يعتبر الجمال من القيم التي يسعى إليها البشر على اختلاف ألوانهم ومجتمعاتهم وفي مختلف العصور .. وجمال الإنسان في وجهه وجسمه وثيابه ( مظهره العام ) وفي أخلاقه وأفكاره وسلوكه وفي صوته وحديثه وغير ذلك .. والجمال يكون في الطبيعة من حولنا وفي الحيوان والنبات ، وفي الأشياء والمواد والمنازل والأدوات .. وفيما ينتجه الأدب والفن والفكر من كل الأنواع ..
والجمال مرتبة تعلو و فوق مرتبة الوظيفة والحاجة والإشباع .. وهو قيمة عليا سامية .. ويبدو أنه لا يمكن أن تستمر الحياة دون جمال من نوع ما ..
والجمال مفهوم نسبي وغير نهائي ولا يسهل قياسه علمياً .. ويختلف تعريف الجمال ومواصفاته بين الناس ولا يمكن الاتفاق عليه نظراً لاختلاف تكوينهم وتجاربهم وأذواقهم وأفكارهم .. إلا أن المجتمع بظروفه وتكوينه وقيمه الخاصة واتجاهاته يمكن له أن يحدد ملامح معينة عامة للجمال . وبالطبع تختلف المجتمعات بعضها عن بعضها الآخر في تلك المقاييس .
وإذا أخذنا موضوع جمال المرأة الجسدي نجد أن مقوماته ومواصفاته تتغير على مر العصور والظروف .. والجسم المكتنز كان نموذجاً عاماً مطلوباً في القرون الوسطى في الغرب ، وكان مصممو الأزياء والفنانين يبالغون في أحجام بعض أجزاء جسم المرأة على اعتبار أن ذلك جميلاً ( الوجه المستدير - الصدر - الورك ) . كما أن السيدات في ذلك العصر كن يلبسن أجهزة معدنية ثقيلة تحت ثيابهن لتزيد من حجم وسط الجسم .. وكانت هذه الأجهزة جزءاً مكملاً لعملية التزين والاهتمام بالمظهر . وأما اليوم فإن التأكيد يجري في الغرب على " النحافة " ونحول الجسم و " الوزن الخفيف " .. وكثير من الرجال من ثقافات أخرى غير غربية يعتبر ذلك مرضاً وسوءاً في التغذية وقبحاً منفراً ..
وقد ارتبط جمال جسم المرأة ووجهها ب " قيمة المرأة " في مختلف العصور .. حيث تم إغفال قدرات المرأة العقلية والعملية والأخلاقية على حساب بروز صفاتها الجسدية .. وربما أصبح جمال المرأة وإغراؤها من أهم الأسلحة التي تدافع بها عن نفسها وعن وضعية القهر والضغوط التي تتعرض لها والتي تقلل من أهميتها وحريتها وتحد من تحقيقها لذاتها ..
وفي العصر الحديث المفعم بماديته يجري التركيز على الجسد والمظاهر دون الروح والفكر والخلق والمعنى ..وهذا ما يجعل الرجل ( والمرأة أيضاً ) يثمن في المرأة جسدها والاستمتاع بجمالها الجسدي على حساب مكوناتها الأساسية الأخرى .
والحقيقة أن التزين والتجمل والبحث عن الجمال الجسدي أمر فطري لا عيب فيه .. والتأكيد على أهمية المظهر وضرورة الاهتمام به وإخفاء عيوبه وإظهار جماله وحسنه وفتنته موجود عند كل الشعوب .. وهناك أساليب متنوعة تهدف لتأكيد الجمال وأناقة المظهر وصحة الجسم والمحافظة على حسن الشكل الخارجي للإنسان ( المرأة والرجل معاً ) وأيضاً السعي نحو جمال دائم ومتجدد . والمرآة مثلاً اكتشفها الإنسان منذ القدم واستعملها عبر العصور .. وهي تسهل النظر إلى صورة الجسم وشكله ومن ثم يجري التعديل والتهذيب إلى ما هو أفضل .. وهي تنتشر في العصر الحديث بأشكال وأحجام متنوعة وتستخدم في فنون الديكور والتصميم ومختلف مرافق الحياة بشكل مبتكر ومفيد في المباني والأسواق والأبنية الأخرى ، حيث تنعكس مختلف الأشكال الجميلة والطبيعية والضوء والإنسان . ولا يخلو منزل من عدد من المرايا .. كل ذلك للتأكيد على أهمية شكل الإنسان وصورته ومظهره .
