اذا كنا خرجنا من امتحانات الدراسة فقد دخلنا في امتحان الصيف و ابتلاءات النعم المهدرة: فراغ بكميات ضخمة مع فوضى وحيرة في توجيهه, صحة وافرة لا تعرف الأجيال قيمتها، ثم هي لا تدري كيف تتعامل معها, أموال تحترق دون أن تضيء، ودون أن تكون وقوداً لمركبة تنهض بالأمة!، ففي الصيف تسيل الأموال كما يسيل الماء في غير أخدود يأخذ كل اتجاه ويهدر دون قدر.. في الصيف عقول تتهاوى اما لتوقف المعرفة، واما لتسلل الفساد اليها عن طريق مسلسلات الفضاء التي يراد منها- جهلاً أو سذاجة- أن تذهب بالهموم وتقضي على الفراغ ( وما يزيدهم الا طغياناً كبيراً).
هكذا الصيف حين لا يوجَّه ، ابتلاء ومحنة ، واضطراب ونقمة، لو كشف لنا في نهايته عن شيء من الإحصائيات لرأينا العجب !!.
ومن أجل التوجيه والإسهام في حل هذه الظواهر الصيفية نرسل هذه الرسائل مكتوبة بقلم الرحمة على صفحات الحب ، كلمات نطق بها لسان النصح :( إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا با لله ).
الرسالة الأولى: عمل الليل والنهار، جعل الله لكل من الليل والنهار وظيفته الخاصة قال تعالى (هو الذي جعل الليل لباساً والنوم سباتاً وجعل النهار نشورا) وقال تعالى (هو الذي جعل لكم الليل لتسكنوا فيه وجعل النهار مبصراً) فالله (جعل الليل سكنا ولباسا يغشى العالم فتسكن فيه الحركات وتأوي الحيوانات إلى بيوتها والطير إلى أوكارها وتستجم فيه النفوس وتستريح من كد السعي والتعب) ولكن ماذا يحصل في صيفنا الحاضر؟! سهر في الليل, ونوم في النهار تضيع بسببه كثير من الحقوق، حق الله: بترك الصلاة ، وحق الأهل بالإهمال والتضييع للأولاد والبنات، وأمانة العمل والوظيفة .
إن للسهر أضراراً دينيه واجتماعيه وصحية وأمنية أجملها فيما يلي :
- في الليل ينتشر الظلام فينتشر الأشرار ،فيه تتكون اللقاءات المشبوهة والجلسات الموبوءة . ففي استبانه وزعت على شريحة من الشباب الساهر أفاد 30% منهم أن السهر يساعد في التعرف على قرناء السوء، وأفاد 48% منهم أن السهر يساعد في اكتساب العادات السيئة كالدخان والشيشة والغناء والغزل ونحوها, لقد كان القرآن الكريم يؤكد على خطورة هذا الوقت, بل يأمر بالتعوذ بالله مما فيه من الشر والأشرار (ومن شر غاسق إذا وقب) وهذا يؤكد ضرورة الرقابة على المجتمع في ليالي الصيف الصاخبة..
- وبسبب السهر فإن كثيراً ممن ينام قبل الفجر ينام عنها، ومن ينام بعدها يستعيض بدلاً منها بالنوم عن صلاتي الظهر والعصر،وأي جريمة أعظم من هذا وأي تضييع للدين كهذا ، وفي البخاري عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث الرؤيا الطويل قال:( فأما الذي أتيت عليه يثلغ رأسه بالحجر فإنه الرجل يأخذ القرآن فيرفضه، وينام عن الصلاة المكتوبة ) .
- أثبتت الدراسات أن السهر يؤثر على الجهاز العصبي لدى الإنسان حيث يعيق طرفيات الجهاز العصبي وخلايا الإحساس من أداء عملها بشكل فعال, ويتسبب في فقدان التركيز وضعف الذاكرة وبطء الاستجابة العصبية . وأثبتت الأبحاث أيضا أن السهر يحرم الإنسان من إفراز هرمون النمو بشكل طبيعي، ويفقده كثيراً من هرمون (الميلاتونين) وهو المسؤل عن إعطاء الجسم مزيداً من الحيوية والنشاط وإكسابه المزيد من المناعة ضد الإصابة بالأمراض المختلفة و بما فيها الأورام السرطانية. وجاء في تقريرٍ آخر: أن سهر الأطفال يؤدي إلى تأخر النمو، أو حتى توقفه، وأن المدمنين على السهر يصابون بالأمراض المختلفة والتوترات والقلق الدائم.. ( ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما ) (يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الإنسان ضعيفاً ) .
الرسالة الثانية: الأمانة والمسؤولية
أيها الأب المبارك عليك مسؤولية عظيمة في حفظ بيتك وحماية أولادك، وشغل أوقاتهم بالمفيد، والبحث لهم عن مواقع آمنة ورفقاء صالحين .
