بتـــــاريخ : 12/11/2010 5:21:43 PM
الفــــــــئة
  • الآداب والثقافة
  • التعليقات المشاهدات التقييمات
    0 1308 0


    سلفادور دالي ..حياته وفنه واضطراباته النفسية

    الناقل : elmasry | العمر :42 | الكاتب الأصلى : الدكتور حسان المالح | المصدر : hayatnafs.com

    كلمات مفتاحية  :

     
    يعتبر الفنان الإسباني سلفادور دالي 1904- 1989 من أهم فناني القرن العشرين . وهو أحد أعلام المدرسة السريالية ، وهو يتميز بأعماله الفنية التي تصدم المشاهد بموضوعها وتشكيلاتها وغرابتها ، وكذلك بشخصيته وتعليقاته وكتاباته غير المألوفة والتي تصل حد اللامعقول والاضطراب النفسي..وفي حياة دالي وفنه يختلط الجنون بالعبقرية ، لكن دالي يبقى مختلفاً واستثنائياً.. في فوضاه ، في إبداعه ، في جنون عظمته ، وفي نرجسيته الشديدة..
     
                                                               
    ولد في " فيغويراس ـ كاتالونيا "
    Figueras -Catalonia في إسبانيا قرب الحدود الفرنسية . ومثل ماحدث للرسام الهولندي الشهير "فان كوخ" فقد أطلق على سلفادور دالي اسم شقيق له كان قد توفي قبل ولادته بثلاث سنوات ، ويقول سلفادرو دالي عن ذلك : " لقد كنت بنظر والدي نصف شخص ، أو بديل ، وكانت روحي تعتصر ألماً وغضباً من جراء النظرات الحادة التي كانت تثقبني دون توقف بحثاً عن الآخر الذي كان قد غاب عن الوجود‍‍".
     
    عاش الصغير دالي مرفهّاً بين أسرة ثرية ، وكان والداه يوفران له كل مطالبه . ونتيجة لدلاله المبالغ فيه فقد عُرف عنه سلوك الطائش ، كدفعه صديقه عن حافة عالية كادت تقتله ، أو رفسه رأس شقيقته " آنا ماريا " التي تصغره بثلاث سنوات ، أو تعذيب هرّة حتى الموت ، واجداً في أعماله تلك متعة كبيرة ، كالتي كان يشعر بها حين يعذب نفسه أيضاً حيث كان يرتمي على السلالم ويتدحرج أمام نظر الآخرين .. ولعل هذه التصرفات التي أوردها الفنان في مذكراته شكلت الشرارة النفسية الأولى للمذهب الفني الذي اختاره للوحاته .
     
    وقد ساهم أحد جيرانه وهو "رامون بيشوت" في دخوله إلى عالم الرسم ، ففي السابعة من عمره رسم أولى لوحاته ، واستطاع في مدرسته أن يلفت النظر إلى رسومه التي تنبأت له بمستقبل فنان بارع ، مما دفع بعائلته وأساتذته إلى حثه على دخول كلية الفنون الجميلة في "سان فيرناندو" في مدريد .
     
    تصرف سلفادور خلال الأشهر الأولى من التحاقه بأكاديمية الفنون الجميلة كتلميذ نموذجي مبتعداً عن المجتمع المحيط به يأنف الاختلاط بأقرانه من التلاميذ .
     
    وفي كل يوم أحد كان يذهب إلى متحف "برادو" حيث كان يمضي ساعات طويلة متسمراً أمام لوحات المشاهير وعندما يعود إلى الأكاديمية يرسم رسوماً تكعيبية للمواضيع التي شاهدها في هذه اللوحات. وفي ذلك الوقت تعرف على الفن التكعيبي ولكنه ثار على المفاهيم التي يدعو إليها هذ الفن ويدافع عنها ، واستبدل ألوان قوس قزح في لوحاته بالألوان الأبيض والأسود والأخضر الزيتوني والبني الداكن فكانت ألوانه حزينة .
     
