لاحظت بحكم عملي في مجال الطب النفسي زيادة ملحوظة في أعداد الناس من حولي من الذين صدمت مشاعرهم، وتأثروا نفسياً بعمق بالمشاهد المأساوية للأحداث الأخيرة في فلسطين، ورغم لحظات الحقيقة مع الغضب والانفعال الهائل التي يعيشها الإنسان العربي في كل مكان بعد أن أصبحت كل الأمور مكشوفة، ومعالم الأزمة واضحة، وآثارها النفسية والإنسانية السلبية لا تخفي على أحد، إلا أننا وسط الأزمة والمأساة وما أصابنا من اليأس والانكسار نجد أمامنا بعض الإيجابيات التي تبعث الأمل في النفوس ..
وفي البداية يجب أن نرصد بعين التحليل النفسي دلالات ما يحدث، وما آل إليه الوضع نتيجة الأحداث المأساوية على أرض فلسطين.
الآثار النفسية السلبية للأزمة :
من وجهة النظر النفسية فإن العوامل وراء هذه الانفعالات والمشاعر السلبية التي تتملك الواحد منا وهو يتابع
الأحداث الراهنة في أي موقع ومن أي مكان يمكن تحديدها في بعض النقاط :
- التساؤلات التي لا تجد إجابة ويطرحها كل منا على نفسه وعلى المحيطين به حول تفسير ما يجري بين قوات الاحتلال التي تملك كل الأسلحة الحديثة، وتتمتع بتأييد فاضح غير مشروط من القوة الكبرى في العالم من ناحية، وبين شعب أعزل لا يملك سوى وسائل مقاومة بسيطة وبدائية تحت الاحتلال والقهر والظلم، واستمرار هذا الوضع وتفاقمه بصورة تثير الغضب.
- ما يحدث هو نموذج لصراع أو نزاع يحدث بصورة غير متكافئة، وأتصور أن المعنى اللغوي لتعبير الصراع
يعني أن طرف ما لابد أن يتغلب على الآخر، أما النزاع فإنه أمر قابل للتسوية بين أطرافه، وفي كل الحالات
فالطرف الأقوى يفرض ما يريد دون اكتراث.
- لقد أثارت الأحداث الأخيرة مشاعر الإحباط العام وشعور الهوان والإذلال لدى الإنسان العربي نتيجة
لمواجهة هجوم وعدوان شرس بما يشبه الاستسلام والعجز عن المواجهة، وهذا شعور قاتل يستفز المشاعر، وله آثار نفسية سلبية على الناس في كل المجتمعات.
- يدفع ذلك إلى تساؤل آخر لا يجد إجابة واضحة عما يجب عمله من الجانب العربي في هذه الظروف العصيبة
التي تفرضها الأحداث الحالية، وفيما بين الاتجاه إلى الاكتفاء بالمراقبة وكبت شعور الغيظ والغضب، أو البحث عن
وسيلة للتعبير في حدود ما تسمح به الظروف يستمر الغليان الداخلي الذي يهدد بعواقب ومضاعفات وخيمة قد تظهر آثارها في المجتمعات العربية عاجلاً أو آجلاً.
آثار نفسية إيجابية أيضاً:
رغم أن الموضوع الذي نتحدث عنه وهو الأزمة والمأساة التي يعيشها الشعب الفلسطيني والعربي والمنطقة بأسرها لا تبدو فيه سوى نذر السوء والتشاؤم، وأسوأ الاحتمالات ، إلا أنني بحكم عملي في مجال الطب النفسي أستطيع ملاحظة بعض الإيجابيات التي ظهرت كبقع من الضوء الخافت الذي يمكن رؤيته وسط هذا الواقع المظلم، وبعيداً عن السياسة أو الأمور العسكرية التي لا أفهم في تفاصيلها شيئاً فإنني أرى هذه الإيجابيات في بعض النقاط التي يجب أن تكون موضع تركيز لكل من يحاول التحليل الدقيق للوضع الحالي، ومنها:
- رغم أن أهم الأهداف النفسية للتحرك العسكري الإسرائيلي كان إثارة الرعب والخوف لدى الجانب الفلسطيني فإن ما حدث على مدى الفترة الماضية نتيجة للرد بأسلوب العمل الفدائي الاستشهادي كان إعادة تصدير الهلع إلى إسرائيل، ونلاحظ أن انتقاد الشعور بالأمن له تأثير نفسي هائل على الجانب الإسرائيلي أكثر من الجانب الفلسطيني.