- إذا ذهبت بأولادك للنزهة فعليك أمانة اختيار المكان المناسب للسكنى والنزهة بعيد عن المكان المشبوهة، أو التي تعمها الفوضى ولا يديرها نظام ؟!. وبالمناسبة فإننا نحذر من السفر للنزهة خارج هذه البلاد, حيث يضعف الاهتمام بالحجاب, وبأمور الدين الأخرى, مما قد يجعل العين تقع على مالم تعتد من المناظر مما يكون لها فيه فتنة. وفي بلدنا غنية فلا تكن الرغبة في رخص الأسعار على حساب رعاية الدار, وحفظ الدين.
أصون عرضي بمالي لا أدنسه *** لا بارك الله بعد العرض بالمال
- اختر الأوقات المناسبة للتسوق والتجول بعيداً عن مظلات الفتن ومزالق الريب. إن الأماكن التي يتواجد فيها العزاب لا تصلح للعائلات ولا قريباً منها، وأماكن الترفيه وقرى الألعاب غير المنضبطة والتي لاتحاط برقابة شديدة لاتصلح للعائلات المحتشمة العفيفة. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: لَيْسَ للإنسان أَنْ يَحْضُرَ الْأَمَاكِنَ الَّتِي يَشْهَدُ فِيهَا الْمُنْكَرَاتِ وَلَا يُمْكِنُهُ الْإِنْكَارُ؛ إلَّا لَمُوجِبٍ شَرْعِيٍّ : مِثْلَ أَنْ يَكُونَ هُنَاكَ أَمْرٌ يَحْتَاجُ إلَيْهِ لِمَصْلَحَةِ دِينِهِ أَوْ دُنْيَاهُ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ حُضُورِهِ أَوْ يَكُونُ مُكْرَهًا. فَأَمَّا حُضُورُهُ لِمُجَرَّدِ الْفُرْجَةِ وَإِحْضَارِ امْرَأَتِهِ تُشَاهِدُ ذَلِكَ فَهَذَا مِمَّا يَقْدَحُ فِي عَدَالَتِهِ وَمُرُوءَتِهِ إذَا أَصَرَّ عَلَيْهِ .
لا تقل ضاقت البلاد عليّ *** في سواها مراغماً وبديلاً
- صحبتك لأولادك وملازمتك لنسائك في الأسواق و المتنزهات تاج فخارٍ لك ورآية حشمة ترفعها بين الناس، وسلاح تشهره في وجه كل غادر، روت كتب الأدب عن عمر بن ربيعة -شاعر المجون والغناء في شبابه- أنه كان مولعاً بتتبع النساء ومتابعة النظر إليهن فقدمت امرأة إلى مكة وكانت من أجمل النساء فبينما عمر يطوف إذ نظر إليها فوقعت في قلبه فدنا منها يكلمها فلم تلتفت إليه، فلما كان في الليلة الثانية طلبها حتى أصابها فزجرته وقالت: إليك عني يا هذا إنك في حرم الله وفي أيام عظيمة الحرمة ،فلما أتت الليلة التي بعدها قالت لأخيها أخرج معي فأرني المناسك فإني لست أعرفها، فأقبلت وهو معها فلما رآها عمر أراد أن يعرض لها فنظر إلى أخيها معها فعدل عنها فتمثلت المرأة بقول النابغة :
تعدوا الذئاب على من لا كلاب له *** وتتقي صولة المستأسد الضاري
* إن غياب الولي عن أهله يجعلهم عرضة لتحرش الذئاب ولو كان أهله في النقاء كماء السحاب، أنت أيها الأب الكريم خيّّرٌ وأهلك أخيار, لكن قد تبتلوا بناقص الذمة و الدين، ومن طاف في أرض المسبعة نهشته السباع، كم من الأسر التي لم تعرف الشر إلا عندما أهملت بعيداً عن أعين الرقيب.
ما كانت الحسناء تبدي خدرها *** لو كان هذي الجموع رجال
إن ذئاب اليوم قد استشرت و إن منافذ الشر لم تعد واضحة ترى بالعين المجردة كما كان قبل، إن خدمات البلوتوث – مثلاً - يمكن أن تخترق عائلتك وأنت جالس بينهم لا تشعر, ولذا لزم التأكيد في البحث عن الأماكن النقية الآمنة.
عليك أيها الأب رعاية أولادك و حمايتهم عن الشوارع وجلساء الليل .. أطفال يجوبون الشوارع في الصيف إلى آخر الليل ؟! فمن يرعاهم ؟! وكيف سيكون حالهم ؟!