    وفي أحد الأيام دخل إلى قاعة النحت في الأكاديمية وبدأ يفرغ محتويات أكياس عديدة من الجص في وعاء كبير ويصب فوق الجص ماء غزيراً . ما لبثت أرضية القاعدة أن غمرت بطبقة من سائل أبيض بدأ ينساب إلى خارج القاعة حتى وصل السيل إلى قاعة الدخول وبدل من أن يهتم دالي بالأمر شق طريقه نحو المخرج يلتفت إلى الوراء لمشاهده جمال الطبقة الجصية وهي تجف بسرعة.
    لم يغب عن اهتمام طلاب أكاديمية الفنون الجميلة التطور الفني والأدبي الذي كانت تشهدها أوروبا وبالأخص المذهب الراديكالي في الفنون والآداب الذي سخر من كل القيم المعترف بها . كان الفنانون والأدباء مثل "لوبيل بونويل" و "غارسيا لوركا" و" بدرو غارفياس" و "يوجينو مونتير" المحركات المحفزة لمجموعة صغيرة من الفنانين الأصوليين يضاف إليهم سلفادور دالي الذي ما لبث أن احتل مركزًا مرموقاً ضمن هذه المجموعة .
    وكان أعضاء المجموعة يمدحون بحماس لوحات سلفادور التكعيبية التي حوت أفكاره الغريبة ، بعد ذلك بقليل أصبح طريق سلفادور مفروشاً بالورود .
     
    بدأ سلفادور يرتاد المقاهي الفنية ويشترك في النقاشات الفكرية الحامية حول الفن والأدب والنساء والجنس. ثم طرد دالي من الأكاديمية ومنع من متابعة الدروس فيها لمدة سنة لأنه دافع بحرارة عن أحد أساتذته اليساريين مما أثار غضب إدارة الأكاديمية فعاد إلى "فيجويراس" وهناك أُلقي القبض عليه بسبب أفكاره الثورية وظل في السجن لمدة شهر ثم أطلق سراحه بعد عدم عثور المحققين على أدله تثبت اشتراكه في إثارة الرأي العام ضد الحاكم الملكي المستبد في إسبانيا. وبعد انقضاء مدة إبعاده عن الدراسة في الأكاديمية في مدريد عاد إليها ليستعيد فوراً شهرته .
     
    درس دالي المستقبلية الإيطالية و في عام 1924 بدأ يهتم بالمدرسة الميتافيزيقية وبمبادئها التي وضعها كل من "جيورجيو شبيريكو" و "كارلوكارا". وتلك الفترة كان لها أثر كبير في حياته ، إذ تعرف على المذاهب الفنية كافة والتقى فنانين عالميين مختلفين منهم الشاعر "فيديريكو غارسيا لوركا" الذي أنجز معه عملاً مسرحياً كان الأول له ، و"لويس بونييل" الذي اختلف معه بسبب آرائه السياسية التي شهدت انقلاباً غريباً من الفكر الثوري إلى البورجوازية الخاضعة لملذات الحياة .
     
    وخلال فترة دراسته اهتم بمطالعة مؤلفات فلسفية مثل كتابات "نيتشه" و"فولتير" و"كانت" و"سبينوزا" وصمم على توجيه اهتمامه الكامل إلى أعمال الفيلسوف "ديكارت" الذي استند على أفكاره في رسم عده لوحات رائعة.
     
    وبعد أن تعرف على كتابات "نيتشه" وانتهائه من قراءة كتاب"هكذا تحدث زرادشت" عمد إلى إطالة شاربه ليكون مثل شارب "نيتشه" وظل محتفظاً بهذا الشارب إلى نهاية حياته .
     
    وفي العام 1926 بدأ سلفادور بصقل موهبته واختيار أسلوبه الخاص لا سيما بعدما تعرف على أب المدرسة التكعيبية "بابلو بيكاسو" ، ومن ثم بدأ ينظم لقاءات دورية مع رسامين سرياليين آخرين أمثال " لويس أراغون" و" أندريه بريتون" مما ساهم في بلورة أسلوبه وتفوقه عليهم جميعاً .
     
    احتفظ دالي بعصا للاستناد عليها وهو يسير متشبهاً بالنبلاء الذين كانوا يسيرون في الحقول وبأيديهم عكازات مزخرفة بالأحجار الكريمة للمباهاة. وقد رافقته هذه العصا خلال حياته واستخدمها كموضوع مسيطر في لوحاته في وقت لاحق .
     
