تعتبر الكتابة بأشكالها المختلفة وسيلة تعبيرية ذات وظائف نفسية مفيدة . والكاتب شاعراً كان أم قاصاً أم روائياً لديه قدرات متميزة ومتفوقة في المجال اللغوي ... وله قدرة على تشكيل الكلمات وتطويعها بشكل يفوق الإنسان العادي
" الشعراء أمراء الكلام يتصرفون به كيف شاؤوا " .
وهنا جانب الموهبة الفطرية والتي تتلخص بوجود حساسية خاصة في الجهاز العصبي ، ولاسيما في منطقة اللغة والكلام والتي تتمركز بشكل أساسي في الفص الصدغي من الدماغ ، إضافة لقدرات التذوق الفني والجمالي في المناطق الدماغية الأخرى ، ويمكن لهذه الفائقة أن تكون وراثية . ومن المؤكد أن التدريب له دور كبير في صقل الموهبة الأدبية وتطويرها.
والإنتاج الشعري لايمكنه أن يكون صناعة لفظية متعمدة إلا في حالات الشعر الهابط . والشاعر المبدع يجد نفسه متفاعلاً ومتاثراً بموضوع معين مما يخلق توتراً خاصاً يستدعي صياغة الكلمات الشعرية التي تمتثل في ذهنه أو لسانه أو قلمه وتلح على الظهور بشكل تلقائي .. ومن ثم يمكن للشاعر أن يراجع كلماته أو يعدل فيها . وهكذا فإن حالة التوتر الإبداعي وما يرافقها من إبداع تتحكم فيها عوامل لاشعورية بشكل أساسي ، ويأتي دور التفكير والمراقبة والوعي مكملاً ومتابعاً وموجهاً للدفقة اللغوية الشاعرية والتي تتضمن في بنيتها مزيجاً من الانفعالات والصور الذهنية والأفكار التي تتفاعل في شخصية الشاعر وفي أعصابه وتكوينه .
والحقيقة أن حالة " التوتر الإبداعي " ليست محددة تماماً ولايزال يكتنفها كثير من الغموض يشبه غموض العقل البشري نفسه . وهناك عدد من القواعد والنظريات التي تحاول فهم هذه العملية وجوانبها المثيرة .
وفي أبسط التحليلات يمكننا أن نقول إن التوتر الإبداعي هو حالة من أحوال النفس وفيها متناقضات ، أو حالة من الإثارة والحركة تستدعي الحل والتوازن ... مما يؤدي إلى تشكل الكلمات بطريقة معينة تؤدي إلى إعادة التوازن والانضباط للحالة النفسية . وهي بالطبع ليست حالة مرضية .. ويحاول البعض الوصول إليها عن عمد باستعمال بعض المواد ذات التاثير النفسي العصبي أو من خلال التعرض لمشاهد ومثيرات خاصة ومحاولة التفاعل معها . أو من خلال ترتيب الأجواء المناسبة الطبيعية أو غير الطبيعية مثل اختيار الزمان والمكان والأشخاص والأشياء المحيطة التي تثير مثل هذه الحالات التوترية الإبداعية .
والحقيقة أن الكتابة الشعرية وغيرها من ألوان الكتابة الإبداعية ، إضافة إلى القدرات الإبداعية الأخرى الفنية مثل الرسم والموسيقا ، لايمكنها أن تعطي وتنتج كل الوقت وكل يوم . ويمر المبدع بمراحل ولحظات منتجة وأخرى عاطلة . ويختلف الأشخاص بالطبع في نوعية قدرتهم وصفاتها وغزارتها .
ومن المعروف أن الشاعر يحتاج " للإلهام " ... وليس بالضرورة أن يكون ذلك هو " الحبيب الملهم " ، بل يمكن أن يكون قضية أو فكرة أو معاناة خاصة .
والحب يمكن أن يكون مصدراً شعرياً هاماً لما يمثله الحب من أشواق وأفراح وسعادة ، وأيضاً بما فيه من عذاب وإحباط ومعاناة . وتختلف أشكال المعاناة والحرمانات وشدتها . والألم محرك للنفس ومثير للتوتر الإبداعي .. ولايكفي وحده بالطبع .. والكتابة أو الإبداع عموماً ، يخفف الألم ويشكله ويحوله .. مما يعطي خلقاً جديداً وجمالاً وأثراً .
والحقيقة أن كثيراً من الشعراء يعيشون الشعر في حياتهم اليومية .. وقد لايكتبون شيئاً كثيراً .. وهم " يرون ما لا يرى " " ويسمعون ما لا يسمع " بسبب حساسيتهم المرهفة .
كما أنهم يعيشون بكامل طاقاتهم وقدراتهم العاطفية والروحية والفكرية ، ويتفاعلون مع الحياة من حولهم بعمق وحساسية ، وبالتالي فهم يعيشون الحياة حقاً وبشكل أكثر غنى وامتلاءً وأبعاداً من حياة الناس العاديين .
ويمكن لعدد من الاضطرابات النفسية أن تصيب الشعراء والأدباء وغيرهم من المبدعين بنسبة أعلى من الناس العاديين إذا اعتبروا فئة خاصة ... ونجد مثل هذا الاختلاف في عدد من المهن الأخرى الصعبة مثل الطب وغير ذلك . ومما لا شك فيه أن الشعر ليس جنوناً ... والشعراء ليسوا مرضى نفسيين ...
والاضطراب النفسي الشديد لا ينتج إبداعاً جيداً ، كما تعلمنا التجربة اليومية مع حالات الاضطراب النفسي وكما تدل عليه سيرة المبدعين ، ذلك أن الاضطراب النفسي الشديد هو حالة من التفكك والتدهور وعدم الترابط ... والإبداع الجيد يحتاج إلى حد أدنى من المنطق والتوازن والصحة النفسية .
وهكذا نجد أن الفترات الإبداعية تكون عادة بعد تحسن الحالة النفسية واستقرارها عند من يعانون من اضطراب نفسي معين .
وتختلف أحوال الشعراء وطبقاتهم وشخصياتهم .. ومنهم الهواة ومنهم المحترفون المتفرغون للكتابة ، ومنهم الأدعياء والمحتالون والمضطربون وغير ذلك ، ومنهم المبدعون والمفكرون والعظماء .
ومما لا شك فيه أنه يمكن للشعر أن يرقى بالإنسان ، وهو أحد معالم تطور الفكر البشري ... وقد استطاع الشعر أن يعبر عن أدق عواطف البشر ومعاناتهم ، ووصل إلى أعماق النفوس وخباياها من خلال التعبير عنها وعن عوالمها وتصوراتها وخيالاتها . كما أضاف للعلوم النفسية ثراءً وفهماً لطبيعة الإنسان وتفكيره ورغباته وتناقضاته وصراعاته ، وفسح المجال للمزيد من البحث والنظريات التي تحاول الوصول إلى الحقائق الهامة الني تحاول أن تفهم الإنسان وتخدمه .
" من كتاب الطب النفسي والحياة الجزء الأول 1995 "
" نشرت هذه المقالة في جريدة الأسبوع الأدبي - دمشق 2/10/1999 "