* وأنت أيها الشاب عليك أمانة تجاه نفسك فقد بلغت سن التكليف، لست بالصغير الذي لو مات ألحق بوالديه دون حساب أو عذاب ،أما أنت أخي الشاب فقد فتح ديوانك, وكتب إحسانك, وسجل عصيانك, فا حفظ أمانة الله التي أودعك إياها . عينك أمانة فلا تحفظ في ذاكراتها _ التي ستكشف يوم الحساب _ صورة محرمة, أولحضة خائنة، فالله يعلمها وسيجازيك عليها . وأذنك أمانة فصنها عن مزمار الشيطان وفاحش القول. ولسانك أمانة فلا تطلقه في السباب والشتائم والاستهزاء والسخرية, فالسهرات الطويلة يلزم لها كلام طويل, وقل أن يسلم لأحدٍ كلاب دون ذنب (ومن كثر كلامه كثر سقطه ). قال تعالى(ما يلفظ منقولٍ إلا لديه رقيب عتيد ). وقوة أعضائك أمانة فلا تسخرها للشيطان في شبابك, فتعجز عن عبادة ربك في شيخوختك، قال عطبه سالم رحمه الله في تفسيره لقول الله تعالى: (لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم ثم رددناه أسفل سافلين إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات .. ) وقد أدكنا شيخ القراء بالمدينة المنورة الشيخ حسن الشاعر .. قد تجاوز المئة وهو لا يزال يقرئ تلاميذه القرآن ويعلمهم القراءات العشر، وقد يُسمِّع لأكثر من شخص يقرؤون في أكثر من موضع وهو يضبط على الجميع ( تتمة أضواء البيان 9/187 ).
- أيها الشاب: اعرف نعمة الله عليك بالأكل و الشرب و النوم والحركة و السكون، انظر إلى أترابك ممن سلبوا هذه النعمة وقد كانوا في كمال قوتهم وبأسهم، وإذا غلبتك نفسك وغرك شبابك فاجعل من الصيف فرصة لزيارة المستشفيات التي تضم بين ردهاتها أصحاب العاهات المزمنة، أو مستشفيات الأمل لترى النفوس الهالكة والعقول المدمرة بالمخدرات ونحوها، شباب في أعمار الزهور مثلك أخذت منهم القدرة فبقيت أعضائهم دون حراك، يمن عليهم من يقدم لهم شربة ماء، روي عن حكيم فارسي قال: ما شكوت الزمان ولا برمت من الحياة إلا عندما حفيت قدماي ، ولم أستطع شراء حذاء فدخلت مسجد كوفة، وأنا ضيق الصدر، فوجدت رجلاً بلا رجلين، فحمدت الله وشكرت نعمته عليّ.
الرسالة الثالثة: ولا تسرفوا
هل أصبح من لازم الصيف السرف؟! حتى أصبح لا يستقيم لنا عرس, ولا تكتمل لنا نزهة, ولا يطيب لنا لقاء إلا بالسرف!!
عجب حالنا: ما إن نأخذ المهر من الزوج - الذي تعب على تحصيله- إلا وننفقه يمنة ويسرة دون أدنى ترتيب وحسن تدبير, نشتري من الفساتين والملابس ما يكفي الفئام من الناس, ومن أدوات التجميل والعطورات ما لو وزع على نساء الحي لكفى!! ثم إذا جاءت وليمة العرس لم يكفنا ما يشبع الناس حتى نطلب ما نفخر به عليهم, ليبقى زوج ابنتنا بعد ذلك يُصارع الدَّين دهراً في حالة نفسية لا تساعده على الاستقرار والسعادة مع ابنتنا.. لست أمانع من إنفاق المال للزوجة فهو حق لها, لكنَّ يكفي من القلادة ما أحاط بالعنق, ومن السوار ما استدار على المعصم, وما حاجته يوم تكفي فيه استعارته أو استئجاره بدلاً من شرائه بالمئين أو بالألوف, ليبقى المال للزوجين يتمتعان به بعد ذلك يشتريان به على رغبتهما..
لا خير فيمن لم يكن عاقلاً *** يأخذ من يُسْره إلى عُسْره
في صحيح البخاري عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان لي منهن أي: من الدروع القطنية, درع على عهد رسول الله > فما كانت امرأة تقين بالمدينة أي: تتزين, إلا أرسلت إلى تستعيره) قال المهلب: عارية الثياب في العرس من فعل المعروف والعمل الجاري عندهم، وأنه مرغب في أجره؛ لأن عائشة لم تمنع منه أحدًا. ..
وإذا أردنا أن نذهب إلى سياحة رأينا أنه لا يتناسب الاقتصاد مع روح السياحة والنزهة, بل علينا أن أن نسكن ما يسكنه الأغنياء, ونذهب إلى ما يذهبون إليه, وأن نشتري من المأكولات ما ننقله من مبردات المراكز الغذائية إلى حاويات النفايات بعد أن تغير الشمس صلاحيته لطول مكثه في السيارة. إلى غير ذلك من مظاهر السرف في السفر.. لست بهذا أطلب التقتير, ولكني أنادي بحسن التدبير.
أيها المسلمون: لم يأت النهي عن السرف في الأمور المحرمة؛ لأنه لا يجوز فعلها أصلاً ، وإنما جاء النهي عن السرف في المباح قال >: ( كل وأشرب وألبس من غير سرف أو مخيلة ) . وفي الحديث عنه >:(إن من شرار أمتي الذين غذو بالنعيم، الذين يطلبون ألوان الطعام وألوان الثياب ويتشدقون بالكلام ) .......
إبراهيم بن صالح الدحيم
eedd@gawab.com
|