وتتنوع مظاهر تجميل الجسم والوجه عند الشعوب .. ومنها استعمال الخلطات والأعشاب والوشم والرسم على اليدين والقدمين والساقين ، وثقب الأذنين لحمل الأقراط ( الحلق ) ، وبض الأساليب عجيب وغريب وفيه قسوة وإيذاء للجسم .. وفي بعض القبائل في شرق آسيا تضع المرأة قطعة صلبة خلف الشفة السفلى مما تجعلها تتدلى وتنتفخ باستمرار ويمكن للآخرين أن يروا باطن الشفة السفلى واحمرار اللثة ، وأيضاً تضع المرأة حلقات معدنية كبيرة وثقيلة الوزن على رقبتها فوق بعضها مما يجعل رقبتها أطول وأجمل ..!!
وبض القبائل الأفريقية تضع على أذنها مفتاح معدني عادي للزينة .. وينتشر في عديد من البلدان ثقب الأنف ووضع حلقة عليه ..وفي بعض القبائل الأفريقية يجري تمديد العضو الذكري بواسطة شده برباط إلى الخصر ويتحرك الرجل لقضاء أعماله المختلفة وهو بتلك الوضعية الخطرة .. كما تنتش عادة حشو نثارة الخشب أو نحوه في جلد القضيب كي يصبح سميكاً و أشد صلابة .. ولا تزال كثير من الممارسات القاسية والمؤذية لجسد المرأة ( والرجل أيضاً ) شائعة ولم تندثر .
وتتطور نظرة الإنسان عن جسده منذ الطفولة .. ومن خلال نظرات حوله وتقييماتهم .. ويتعلم الطفل أن يعتني بجسمه ومظهره تدريجياً .. ويزداد الاهتمام والقلق حول شكل الجسد في مرحلة المراهقة حيث تحدث تغيرات جسمية وفيزيولوجية هامة تساهم في تكوين صورة الجسد ونظرة الإنسان لنفسه وهويته الجنسية المستقبلية . وتتشكل صورة الإنسان عن نفسه وتترسخ فيما بعد في مرحلة الشباب .. ويستمر قلق الشكل كما يغتني تقييم المرء لجسده من خلال تجاربه وعلاقاته مع الآخرين وتستقر صورته عن نفسه نسبياً .. وفي مرحلة اقتراب الكهولة والشيخوخة يزداد القلق ثانية بسبب التغيرات الجسمية الحتمية المرافقة للتقدم بالعمر .
وهناك فرق بين البحث عن الجمال والتزين المقبول وبين الإفراط في المظاهر البراقة على حساب المحتوى .. وبعض الناس انشغل بالمظاهر ونسي المضمون .. وفي ذلك سطحية وابتذال بالنسبة للمرأة والرجل معاً .
وإهمال المظهر يدل على الحزن والاكتئاب والألم النفسي والكبت الجنسي المرضي ، وهو مظهر للتعذيب والعقاب الذاتي وعدم الرضا عن الذات وأيضاً تعبير عن حرمانات طفولية وإحباطات متكررة مزمنة . ويمكن أن يكون إهمال المظهر ترويضاً للنفس وكبحاً لغرائزها ، أو تأكيداً على أهمية العقل والفكر والروح ونسيان الجسد .. أو تمرداً على القيم السائدة . وغرابة المظهر وشذوذه عن المألوف يدل على الفصام واضطراب التفكير المنطقي والواقعي .. والاهتمام الزائد بالمظهر يدل على السطحية والإثارة وشد الانتباه وفراغ الداخل أو ضحالته .. وفيه تعويض عن مشاعر نقص . والامتثال الزائد لمعايير المظهر يدل على الخضوع والامتثال والجمود والعقلية البيروقراطية وشدة التأثر بالآخرين وتقليدهم وضعف تقدير الذات وقلق القبول والرفض من الآخر أو الآخرين . ويمكن أن يصبح الاهتمام بالشكل الخارجي مرضاً بذاته .. ويسمى اضطراب سوء شكل الجسم أو الخوف المرضي من سوء شكل الجسم أو توهمه ، وهو يصيب الذكور والإناث بنسب متقاربة ويظهر مبكراً في سن الشباب ، وهو نوع من الوسواس المرضي المزمن يتمثل بالخوف من تشوه وعدم اعتدال مظهر الجسم .. ويتفحص الإنسان نفسه مرات عديدة يومياً بواسطة المرآة أو بدونها بحثاً عن ذلك التشوه وتأكيداً له .. وبصاب بالقلق الشديد والخوف المضني وهو يعاني مع نفسه وربما ينعزل عن الآخرين ، وربما يلجأ إلى وسائل تجميلية طبية أو غير طبية لتعديل مظهره .. وقد يترافق مع حالات اكتئابية ومع الرهاب الاجتماعي ومع الوسواس المرضي ، وقد يصل إلى حالة ذهانية حيث يعتقد جازماً أن لديه تشوهاً جسمياً معيباً مع أن الحقيقة غير ذلك .