    زوجته :
     
    "جالا" فتاة روسية تدعى "إيلينا ديماكونوفا" ، جاءت إلى فرنسا بمفردها عام 1913 وهي لم تتجاوز التاسعة عشرة من عمرها . أقامت في مصح للمعالجة من مرض السل ، وبعد أربعة أعوام التقت الشاعر"بول إيلوار" وتزوجت منه ونذرت نفسها له حتى وقعت في غرام الفنان "ماكس أرنست" . ثم ارتبطت حياة دالي بحياة جالا في عام 1929 وكانت تكبره بأكثر من عشر سنوات ، وظهر تأثيرها الواضح عليه وعلى أعماله الفنية ، لأنها كانت حريصة على منع تخيلاته المتطرفة في الحياة والفن من أن تصبح حالة مرضية . وهذا الحرص الدائم كان سبباً في الجاذبية المتصاعدة والمستمرة بينهما إلى درجة أن دالي كان يوقع على بعض لوحاته باسمه واسم جالا معاً .
     
    وكان يكرر فكرته عن ارتباط اسم جالا بالعبقرية ، حين يقول : " إن كل رسام جيد يريد أن يكون مبدعاً وينجز لوحات رائعة ، عليه أولاً أن يتزوج زوجتي ".  
     
    وقد توفيت أم دالي عام 1921 وكان عمره 16 سنة وقد علق على موتها فيما بعد " بأنها الصدمة الأعظم التي تعرض لها في حياته وأنه كان يعبدها ". وقد وجد المحللون أن ارتباطه بجالا وحبه لها يمكن أن يكون تعويضاً عن فقدانه لأمه .. وأنها تمثل له الزوجة الأم بشكل واضح .
     
    وتحولت "جالا" مع الوقت إلى مديرة علاقاته العامة والمسؤولة عن تسويق "منتجات دالي". وبدوره فقد كان دالي يتعلّم كيفية استغلال فضائحه واستفزازاته في مشاريع تجارية مربحة .
     
    من أفلامه :
     
    في باريس كتب دالي إلى جانب "بونيويل" سيناريو فيلم " كلب أندلسي" ويبلغ طوله 17 دقيقة وهو مزيج حلمي غريب ،والمشاهد والأفكار لا يمكنها أن تثير تفسيراً عقلانياً من أي نوع : شفرة موسى تفقأ عين فتاة والمعنى ربما "فقؤ" كل ما هو تقليدي وسائد ، رجل ينزع فمه من وجهه ، بيانو تزينه جثث حمير ، نمل يزحف على يد رجل ، واحد في الشارع يحمل مكنسة تنتهي إلى يد آدمية يدفع بها الفضلات.. ومن الطريف أنه لايوجد في الفيلم أي كلب أو أندلس ..
     
    سرياليته :
     
    وفي باريس أيضاً تعرّف على الشاعر والطبيب النفسي "أندريه بريتون"(1896 ـ 1966) الذي كان قد نظم في عام 1924 "البيان الأول" الذي يعتبر بمثابة الرسالة التأسيسية للسريالية .
     
    وكان دالي يتحول تدريجياً إلى راية ودليل للسريالية ..ومصطلح السريالية surrealism وضعه عام 1917  الشاعر "غويوم أبولينير" وهو مؤلف من كلمتين : sur وتعني ما فوق، و realism وتعني الواقعية . أي ما فوق الواقعية وهو مذهب أدبي فني فكري أراد أن يتحلل من واقع الحياة الواعية ، وزعم أن فوق هذا الواقع واقع آخر أقوى فاعلية وأعظم اتساعاً، وهو واقع اللاوعي أو اللاشعور ، وهو واقع مكبوت في داخل النفس البشرية ، ويجب تحريره وإطلاق مكبوته وتسجيله في الأدب والفن. وتسعى السيريالية إلى إدخال مضامين غير مستقاة من الواقع التقليدي في الأعمال الأدبية. وهذه المضامين تستمد من الأحلام سواء في اليقظة أو المنام ، ومن تداعي الخواطر الذي لا يخضع لمنطق السبب والنتيجة ، وهكذا تعتبر السريالية اتجاهاً يهدف إلى إبراز التناقض في حياتنا أكثر من اهتمامه بالتأليف.
     
    وقد اعتمد فنانو السيريالية على نظريات فرويد رائد التحليل النفسي خاصة فيما يتعلق بتفسير الأحلام. كما وصف النقاد اللوحات السيريالية بأنها تلقائية فنية ونفسية تعتمد على التعبير بالألوان عن الأفكار اللاشعورية والإيمان بالقدرة الهائلة للأحلام .
     
