طريقان لطريق واحد:
الكائن على صعيد الآدمية له ماهيتان متلاحمتان ومتناغمتان لا يكون إلا بهما، ولا يفعل في الوجود إلا عن طريقهما:
أولاهـما : ماهية فيزيقية مادية متحيزة الأبعاد.
وثانيتُهما: ماهية ميتافيزيقية صوفية شعرية، مفتوحة على اللانهائي، مسكونة بالمجهول، تواقة للامألوف.
وبهاتين الماهيتين يتم كمال الكائن، وتتحقق إنسانيته، وتبرز اختلافاته الممكنة والخلاقة. ولا يمكن إدراك مساراته الوجودية إلا بإدراك هاتين الماهيتين في شموليتهما، ودون عزل الواحدة عن الأخرى. ففهمُ الكائن هو فهمٌ للغة اللامحدود فيه، وكل نسيان أو تعطيل لهذه اللغة يعدُّ نسيانا وتعطيلا لعمقه.
فلغة اللامحدود هي لغة العمق التي تحاول الشوملة تعطيلها في الكائن، وتحاول الصوفية الشعرية تَسْييدَها من أجل إنقاذه وإنقاذ العالم معها من غياهب الفظاعات. فالصوفية الشعرية تلتقط كونيةَ الوقائع بمعزلٍ عن أسبابها وعللها، وباستقلالٍ تامٍّ عن مذاهبها ونِحلها ومُعتقداتها التي تنتمي إليها، على نحوٍ من الحدس Intuitionعالٍ، ثم تصهرها في مضمار تجربتها القُصوى، لتُخرجها بعد ذلك لغةً بكراً ذات تلوينات وتنويعات ترى فيها كلُّ اللغات نفسها وتعدُّدِيَّةَ تجلياتها. وهذه الوحدة في التعدد هي التي كان ابن عربي قد نذر لها صوفيَّتَهُ الشعرية، وجلاَّها على نحو صريح في هذه الأبيات الذائعة الصيت :
لَقَدْ صَارَ قَلْبِي قَابِلاً كُلَّ صُورَةٍ
فَمَرْعًى لِغِزْلاَنٍ وَدَيْرًا لِرُهْبَانِ
و َبَيْتًا لِأَصْـنَامٍ وَكَعْبَةَ طَائِـفٍ
وَ أَلْوَاحَ تَوْرَاةٍ وَمُصْحَفَ قُرْآنِ
أَدِينُ بِدِينِ اُلْحُبِّ أَنَّى تَوَجَّهَتْ
رَكَائِبُهُ، فَاُلْحُبُّ دِينِي وَ إِيمَانِي
إنها لغةُ وحدة العمق الحاملة لجمالية التعدد وجوهرية الكلمة وكونيتها لدى الكائن الكامل، لا تلتبس ولا تغدو محصورة أو مضللةً، و لا مستنفدة. فيها تتجلى رؤيا الألوهة أقوى ما يكون التجلي متعدِّدَةً في التوحد، فضاؤها التسامح والإدراك وليس التنابذ والانغلاق، لأن الألوهيةَ فيها هي ألوهية تَجَلٍّ جمالي على الكائنات، لا ألوهية طقوس ورسومات. وكل كائن له الحق في تصورها بمقدار ما تلقاه من تجلٍّ، وما دام منبع التجليات واحدا فإن إقصاء تجلٍّ من طرف تجل آخر هو محض افتراءٍ على الألوهية التي لا حدود لتجلياتها، "فإلهنا وإله اليهود والنصارى والصائبة وجميع الفِرق واحد، كما أخبر تعالى. إلا أن تجليه لنا غير تجليه في نزوله إلى النصارى، غير تجليه في نزوله إلى اليهود، غير تجليه لكل فرقة على حدتها. بل تجليه في تَنَزُّلِهِ للأمَّة المحمدية متباينٌ ومتخالفٌ، ولذلك تعددت الفرق فيها إلى ثلاثٍ وسبعين فرقة، وفي نفس هذه الفرق فِرق بينها تباين وتخالفٌ. وما ذلك إلا لتنوع التجلي بحسب المُتجَلَّى له واستعداده، فتجلِّيهِ تعالى واحدٌ في كل تنوع وظهور ما تغير من الأزل إلى الأبد (....) فليس في العالم جاحدٌ للإله مطلقا من طبائعيٍّ ودهريٍّ وغيرهما، وإن فهمت عباراته غير هذا فإنما لسوء التعبير، فالكفرُ في العالم كلُّهُ إذًا نِسْبِيٌّ، ولا أحدَ من عباد الله يعرفه في كافة تجلياته، ولا أحد منهم يجهله في كافة صفاته."
إن الصوفية الشعرية؛ باعتبارها لغةَ العمق العاطل للكائن؛ تَبْلُغُ فيها رؤيا الألوهية مداها حيث تتعالى على مختلف المعتقدات والمذاهب التي تُدعمها الدياناتُ، فالكلمة التي تتجلى من خلالها واحدة في اختلافها اللامنتهي، حتى ولوْ رشَحَتْ منها الحيرةُ القصوى، فتلك الحيرة ما هي إلا نتيجة تعدد التجلي وتنوعه، وسرعة تلاشيه، وغزارة التألقات الإلهية فيه.. ومن ثمة يكون حقلُ هذه اللغة حقلَ شساعات وانفلاتات، وحقلَ هشاشة وتقلبات، الكلمة فيه ألف ضوءٍ وضوءٍ حين تنغزل شعرًا بوجدانٍ صوفي.
فالشعر تجربة سالكة طريق الحدسِ
والتصوفُ كذلك تجربة سالكة طريق الحدس
وهاتان التجربتان تلتقيان في طريق واحدٍ هو جَوْهَرِيَّةُ الكلمة،وفي الاشتغال الجذري عليها بوعيٍ مخصوصٍ يجعل التعبير مُرتقيا إلى بصيرةٍ تتجاوز الطبيعةَ، كما يجعل نعمة الكلمة لديهما واحدةً لا تدوم أكثر من لحظة عابرة..كلمة تخترق الشاعر والصوفيَّ وتنيرهما، مرجعةً إياهما إلى قُحُولتهما، ضئيلين، سريعيِ الزوال، شديدي الظمإ إليها. إذ لا شِبَعَ ممكنا في جوهرية الكلمة،ولا امتلاء يقينيا منها، فالإقصاءُ والشعور بالهجر هما الوجه الآخر لذلك النور الهارب، وهما نعمةُ وعقابُ من لمح المجهول بعين الخيال، وأراد بسطهْ للكائن المُخدَّرِ البال.
فالتجربتان إذن هما طريقان لطريق واحد هو الكائن الكاملُ في كونٍ كاملٍ، فهذا الكائن حين تخترقه الكلمةُ مثل جسم شفافٍ لا يسعهُ إلا أن يوليَ وجهَه بالضرورة شطر الكون الكامل، وليس شطر وجْهِهِ المادي، بمعنى أنه يُولِّي وجهَه للفضاء اللامادي الذي يعمل عملهُ في الذوق والحدس والخيال كأقانيم إنسانية ما تنفكُّ تهجسُ بقيم الجمال.
__________________
نحن نصنع من أرواحنا خبزاً يأكله الجميع ؛ وبقايا الأيام نقتسمها معاً!!.