شبكة النبأ: سأطرح في هذا المقال سؤالين، وأحاول الاجابة عنهما من وجهة نظر شخصية تستند الى الوقائع.
السؤال الأول: هل أننا لا نزال نقبع تحت ظل ثقافة العنف التي اعتادها العراقيون منذ عقود وترسخت في أذهانهم ثم أفكارهم ثم أفعالهم؟.
وفي محاولة الاجابة عن ذلك، تؤكد الوقائع التي سبقت وأعقبت احداث عام 2003 أننا لم نتخلص بعد من هذه الثقافة، بل ربما من ينظر الى المشهد بعمق سيخشى من بقاء هذه الثقافة واقامتها بين ظهرانينا الى مدى قد يطول، وربما يرى البعض طرحا سوداويا في هذا الرأي، لكن واقع الحال لا يزال يشير الى ذلك.
فظاهرة الاحتفال بإطلاق العيارات النارية (القاتلة ولا نقصد الألعاب النارية) في هذه المناسبة او تلك، تدل بما لا يقبل الشك بأن بعض العراقيين لا يزالون يعيشون حتى اللحظة تحت عبء ثقافة العنف والحروب والاقتتال وما شابه، وإلاّ فإننا قد لا نجد كائنا متوازنا يحتفل بهذه الطريقة التي تنم عن غرق في ثقافة العنف.
فمع كل التطورات التي استجدت في الساحة السياسية او الاجتماعية او الاقتصادية، لا يزال بعضهم يطلق الأعيرة النارية باتجاه السماء عندما يفرح بهذا الحدث او ذاك، ومع التحذيرات الكثيرة والتوجيهات المستمرة من هذه الجهة او تلك يصر بعضهم على الاحتفال بهذه الطريقة التي لا تمت للمدنية بشيء، بل لم تنفع معهم كثرة الحوادث المميتة التي التي تعرّض لها الابرياء ولا حالات الاصابة التي تسببت في عاهات مستديمة لدى حالات تحدثت عنها وسائل الاعلام وغيرها.
وعندما نبحث في جذور هذه الظاهرة المرفوضة سنجد أنها نتاج تأريخ من العنف والحروب والاقتتال المريب مضافا الى زرع هذه الظاهرة العنيفة وغيرها في النفوس لتبدو مشهدا طبيعا للجميع مع أنها ليست كذلك قط، ولذا فإن دراسة هذه الظاهرة ومحاولة معرفة أسبابها ووضع المعالجات المطلوبة لها يجب أن يتصدر اهتمامات كثير من المعنيين الرسميين وغيرهم.
وليس من المعيب أن نؤشر خللا فينا وندعو الى معالجته ونعمل على ذلك، بل المعيب هو التنصل عن هذه المهمة الحضارية بل والنظر إليها وكأنها أمر معتاد يتماشى مع واقع الحال، وهناك من ينظر الى ظاهرة الاطلاقات النارية وكأنها مشهد لا يشكل خروجا على الوضع الطبيعي، ولعل هذه اللامبالاة في التعامل مع الظواهر السلبية هي التي تطورها وتسمح لها بالبقاء والنمو لاحقا.
السؤال الثاني: هل يمكن الخروج بعيدا عن سلطة ثقافة العنف والسعي الى بناء المجتمع المتحضّر؟.
قد نتفق على أننا لا نزال نرزح تحت وطأة بقايا من ثقافة العنف، فالذي تجذَّر في نسيجنا الاجتماعي عبر مراحل طويلة ومتعددة، يدل على أننا لا نزال نعاني من هذه الثقافة، ويدفعنا ذلك الى وجوب التخلص منها، وهذه تحديدا مهمة المسؤولين والمثقفين ورجال الدين وكل من يملك إمكانية التوجيه المادي والمعنوي لإشاعة ثقافة اللاعنف.
بيد أن هذا الامر الجسيم الذي يخص تغيير منظومة سلوك وتفكير واسعة، لا يمكن أن يُعالج بالتمنيات او حملات التنظير التي تفتقد للفعل المجسَّد، وهذا يعني أهمية برمجة الأصوات الداعية لنبذ العنف وتحويلها الى خطط عملية واضحة تعتمد التثقيف بنوعية المادي والمعنوي.
وهذا يتطلب تخصيص جهات بعينها تدرس الحالة، أسبابا وإفرازات، وتضع الحلول اللازمة وسبل تطبيقها ومنها على سبيل المثال:
- تأسيس المنظمات التي تختص بمعالجة هذه الظاهرة ومنحها وجودا ماديا قائما على الارض ودعمها بما تحتاجه من مستلزمات النشاط والاستمرار في هذا التوجه.
- إعتماد حملات التوعية المستمرة لنبذ العنف عبر وسائل الاعرم المختلفة.
- التدخل الكبير للخطباء ورجال الدين في نشر ثقافة السلم والتحاور واحترام الرأي، ونبذ الاعمال التي تسيء للآخر عن قصد أو بدونه.
- التعريف بالمخاطر المباشرة وغير المباشرة لاطلاق الأعيرة الحية القاتلة، وانعكاسها على التربية النفسية للاطفال والكبار معا.
- العمل معا عبر المنافذ الرسمية والاهلية كمنظمات المجتمع المدني على نشر ثقافة السلم والمدنية الهادفة الى خلق المجتمع المتحضر.
- نشر روح التآخي بين الجميع عملا بالتوجيه الاسلامي الذي آخى بين الناس جميعا إستنادا الى إنسانيتهم او دينهم وما شابه.
وهكذا تتضح إمكانية التحول التدريجي من ثقافة العنف والرضوخ لمساراتها الى ثقافة السلم والدخول في أجوائها الرحبة المتحضرة التي تتواءم مع التحولات التي يعيشها العراقيون في المرحلة الراهنة، والانتقال من التعامل الطبيعي مع مظاهر العنف (ومن بينها الاحتفال بإطلاق الأعيرة النارية) الى حالة نبذ واستنكار مثل هذه الظواهر، وصولا الى بناء المجتمع المتمدن.