    وقد تخلصت السيريالية من مبادئ الرسم التقليدية وذلك بواسطة التركيبات الغربية لأجسام غير مترابطة ببعضها البعض ، كما إن الانفعالات تظهر ما خلف الحقيقة البصرية الظاهرة . واعتمد السيرياليون في تصويرهم على طريقتين ،الأولى : هي الأسلوب الذي ابتكره "سلفادور دالي" ويعتمد على التجسيم الواقعي أو "الهذيان الناقد" والذي يستخدم فيه رموز الأحلام ليرتفع بالأشكال الطبيعية إلى ما فوق الواقع المرئي ، لكن مع التجسيم الطبيعي لها . والثانية : تشبه الأسلوب التكعيبي المسطح ذا البعدين ، وهي أقرب إلى الأشكال التجريدية ، وإن كانت تختلف عنها في أن السيريالية لاتهتم بالشكل ولا بالصور ولا بالهندسة ، الأمر الذي يهتم به التجريديون .
     
    وبعد حقبة الثلاثينات توجه دالي إلى نيويورك حيث كانت شهرته قد ذاعت وكثر المعجبون بفنه. ولم يتأخر في اكتشاف عالم الأغنياء والأرستقراطيين في المدينة ، ويقول في ذلك:"لقد كانت الشيكات تنهمر كالإسهال ".
     
    وقد لجأ دالي إلى أساليب ملتوية لتحقيق الشهرة العالمية كتأييده لحكم "فرانكو" في إسبانيا ، وخلال فترة صعود الحزب النازي إلى الحكم في ألمانيا رسم دالي العديد من اللوحات التي تظهر "هتلر" في أوضاع عجيبة- بعضها أنثوي- ويقال أن "هتلر" أعجب ببعض هذه اللوحات ، مما دفع "بريتون" والفنانين السرياليين إلى إتخاذ قرار جماعي بفصله من الحركة السيريالية بسبب ذلك إضافة لاتهامه بالولع الشديد بالمال ، وما لبث أن ألف "بريتون" من حروف اسم دالي كلمة " avida Dollars " أي جشع الدولارات. غير أن دالي لم يتأخر في الرد حيث قال له : ليس بإمكانك طردي ، فالسريالية هي أنا!!
     
    تحولاته الأخيرة :
     
    عاش سلفادور دالي في الولايات المتحدة الأمريكية منذ عام 1940 إلى 1948، وهناك قام بتصميم العديد من الواجهات الشهيرة ، ومجموعات الحلي ، والملابس ، وخشبات المسارح ، بل واتفق مع المخرج والت ديزني على مشروع فيلم "ديستينو " ولم يتم إنجاز ذلك إلا مؤخراً عام 2003.
     
    وفي عام 1948 عاد الفنان دالي إلى "فيغويراس" وبيته ، وكانت عودته هذه المرة عودة الابن البار حيث تصالح مع والده بعد فترة قطيعة طويلة.
     
    وانطلاقاً من إعجابه المعلن بالرسامين الكلاسيكيين أمثال "فيلاسكيس" و"رافائيل" و"فيرمير" انطلق نحو ما سماه " الفن الكلاسيكي الديني" ورسم بعدها " مادونا بورت ليجات" وهي عبارة عن عذراء بوجه جالا ، ثم مسيح "سان خوان دي لاكروس".
     
    بين عام 1937 و 1939 قام دالي بثلاث رحلات إلى إيطاليا وقد وجد روما الكاثوليكية وقد دمرتها التجديدات الحديثة التي أمر "موسوليني " بها .وتطلب ميله الجديد للكلاسيكية موضوعية أكثر ودراسة لفنون الرسم في عصر النهضة ، فاهتم بقوة بالهندسة والرياضيات وعلم التشريح والمنظور قدر اهتمامه القديم بالإيحاء من اللاوعي . في نفس الوقت طور دالي إيماناً متزايداً بالمراتب الكهنوتية الكاثوليكية وبالنظم الملكية ، وقد طلب في أحد الأيام الحصول على موافقة البابا لرسم إحدى لوحاته كما أعلن بوضوح أن آماله في المستقبل هي الدعوة إلى نهضة دينية جديدة على أساس مبادي كاثوليكية متطورة.
     
