت 367هـ/ 1977م) "أن جامع عمرو كان بين العشائين مغتصاً بحلق الفقهاء وأئمة القراء وأهل الأدب والحكمة"(52).‏

     

    وذكر القلقشندي (ت 821هـ/ 1418م) أن الفقهاء في الجامع الأزهر كانوا يتحلقون فيه يوم الجمعة بعد الصلاة إلى أن تصلى صلاة العصر , وكانوا يتكلمون في الفقه، وكان الطالب ينتقل من حلقة إلى أخرى تبعاً لنشاطه , وعدد العلوم التي يرغب في دراستها(53).‏

     

    أما مدة الدراسة في المسجد، والعمر الذي يبدأ فيه المتعلم دراسته، فيرى ترتون TRITTON أنه تُفتقد الإحصاءات المتعلقة بأعمار الطلاب المسلمين في العصور الوسطى، ولم تصل إلينا سوى حالات نادرة، ويعتبر سن السادسة عشرة كبداية لدراسة العلوم في المساجد(54) أي في المرحلة العالية من التعليم.‏

     

    لكن يبدو أن طالب العلم "لم يكن مقيداً بعدد خاص من السنين أو عدد معين من الكتب يتعين عليه قراءتها فكان له أن يترك الدراسة متى شاء، ولكن يغلب على الظن أن الطالب يحتاج إلى اثنتي عشرة سنة كي يتمم منهج الدراسة بالمسجد... بيد أن كثيراً من الطلبة قد شجعهم على طول الإقامة بالمسجد , والانقطاع لطلب العلم ما كان يدر عليهم من العطاء , ويجري عليهم من الأرزاق"(55).‏

     

    أما لغة التدريس التي كان يستخدمها العلماء في المسجد، فلا شك في أن اللغة الأساسية هي اللغة العربية لغة القرآن الكريم، إلا أنه بعد الفتوحات الإسلامية دخل الكثير من الناس في الإسلام، وهم من شعوب مختلفة منهم الفارسي والرومي والزنجي... الخ، مما حتم على الفقيه أو المحدث اتباع شتى الوسائل لإيصال المعارف لأصحابها , وخاصة إذا كانت أداتها اللغة، فهذا "موسى بن سيار الأسواري كان من أعاجيب الدنيا، كانت فصاحته بالفارسية في وزن فصاحته بالعربية، وكان يجلس في مجلسه المشهور به فيقعد العرب عن يمينه والفرس عن يساره، فيقرأ الآية من كتاب الله ويفسرها للعرب بالعربية، ثم يحول وجهه إلى الفرس فيفسرها بالفارسية فلا يدري بأي لسان هو أبين"(56).‏

     

    ولقد اهتم المربون المسلمون بمجالس الدرس في المساجد فوضعوا لها آداباً وأخلاقيات، وأصولاً ينبغي أن يتبعها العالم والمتعلم، مما يخلق أجواء نقية نظيفة تسودها العلاقات الإنسانية، والقائمة على بناء جسور الثقة والمحبة بين قطبي العملية التعليمية والتعلمية.‏

     

    أما مصادر النفقات على المساجد والجوامع فقد تعددت، فالأوقاف قامت بدور كبير من أجل تدعيمها , وتمكينها من أداء رسالتها، ويمكن القول أن "قوة الشعور الديني أدت إلى ازدهار الأوقاف وانتشارها، كما أن ازدهار هذه الأوقاف أدى بدوره إلى تقوية الشعور الديني، واستمرار تدفق المشاعر الدينية عن طريق المؤسسات الدينية، ولقد تعددت الأمور الموقوفة من بلدان وضياع وأملاك وحوانيت، وتعدد المنتفعون من أئمة وخطباء وفقهاء ومدرسين وعلماء وطلبة ومؤدبين وقوام وفقراء"(57).‏

     

    ولعبت الصدقات العامة والخاصة دورها إن كان لجهة ما يقدمه الخلفاء أو ما كان يعطى في مختلف المناسبات والمواسم، أو ما يعطى من فروض الزكاة.‏

     