ويتميز العصر الحديث بأنه عصر مادي يرفع من قيم اللذة والاستهلاك والتنافس ، وقد ترافق ذلك مع تطور العلوم الطبية والتقنية ووسائل الاتصال .. وقد أفرزت الحداثة والتقدم المادي مشكلات خاصة اجتماعية وطبية ونفسية .. وزادت معدلات الاكتئاب والقلق والانتحار والمشكلات الزوجية والإدمانات .. ومعدلات الجريمة والبطالة وغير ذلك .. وساهم نمط الحياة المرفه التقني السريع في زيادة معدلات السمنة والبدانة وأمراض القلب والضغط والسكر وغيرها ..
ويتميز العصر الحديث أيضاً بأنه " عصر الصورة " وفيه إعلاء للمظهر والجسد والجمال .. وقد ازداد الاهتمام بالجمال والتجميل مع تقدم العلوم والطب ، وتوسع نطاق جراحة التجميل ليشمل حالات عديدة تبحث عن تعديل في الوجه أو الجسم .. بعد أن كانت جراحة التجميل مقتصرة على علاج التشوهات الناتجة عن الحوادث والحروق والتشوهات الولادية الخلقية . كما تطورت صناعة التجميل ومنتجاتها وأسواقها بدءاً من صالونات الحلاقة ( الكوافير ) إلى مواد التجميل ( الماكياج ) وإلى الأعشاب والخلطات الدوائية والطبية .. وإلى النوادي الرياضية وأجهزة الرشاقة وتخفيف الوزن . وفي المجال الطبي امتد التجميل إلى طب الجلد والعناية بالبشرة واستخدام الليزر وغيره ، إلى الجراحة العينية التجميلية ، وتقويم الأسنان ، والعلاج الفيزيائي ( الطبيعي )، وإلى الجراحة العامة الهضمية ، والجراحة البولية التناسلية ، وغير ذلك .
ومن المفيد أن يحدث اهتمام واضح بمشكلات السمنة الطبية والتجميلية على اعتبار أن السمنة أصبحت مشكلة شائعة وخطيرة .. وهي تحتل المرتبة الأولى في قضية الجمال الجسمي والأساليب التجميلية التي تسعى إلى التخفيف منها .
كما أن تحسين وتعديل الشكل الجمالي للوجه مثلاً له فوائد عديدة على صحة المرء النفسية ، حيث يصبح أنفه أقل ضخامة وأكثر اعتدالاً .. وكذلك تعديل بروز أسنانه وغير ذلك ..
والتجميل في الوقت الحالي له جوانبه الطبية الهامة .. وله جوانب جمالية وشكلية اجتماعية ترتبط بالموضة والسوق والتأثر بالآخرين .. والاعتبارات النفسية تتدخل في الجانبين معاً .. والاهتمام بالتجميل والجمال عند المرأة وعند الرجل فطرة وغريزة ترتبط بحب الذات والتنافس وترتبط بالجاذبية الجنسية .. وتقول الأسطورة اليونانية أن أحد الآلهة واسمه " نرجس " كان معجباً بنفسه وجماله لدرجة العشق الذاتي .. وأنه بينما كان يتمشى في الغابة رأى انعكاس صورة وجهه في بئر ماء فأعجب بجمال الصورة وروعتها وأراد أن يحتضنها فوقع في البئر ومات .. وفي رواية أخرى أنه شعر بالحسد من صاحب هذه الصورة الرائعة التي ظهرت على سطح الماء وغضب غضباً شديداً وأراد أن يحطم منافسه ويصارعه فوثب في البئر ومات .. ومن ثم حولته الآلهة الأخرى إلى زهرة النرجس كشاهد على الجمال وعشق الذات الخطر .. وعبرة لمن يعتبر .
ويرتبط الجمال الجسمي بالإثارة الجنسية الغريزية مثل إظهار بعض أجزاء الجسم ومثل الرائحة واللون وغير ذلك ..وهناك دراسات عديدة لفهم غرائز الجنس عند البشر وتفاصيل الإٌثارة الجنسية الطبيعية .. ويبدو أن النتائج متناقضة في بعض الأحيان حول تحديد المثيرات والأشكال وأهميتها .. ولا يمكن فصل الأمور الغريزية عن الأمور الاجتماعية في فهمنا للجاذبية بين الرجل والمرأة .. والكائن الإنساني يتأثر بمن حوله وبما حوله .. ولابد من التأكيد على أهمية الصحة الجسمية والنفسية والاجتماعية والخلقية قبل التأكيد على القيم الجمالية المجردة .. وقبل الجراحة التجميلية .