    قبالة شواطئ البحر الأبيض المتوسط قضى دالي بقية أيام حياته ، وظل هناك لما بعد وفاة زوجته عام 1982.وفي عام 1984 احترق دالي في غرفته ضمن ظروف مريبة ربما كانت محاولة انتحار ، لكنه لم يمت وعاش خمس سنوات تالية ، ثم صدرت عنه لفتة كريمة جداً قبل أن يموت ، فقد أهدى كل ثروته ولوحاته للدولة الإسبانية .
     
    بعد ذلك أخذ دالي يذوي رويداً رويداً ، وأخذ ذلك الاستفزازي الذي كان يواجه الموت يحتضر تدريجياً حيث كانت أنابيب الأوكسجين ترافقه ليل نهار إلى أن توفي عام 1989 .
     
    لقد ودعنا دالي تاركاً إشارة استفهام ضخمة حول حجم الإرث الذي خلّفه على هامش القائمة الكبيرة من الفضائح التي أصبحت حسب قوله تشكل جزء من التراث الشعبي. ويقول النقاد بأنه ليس بإمكان أحد أن ينكر ملكة الرسم الخارقة التي كان يتمتع بها دالي ، أو أن يتجاهل قيمة لوحاته العظيمة وخصوصاً في مرحلة السريالية الأولية ، أما المرحلة التي تحول فيها إلى "رجل أعمال" فيرى الكثيرون بأنها أثرت على طبيعة فنه وعلى نزاهة وعفة أعماله.
     
    وعلى هامش ما قيل وما سيقال فإن ذلك الفنان العظيم ذو النظرة الجنونية العميقة ، والشاربين الصلبين المعقوفين ، والذي تمكن من إلغاء الحدود بين الروح المشاكسة الهائجة والاستعراضية الفاضحة ، قد تحوّل دون شك إلى "أسطورة " . ومع كل نظرة إلى لوحاته العظيمة تشعر الروح بأنها اكتسبت جناحين ، وتحتفل المخيلة بولادة وانطلاقة جديدة ..
     
    في متحفه :
    في مسقط رأسه وبعد أن أصبح شهيراً وثرياً قرر دالي أن ينشئ متحفاً خاصاً به وبأعماله ..المكان المُختار عبارة عن قصر قديم يقع في القسم القديم من المدينة ويتألف من عدة طوابق تطل شرفاتها على حديقة داخلية.
     
    وفي الحديقة ووسط الأشجار هناك نافورات ماء غريبة الأشكال. واحدة من النافورات عبارة عن سيارة قديمة في وسط الحديقة مكتوب عليها عبارة: "اضغط هنا" فإذا وقع المرء في الفخ الذي نصبه له دالي وضغط على الزر الصغير فسوف يندفع الماء ليغسل وجهه . وهذه واحدة من مداعبات دالي لزوار متحفه.
     
    بعد ذلك تصعد إلى الطابق الأول حيث جمع دالي بعض لوحاته الكبيرة. تدخل هناك في عالم حافل بالجمال والغرابة وبكل ما هو غير متوقع . إنه عالم دالي : لوحات تمثل جالا المرأة التي شاركت دالي حياته ،لوحات طبيعة صامتة ، ورسوم أخرى.
     
    الإيحاءات الغريبة التي تخلفها رسوم دالي في النفس تجعلك خارج الزمان والمكان . تتابع الزيارة في الأرجاء وترى المنحوتات والأشياء والتكوينات السريالية التي صنعها دالي وهي لا تقل غرابة وجمالاً عن لوحاته ، ويكاد يخيل إليك أنها كائنات حية تنظر إليك وتخاطبك..ويذكر " فرويد" أنه لم يأخذ على محمل الجد اعتباره من قبل السرياليين كأب لحركتهم حتى التقى بذلك الشاب الإسباني دالي 1938 والذي جعله بتقنياته الفنية العالية يعيد النظر في أحكامه السلبية على الحركة السوريالية .  
     
    في الطابق الثاني من المتحف رتّب دالي أشياءه الخاصة . صندوق نحاسي على الأرض لمسح الأحذية ذهبي اللون يعود إلى العهد العثماني ، أضاف إليه دالي بعض اللمسات الفنية فحوله إلى قطعة فنية مسكونة بالغرابة.
     
