شبكة النبأ: تتنوع عوامل التأزُّم في المجتمع المأزوم وتتعدد عناصره وأسبابه، لتزرع في نسيجه الاجتماعي حالة من اللا استقرار والتذبذب وعدم القدرة على التعايش بين مكوناته المتباينة من حيث الثقافة والإرث واللغة والعرق وما شابه، وينهض في هذه الحالة دور النخب التي لابد أن تتصدى لهذا النوع من الأزمات الساحقة وما تفرزه من عوامل هدم وتدمير كالحروب الاهلية والاقتتال والكراهية المريرة المتبادلة بين مكونات المجتمع الواحد.
ولا يبخل علينا التأريخ الإنساني بمثل هذه الحالات والتجارب التي تكاد أن تكون آثارها شاملة بحيث قلما تجد أمة أو شعبا وصل الى حالة الاستقرار من دون المرور بمراحل الصراع والأزمات القاسية والاقتتال والكراهية حتى عثر مفكروه وحكماؤه على الحلول الناجعة التي قضت على التناحر وجاءت بالبديل المطلوب متمثلا في أهم ركائزه وأركانه بهيمنة حالة التعايش على الجميع من دون استثناء.
بمعنى أن عملية التعايش والاستقرار في المجتمعات ذات المكونات المتباينة عرقيا او دينيا او ثقافيا لابد أن تمر بمرحلة الصراع، تعيشها وتكوى بويلاتها ثم تهجرها الى شواطئ الاستقرار والتعافي والانطلاق نحو بناء الواعد الراسخة للتعايش الاجتماعي الراسخ والمتّسم بالثبات، ولكن ما هي الاسباب التي تعيق الوصول الى حالة التعايش بين مكونات المجتمع ؟. وكيف يمكن درء الأخطار الناجمة عن هذا الخلل الكبير؟.
هنا لابد أن نؤكد بأن أحد أهم أسباب إعاقة حالة التعايش هو تمسك كل طرف بالأحقية التي تقف الى جانبه في كل الظروف والأوقات، أي أن جميع المكونات تنتهج مبدأ الحق الكامل الذي لا تتنازل عنه تصريحا او تلميحا او على نحو عملي، وهذه النقطة بالذات هي التي تشكل العقبة الكأداء بين المكونات المختلفة للمجتمع، فكل مكوّن يرى أنه صاحب الحق المطلق في تطلعاته وطلباته وأفكاره ونهجه في الحياة، أما الآخرون فهم الخطّاؤون دائما، وهنا تكمن أهم المشكلات التي غالبا ما تؤجج ساحة الصراعات وعناصرها بين مختلف المكونات.
في حين لابد أن تكون هناك نسبة من التنازلات مع عدم التشبث المستميت بالأحقية المطلقة وصحة الآراء المطلقة أيضا من قبل هذا المكون او ذاك، لأن هذا التشبث القاطع لا ريب سيقود الى التناحر وتصاعد الصراع وغالبا ما يصل حد الاقتتال وما الحروب الآهلية التي حدثت عبر التأريخ إلا نتيجة لتشبث المكونات بالحق المطلق، في حين لابد من اعتماد مبدأ الحق الناقص، أي لسنا نحن أصحاب الحق فقط بل ثمة الآخرون هم أصحاب حق أيضا ولابد أن ننتهج مبدأ الحق الناقص لكي نترك فسحة منه الى الآخرين، وهذا ما سيقود الى التعايش قطعا.
حيث تتبلور رؤية مشتركة لعموم المكونات المختلفة للمجتمع الواحد تقودهم الى تقديم التنازلات المناسبة لبعضهم وتجعل القبول المتبادل للرأي والرأي الآخر محورا مشتركا يجمع بين كل الطوائف والمكونات المجتمعية المختلفة، فليس هناك شيء قطعي ولا هناك حق مطلق بل ثمة القبول بالحق الناقص الذي يكتمل بحقوق الآخرين والتعامل معهم وفقا للمنفعة الاجتماعية المتبادلة الى تقودهم جميعا الى خلق التوازن الاجتماعي المطلوب بسبب التفاهمات الراسخة والمتبادلة بين الجميع.
لهذا لابد أن تتنبه النخب المسئولة في المجتمع على نقاط الخلاف وتعمل على معالجتها وتذويبها من خلال نشر ثقافة التعايش والقبول بالآخر والتنازل عن بعض الحقوق مقابل تنازل الآخرين عن بعض حقوقهم، وهكذا تكون العملية تبادلية حيث تسود حالة من التسامح الفاعل بدلا من حالة التأزّم التي غالبا ما يشتعل أوارها في المجتمعات ذات المكونات المتعصبة.
وليس عيبا أن تمنح الآخرين هامشا مما تراه حقا مطلقا لك، فحالة الإطلاق نفسها تعتبر من أقوى أعداء الشعوب ومكوناتها، كما أن التشبث بالرأي وصحته وسيادته على الافكار والآراء الأخرى هو نوع من الانغلاق والتحجر الفكري الذي يرفض الحوار مع الآخر وربما يصل الامر الى تكفيره او وصمه بالانحلال والفشل وما الى ذلك من أوصاف لا تليق بالتحاور الإنساني القويم.
إن المجتمع المأزوم لا علاج له سوى الشروع بصناعة التعايش وتطوير ركائزه من خلال نشر ثقافة التعايش وشروطها ومقوماتها بين جميع المكونات التي قد تكون متناحرة في مرحلة ما لكنها لابد أن تصل الى مرحلة التقارب والتلاقي والانسجام من خلال اعتمادها مبادئ وثقافة التعايش القائمة على القبول بالآخر واحترام حقوقه وتبادل الآراء والأفكار معه وصولا الى بناء قاعدة راسخة من الثقة المتبادلة التي تساعد على تذويب الخلافات والتناقضات بين جميع المكونات تحقيقا لبناء المجتمع النموذجي في تعايشه وتعاونه وانسجامه، وثمة الكثير من هذه النماذج التي تكونت بعد صراع مرير كما هو الحال مثلا مع شعب جنوب أفريقيا.
بيد أن الأمر بحاجة الى نخب واعية مؤمنة راسخة ومتوازنة في توجهاتها الإنسانية لكي تمنح المجتمع ومكوناته فرصة التوحد والانسجام والتعايش بعيدا عن حالة التناحر والصراع والأزمات التي لا تبقي ولا تذر.