ويؤكد البعض على ضرورة العودة إلى الأمور الطبيعية والظهور بالمظهر العادي دون زينة أو تزين ودون تدخل من التقنية ودون تجميل .. وفي ذلك نظرة ضيقة تعيد البشرية إلى زمن البدائية .. وليس كل طبيعي مقبول أو خير كله .. وليست التقنية شراً كلها .. ويمكن تطويع التقنية والتقدم لمصلحة البشر وكذلك العلوم الطبية بفروعه المختلفة .
وبعضهم يطرح نظرات عنصرية غير واقعية ويحاول إنشاء وانتقاء مجموعة من المتفوقين جسدياً وعقلياً كما في تجربة أطفال هتلر الفاشلة .
وبعضهم يحاول التغيير القسري للجسد البشري كأن يسعى لتعديل لون البشرة من الأسمر أو الأسود إلى الأبيض .. وفي ذلك اختلال وتطرف ومبالغة وسوء استعمال للتقنية .. كما شاعت في الفترة الأخيرة عمليات تعديل شكل العيون عند العرق الأصفر لتصبح العين أكبر وأقرب إلى العرق الأبيض .. ويطرح ذلك مشكلات أخلاقية ونفسية وفلسفية عديدة تتعلق بالعولمة وسيطرة القطب الواحد وثقافته المدمرة وتناقضاتها ، وغير ذلك ..
ولابد من التأكيد على أهمية المحافظة على الجمال والمظهر وأن نصونهما .. وأن نهتم بأجسادنا صحة وشكلاً اهتماماً طبيعياً وضرورياً .. وأن نسعد بما لدينا من صحة وجمال وأن ننظر إلى من هو أقل منا حظاً .. كل ذلك دون إلغاء للعقل .. ودون إفراط أو تفريط .. ويبقى الجمال نسبياً وهو يتوزع في المجموعات البشرية ضمن المنحني الطبيعي أي أن هناك قلة ممن لديهم جمال مفرط وقلة لديهم قليل من الجمال ، بينما الغالبية تتجه نحو المتوسط .. ولا يمكن أن يصبح الجميع فائقي الجمال ..
ولابد من الاهتمام بالأولويات .. والأهم يأتي أولاً ثم المهم ثم الأقل أهمية ..ويتوفر في العالم المعاصر إمكانيات تجميلية مفيدة يمكن الاستفادة منها .. وقد أصبحت تكاليفها المادية ضمن إمكانيات الكثيرين ولم تبق حكراً على القلة الثرية .
ولابد من الاهتمام بقبول الجسد وتنميته من خلال الرياضة والطعام الصحي بدءاً من الطفولة واستمراراً في مختلف مراحل الحياة ..ولابد من تنمية قبول الجسد والاعتزاز به عند الطفل من قبل المربين .. وتنمية التعويض الايجابي في حالات الجسد المعاق مثلاً .. وأيضاً الاهتمام بجوانب الإنسان وحياته جميعها وعدم الاكتفاء بالجسد .. كما أن تعديل وإصلاح ما يمكن إصلاحه قاعدة إيجابية ومفيدة دائماً .. ويرافقها الرضا عن الذات والقبول والتوازن ، بعيداً عن الجري وراء سراب خيالات المرأة الفائقة أو الرجل الفائق .. التي لا يمكن الوصول إليها ..
ولابد من التعاون بين فروع الطب المختلفة ولاسيما الجراحة التجميلية والطب النفسي ، وتحويل الحالات المشتبه باضطرابها النفسي قبل إجراء أية عملية جراحية تجميلية لها .. لأن علاجها النفسي هو الصحيح في حالات اضطراب سوء شكل الجسم أو توهم التشوه الجسمي . ويمكن للاستشارة النفسية أن تفيد كثيراً من المرضى الذين يرغبون بإجراء جراحة تجميلية معينة حيث يساعد ذلك على تخفيف القلق الداخلي وتقبل الذات وتعديل النظرة إليها قبل وبعد إجراء الجراحة .. وبعض المرضى لا يكتفي بعملية واحدة بل يعرض نفسه لعمليات عديدة دون داع مقبول .. ولابد من تخفيف معاناة هؤلاء بالعلاج النفسي المناسب .. ولابد للمرأة من تنمية قدراتها ومهاراتها في مختلف المجالات ( غير التجميلية ) ولابد لها من العمل على تصحيح مشكلاتها الزوجية والسعي نحو حلولها بدلاً من قلقها على زواجها ومحاولتها للاحتفاظ بزوجها عن طريق عمليات التجميل ..
وأخيراً .. لابد من مراجعة القيم الزائفة التي تحط من قدر الإنسان ( المرأة والرجل ) وتعاديه ، ولابد من الواقعية في التعامل مع العصر بأفراحه ومشكلاته ، ولابد من تقبل الذات وتقديرها دون غرور أو يأس .