    في الواجهات الزجاجية تستطيع أن ترى الطبعات الأصلية والأولى من كتب دالي "حياتي السرية" والكتب الأخرى. ثم الكتب الشعرية التي صمم دالي أغلفتها بنفسه وزينها برسوماته ، بالإضافة إلى ذلك تجد رسائله إلى أصدقائه ورسائل أصدقائه إليه ثم عشرات الصور الشخصية التي تعود لسنوات قديمة وفيها يبدو دالي مع أصدقائه من شعراء وكتّاب ورسامين صنعوا أدب وفن القرن العشرين ، أسماء هي اليوم شهيرة وطوى الموت أصحابها.
     
    عند نهاية الزيارة وفي القاعة الأرضية وقبل أن تغادر المكان ثمة مفاجأة سريالية أخرى بانتظارك هناك ، قبر دالي نفسه كما قام بتصميمه هو قبل موته ، قبر رخامي ضخم يرقد فيه اليوم بجانب زوجته.
     
    حيثما يوجد دالي فلا مكان للضجر . إن الداخل الى متحف سلفادور دالي في حي مونمارتر في باريس، مفقود وهارب إلى دفء الفن والذوق المختلف ، والخارج منه مولود ولادة مغايرة كالعائد من رحلة جمالية ضرورية للروح ومنشطة للحواس.
     
    من كتبه :
     
    في عام 1964، أصدر سلفادور دالي كتاباً بعنوان "يوميات عبقري" في باريس، وهو مأخوذ من دفتر يوميات يغطّي المرحلة الممتدة من عام 1953 إلى عام 1963 من حياته. ويُشكّل الكتاب تكملة لسيرته الذاتية التي صدرت بعنوان "حياة سلفادور دالي السرّية".
     
    نتعرف في هذا الكتاب الذي يحتوي على 300 صفحة،على أفكار دالي وشواغله كفنانٍ وظروف لقاءاته مع أبرز شخصيات عصره ومواقفه الجمالية والأخلاقية والفلسفية والبيولوجية ، الأمر الذي يمكّننا من فهم شخصيته المثيرة والمعقّدة ومن التعمّق في منهج عمله الفني الذي أطلق عليه اسم "الذهان التأويلي النقدي" ، وبالتالي يمكننا من تحديد طبيعة عبقريته التي سعى طوال حياته إلى إبرازها وإلى الترويج لها.
     
    من أبرز الموضوعات التي يتناولها في هذا الكتاب: إلحاده في بداية مساره النابع من قراءته للكتب التي كانت موجودة في مكتبة أبيه، سرّياليته التي لم تكن تعرف أي إكراهٍ جمالي أو أخلاقي، نزعة التفوّق لديه التي استمدّها من كتب نيتشه ، حبّه المفرط لزوجته جالا، تفضيله التقليد على الحداثة والنظام الملكي على الديموقراطية ، والصوفية على المادية الجدلية، احترامه الكبير لأندريه بروتون ونشاطه الفكري وقيمه بالرغم من موقف هذا الأخير السلبي منه بعد عام 1934، كذلك نتعرف على احتقاره أرباب الوجودية ونجاحاتهم المسرحية والمرحلية، ولعه بالرسام رافاييل، "الجانب الفينيقي" من دمه على حد قوله و الذي جعله يحب الفيلسوف" أوغست كونت" الذي وضع المصرفيين في المرتبة الأولى من المجتمع .
     
    وسنتعرف في يوميات "دالي" على حبه اللامحدود لزوجته جالا التي يعتبرها المحرك الأساسي له، والتي لولاها لما ظهرت عبقريته ولما استمرت. عنها يقول في المقدمة: "هذا كتاب فريد، هو أول كتاب يكتبه عبقري، كان حظه الفريد أن يتزوج من "جالا" المرأة الأسطورية الفريدة في عصرنا". وحينما بدأ يرسم لوحته الشهيرة "صعود العذراء" التي يمثل فيها السيدة العذراء وهي ترتفع إلى السماء، اختار وجه "جالا" ليكون وجه العذراء.
     