    أما الشيعة الأمامية "فقد تمتعوا بحرية نسبية في تعليم علومهم بمساجد عرفت بالعتبات الشريفة والمشاهد الخاصة بهم ؛ لأن فيها مراقد أئمتهم , وأخذت أهمية المساجد المذكورة تزداد شيئاً فشيئاً خلال القرنين الرابع والخامس للهجرة، ويعتقد الإمامية أن السكن والتدريس في المراقد المذكورة من الأمور المستحبة دينياً.‏

     

    ويروي المفيد أن أحدهم قال: حدثنا محمد بن معقل قال: حدثنا أبي عبد الله بن جعفر الحميري عند قبر الحسين في الحائر سنة ثمان وتسعين ومائتين"(58).‏

     

    ومن أهم المشاهد الشيعية: مشهد علي بن أبي طالب (رضي الله عنه) في النجف، ومشهد الإمامين الكاظم والجواد ببغداد (رضي الله عنهما)، ومشهد الحاير أو مشهد الحسين )رضي الله عنه) في كربلاء، ومشهد الإمام الرضا (رضي الله عنه) في طوس، ومشهد فاطمة (رضي الله عنها) في قم.‏

     

    وقد لعبت المشاهد درواً تربوياً كمؤسسات تعليمية شيعية "مما دفع دونالدسن إلى القول إن الإمام الصادق وتلامذته كونوا شبه مدرسة سقراطية , وإن عدداً من تلامذته أسهموا إسهاماً كبيراً في تقدم علم الكلام وفنه"(59).

     

     وقد احتوت هذه المشاهد على خزائن للكتب حتى إنّ كثيراً من العلماء أو أصحاب الخزائن الخاصة كانوا يوقفون كتبهم عليها.‏

     

     
    الهوامش :‏

     

     
    (1)فيليب. هـ. فينكس: فلسفة التربية، ص 51.‏

     

     
    (2)عبد الغني عبود: في التربية الإسلامية، ص 110-111.‏

     

     
    (3)محمد أسعد طلس: التربية والتعليم في الإسلام، ص 70.‏

     

     
    (4)أحمد شلبي: التربية الإسلامية، ص 46.‏

     

     
    (5)عبد الغني محمود عبد العاطي: التعليم في مصر زمن الأيوبيين والمماليك، ص 121.‏

     

     
    (6)شهاب الدين عبد الرحمن بن إسماعيل المقدسي (أبو شامة):‏

     

     
    كتاب الروضتين في أخبار الدولتين النورية والصلاحية، ج1، ص 23.‏

     

     
    (7)أحمد شلبي: التربية الإسلامية، ص 54.‏

     

     
    (8)خطاب عطية علي: التعليم في مصر في العصر الفاطمي الأول، ص 72.‏

     

     
    (9)حسن حسني عبد الوهاب: مقدمة كتاب آداب المعلمين لابن سحنون، ص 50.‏

     

     
    (10)أحمد فؤاد الأهواني: التربية في الإسلام، ص 130.‏

     

     
    (11)عبد الرحمن بن نصر الشيزري: نهاية الرتبة في طلب الحسبة، ص104.‏

     

     
    (12)حسن حسني عبد الوهاب: مقدمة كتاب آداب المعلمين لابن سحنون، ص 47.‏

     

     
    (13)محمد بن محمد القرشي المعروف بابن الأخوة: معالم القربة في أحكام الحسبة، ص 260.‏

     

     
    (14)مجاهد توفيق الجندي: دراسات وبحوث في تاريخ التربية الإسلامية، ص 226.‏

     

     
    (15)حسن عبد العال: التربية الإسلامية في القرن الرابع الهجري، ص 185.‏

     

     
    (16)ابن الحاج العبد ري: المدخل، ج2، ص 321.‏

     

     
    (17)حسن حسني عبد الوهاب: مقدمة كتاب آداب المعلمين، ص57.‏

     

     
    (18)القابسي: الرسالة المفصلة لأحوال المعلمين وأحكام المعلمين والمتعلمين، ص 321.‏

     

     
    (19)حسن حسني عبد الوهاب: مقدمة كتاب آداب المعلمين لابن سحنون، ص 57.‏

     

     
    (20)ابن سحنون: آداب المعلمين، ص111.‏

     

     
    (21)ابن الأخوة القرشي: معالم القربة في أحكام الحسبة، ص 261.‏

     