    وعادات "دالي" شديدة الغرابة ، فبالنسبة للنوم يقول: "الناس عادة تتناول الحبوب المنومة حين يستعصي عليها النوم، لكني أفعل العكس تمامًا، ففي الفترات التي يكون فيها نومي في أقصى درجات انتظامه وروعته، فإني بتصميم أقرر أن أتناول حبة منوم، وبصدق وبدون ذرة استعارة، فإني أنام كلوح الخشب، وأستيقظ مستعيدًا شبابي ثانية". ومن مكان لآخر يعطينا "دالي" تقريرًا شبه يومي عن عمليته الإخراجية وكيف أنها تتم بسلاسة ونظافة، ويتكلم بحيرة عن عدم فهمه لإهمال المفكرين والفلاسفة لهذه العملية رغم أهميتها للإنسان..
     
    وعشق "دالي" للذباب لا يوجد ما يبرره، فقد قال ذات مرة : يعجبني الذباب ولا أكون سعيدًا إلا حين أكون عاريًا في الشمس والذباب يغطيني.وفي موقف آخر يفاجأ بالصحفيين يحيطون به ويتذكر أنه كان قد وعد بتقديم تصميم جديد لزجاجة عطر، وأعد مؤتمرًا صحفياً لذلك ، وبعد أن تسلم الشيك من صانع العطور، وسأله الصحفيون عن التصميم الجديد، فوجئ بأنه نسي كل شيء عنه ، فاتّبع أول ما ورد على ذهنه لينجو من هذا الموقف ، تناول لمبة فلاش محترقة من أحد الصحفيين ورفعها قائلاً : إن هذا هو تصميمه الجديد، وأطلق عليه اسم "فلاش"، وهتف الصحفيون وهللوا ومعهم صانع العطور!!
     
    من لوحاته :
     
    - رسم دالي لوحة شهيرة بعنوان "ثبات الذاكرة" Persistence of Memory  "1931"، يظهر فيها عدد من الساعات التي تشير إلى الوقت، وهي تبدو مرتخية وفي حالة مائعة ، وتعرف اللوحة أيضاً باسم الساعات اللينة ، الساعات المتساقطة ، والساعات الذائبة. وفيها موقف نسبي من الوقت والزمن فيما يشبه نظرية "إينشتاين" .
     
    ويقول بعض الباحثين بأن الفكرة الأصلية لهذه اللوحة قد أتت لدالي في يوم صيفي حار. كان في منزله يعاني من الصداع بينما جالا  زوجته تتسوق ، بعد وجبته لاحظ نصف قطعة من الجبن تذوب بسبب حرارة الشمس ، وفي تلك الليلة وبينما كان يبحث في روحه عن شيء ليرسمه ، شاهد حلماً لساعات تذوب في الفراغ ، عاد بعد ذلك إلى عمله الذي لم ينته بعد حيث كان رسم المرتفعات والشجرة ، وخلال ساعتين أو ثلاثة كان قد أضاف الساعات الذائبة وأصبحت اللوحة كما نعرفها الآن.
     
    - "تحولات نرجس المسخية "أو "انمساخ نرجس" "1937"  The Metamorphosis of Narcissus: وفقاً للأسطورة الإغريقية وقع نرجس في غرامِ انعكاس صورته على سطح بركة صافية وأخذ يحدق طويلاً بصورته وعندما أدرك عدم قدرته على معانقة الصورة المائية ، وهنت قوته فقامت الآلهة بتحويله إلى وردة .
     
     
                             
    يظهر في اللوحة نرجس جالساً على حافة بركة من الماء يحدق إلى الأسفل. وهناك شكلٌ صخريٌ متحلل قريب منه ، يتجاوب معه عن كثب. لكن الاختلاف كبيرٌ جداً ، صورةٌ ليدٍ تحمل بيضةً تنمو منها زهرةُ نرجس. وفي الخلف مجموعة من
    الرجال والنساء العارية من مختلف الأجناس، بينما يلوح شكل شبيه بنرجس في الأفق. وقد كتب دالي قصيدة طويلة مرفقة مع اللوحة ، وبين فيها " أنه تخرج من رأس نرجس زهرة هي نرجس جديد .. جالا نرجستي "..
     
    وتبدو اللوحة مثيرة وصادمة بتشكيلاتها وألوانها ..ودلالاتها متنوعة في عمقها ورمزيتها .. وتجاور الرموز يثير ارتباطات هادفة ومعان هامة .. وهي لوحة سوريالية بامتياز قابلة لعدة تأويلات .
     