     
    (22)ابن الحاج العبد ري: المدخل، ج1، ص322.‏

     

     
    (23)المرجع نفسه: ص 313.‏

     

     
    (24)عبد الغني محمود عبد العاطي: التعليم في مصر زمن الأيوبيين والمماليك ص 145.‏

     

     
    (25)المقريزي: الخطط، ج2، ص 246.‏

     

     
    (26)المرجع نفسه: ص 247.‏

     

     
    (27)أحمد شلبي: التربية الإسلامية، ص 102.‏

     

     
    (28)علي الجمبلاطي، أبو الفتوح التوانسي: دراسات مقارنة في التربية الإسلامية ص19-20.‏

     

     
    (29)اسحق أحمد فرحان: التربية الإسلامية بين الأصالة والمعاصرة، ص29.‏

     

     
    (30)حسين مؤنس: المساجد، ص34.‏

     

     
    (31)المرجع نفسه، ص37.‏

     

     
    (32)أسماء حسن فهمي: مبادئ التربية الإسلامية، ص 59.‏

     

     
    (33)ابن أبي أصيبعة: عيون الأنباء في طبقات الأطباء، ص68.‏

     

     
    (34)عبد اللطيف الطيباوي: تاريخ العرب والإسلام، ص 36.‏

     

     
    (35)أحمد فكري: مساجد القاهرة ومدارسها، ص 143-144.‏

     

     
    (36)السيوطي: حسن المحاضرة في أخبار مصر والقاهرة، ص451.‏

     

     
    (37)المقدسي: أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم، ص205.‏

     

     
    (38) Bayard Dodge: Muslim Education in the Mediaeval Times, p. 8.‏

     

     
    (39)ابن جبير: الرحلة، ص 245.‏

     

     
    (40)ياقوت: معجم الأدباء، ج4، ص 16.‏

     

     
    (41)عبد اللطيف الطيباوي: تاريخ العرب والإسلام، ص55.‏

     

     
    (42)أسماء حسن فهمي: مبادئ التربية الإسلامية، ص 27.‏

     

     
    (43)آدم متز: الحضارة الإسلامية في القرن الرابع الهجري، ص 296.‏

     

     
    (44)شوقي ضيف: تاريخ الأدب العربي في العصر العباسي الثاني، ص 229.‏

     

     
    (45)طه الحاجري: الجاحظ حياته وآثاره، ص106.‏

     

     
    (46)آدم متز: الحضارة الإسلامية في القرن الرابع الهجري، ص 296-297.‏

     

     
    (47)المرجع نفسه: ص297.‏

     

     
    (48)ابن جماعة الكناني: تذكرة السامع والمتكلم في آداب العالم والمتعلم ص44.‏

     

     
    (49)محمد عبد الحميد عيسى: تاريخ التعليم في الأندلس، ص 353.‏

     

     
    (50)خوليان ريبيرا: التربية الإسلامية في الأندلس، ص142.‏

     

     
    (51)المرجع نفسه. ص 142.‏

     

     
    (52)المقدسي: أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم، ص 205.‏

     

     
    (53)القلقشندي: صبح الأعشى، ج3، ص367.‏

     

     
    (54) Bayard Dadge: Muslim Education in the Mediaeval Times, p.8.‏

     

     
    (55)خطاب عطية علي: التعليم في مصر في العصر الفاطمي الأول، ص138-139.‏

     

     
    (56)الجاحظ: البيان والتبيين، ج 1، ص193.‏

     

     
    (57)محمد محمد أمين: الأوقاف والحياة الاجتماعية في مصر، ص 243.‏

     

     
    (58)عبد الله فياض: تاريخ التربية عند الإمامية وأسلافهم من الشيعة بين عهدي الصادق والطوسي، ص71.‏

     

     
    (59)المرجع نفسه: ص75.‏             

     

     
    المصدر : مجلة التراث العربي(مجلة فصلية تصدر عن اتحاد الكتاب العرب-دمشق ) العدد 39 و 40 - السنة العاشرة - نيسان وتموز "ابريل ويوليو" 1990 م - شوال 1410 ومحرم 1411 هـ

     

    كلمات مفتاحية  :
    دور الكتّاب المساجد المسلمين تاريخ

    تعليقات الزوار ()