    - لوحة "ذيل السنونوThe Swallows Tail s آخر لوحة رسمها سلفادور دالي،انتهت في أيار 1983، وقد استندت على نظرية "رينيه توم" الكوارثية.. وفيها غرابة ورمزية معقدة جداً .
                                                      
     
    - لوحات أخرى ..
     
                                                  
     
                                      الصلب 1954                                       العشاء الأخير 1955                                          
     
    اضطراباته النفسية :
    في مقالة حديثة قدمتها الباحثة "كارولين مورفي" Caroline Murphy من جامعة أوكسفورد والمنشورة في مجلة الشخصية والاختلافات الفردية 2009 ، تميل إلى اعتبار دالي مصاباً باضطراب ذهاني واضطراب في الشخصية على الرغم من محاولات دالي إخفاء معلومات هامة عن نفسه في كتبه وتصريحاته الصحفية .
    وتشمل أعراضه الموصوفة هلاوس سمعية وحالات من الشك المرضي ونوبات من الغضب والعنف إضافة لهذيانات العظمة وسلوك جنسي استعراضي وإثارة جنسية ذاتية غريبة ، وضحكات غير مناسبة مع تعليقات جارحة غير مناسبة ، وصعوبات في التعاطف مع الآخر مع سلوك احتيالي وسادية .
    وإذا وضعنا ماسبق ضمن الإطار التشخيصي للدليل التشخيصي الأمريكي الثالث يمكن إعطاء تشخيص ذهان غير نموذجي وفيه مزيج من أعراض الفصام والاكتئاب ، مع عدة أنواع من اضطرابات الشخصية وهي الشخصية الزورية والفصامية والمضادة للمجتمع والهيستيريائية والنرجسية .
    ويشكك باحث آخر في هذه النتائج على اعتبار أن دالي لم يتلق أي علاج نفسي ؟؟ وأنه كان فنانً ناجحاً ومبدعاً ولم يسبب له المرض النفسي تعطيلاً عملياً . ويقترح "نظرية الغرابة المسيطر عليها " والتي تعني أن مزيجاً من الأعراض المرضية النفسية مع صفات نفسية صحية يمكن أن تسهل العمل الفني الإبداعي وأن الغرابة نفسها هي التي تسهل النجاح .
    وتتضارب المعلومات حول تلقي دالي للعلاج النفسي .. وقد وردت معلومات بأن زوجته كانت تعطيه أدوية سببت له أعراض شبيهة بداء باركنسون وعادة مايكون ذلك بسبب مضادات الذهان التقليدية .
    وتبين الدراسات النفسية الحديثة التي تحاول فهم العلاقة بين العمليات الإبداعية بمختلف أشكالها والاضطرابات النفسية ، أن درجة خفيفة من الصفات الذهانية الفصامية أو اضطراب المزاج الدوري"هوس اكتئابي خفيف" أو اضطراب التوحد وأسبيرجر، يمكن لها أن تدعم وتفسر العمليات الإبداعية الناجحة .. وأن هذه الصفات مفيدة وإيجابية لأنها تؤدي إلى مرونة في التفكير وانفتاح في الذهن وتحمل للمخاطر ، وأنها رافقت الإنسان في سيرته التطورية ، وأن الفارق بين الطبيعي والمرضي هو فارق كمي وليس نوعي .. ولكن هناك ثمن لابد منه وهو أن البعض سيصاب باضطراب نفسي شديد ومعطل .
     
    وأخيراً .. سلفادور دالي فنان ثوري مبدع وأصيل له ذهن خصب يعجّ بالإشراقات والابتكارات . ومن المؤكّد أن هواة الأدب والفن والمثقفين على اختلاف أنواعهم والعلماء النفسيين الذين لايعرفونه جيداً ، سيعجبون بفنه وإبداعاته المتنوعة ، والتي تعكس نبوغ ذلك العملاق وعبقريته الذي قال يوماً :"الفرق الوحيد بيني وبين المجنون هو أني لستُ مجنوناً " .
    Reference:
    1- http://ar-hp.com/vb/archive/index.php/t-81387.html
     
    4- James CHarris,The metamorphosis of narcissus.Arch Gen Psychiatry 2005,62:124-125.
     
     
    5- Murphy, C. (2009). The link between artistic creativity and psychopathology: Salvador Dali. Personality and Individual Differences, 46, 765-774.

    كلمات مفتاحية  :

    تعليقات الزوار ()