- من المكاسب الرائعة التي تحققت بوضوح كسر حاجز الخوف من إسرائيل، ودليل ذلك هو تحويل الإحباط الفلسطيني إلى مقاومة تتسم بالجرأة في صورة شاب أو فتاة يتحول إلى مقاتل يقدم دون تردد على الشهادة، أو طفل يتحدى جندياً مسلحاً، أو مواطن لا يخشى دبابة، ويؤكد ذلك أن العقيدة أقوى من أي سلاح.
- من الغريب أن أحد نتائج الخسائر البشرية من الشهداء أو الجرحى في الجانب الفلسطيني والخسائر المادية من تدمير للمنازل والممتلكات والمرافق كان ارتفاع الروح المعنوية، والتماسك، وتقوية دوافع المقاومة، واستبعاد
خيارات الخضوع والاستسلام، وابتكار أساليب جديدة للعمليات، ولاختراق العدو بضربات تسبب له أكبر قدر من
الألم.
المأساة وردود الأفعال النفسية :
عندما نرصد رد الفعل الذي أثارته الأحداث المأساوية ومشاهد الأزمة لدى الناس في العالم العربي والإسلامي
وبقية أنحاء العالم، حيث بدت معالم هذه المأساة من خلال المشاهد التي تابعها العالم على مدى الأيام الماضية ونذكر منها :
- المشاهد القاسية للعدوان وما يسببه من خسائر بشرية وقتل وتحطيم للممتلكات من جانب قوة تتصرف وكأنها فوق القانون ولا تفهم إلا لغة واحدة هي فرض القوة، مع شعور بأنه لا يوجد في العالم من يستطيع التصدي لهذا العنف أو يوقفه.
- تسير وتيرة العنف من الجانب الإسرائيلي بصورة متصاعدة ورد مبالغ فيه على أي محاولة للمقاومة، ويشبه
ذلك الجرائم المركبة مثل اللص الذي يسرق ثم يقتل ويقاوم الشرطة، حيث تبدأ العمليات باجتياح ثم حصار ثم مزيد من القتل والتدمير لإسكات المقاومة ويطلق على ذلك " الهروب إلى الأمام " أي إلى مزيد من العنف الوحشي، حتى أنه تم تشبيه ما يفعله جيش الاحتلال في المدن الفلسطينية بفيل دخل إلى محل للزجاج أو السيراميك وحطم محتوياته.
- في المشاهد الحالية من الجانب الفلسطيني مقاومة عنيدة بإرادة أسقطت حواجز اليأس والخوف، وخلفية
ذلك إقبال بلا تردد على الشهادة من جانب كل الفئات والقيادات الفلسطينية التي وحدتها الأزمة بشكل غير
مسبوق، ومن وجهة النظر النفسية فإن للمستغني عن حياته والمستعد للتضحية بها يمثل قوة غير محدودة يمكن أن تكون عامل توازن مع قوة السلاح الهائلة التي يملكها الاحتلال.
- المشهد العربي بين تعبيرات الغضب والانفعال في صورة مظاهرات وخطابات وكتابات واجتماعات وتغطية إعلامية، وبين شعور لا يخفي على أحد بالسخط والإحباط العام، لكنه في النهاية يحمل بعض الإشارات الإيجابية في صورة اتفاق في الشعور العربي يرفض الواقع الراهن ويصل إلى حد الإجماع تقريباً لم يحدث منذ وقت طويل.
- المشهد الإنساني للأزمة حرك مشاعر الناس في أنحاء مختلفة من العالم، ودليل ذلك أن أحداث الأرض
المحتلة جعلت الكثير من الجهات لا تستمر في موقف المتفرج، وعادة ما يتجه الناس إلى تجاهل الأحداث الأليمة بعد وقت قصير حيث نرى الواحد منا يتأثر بحادث طريق فيخفف السرعة لدقائق ثم يعود، أو يتأثر وهو يشيع جنازة لكنه لايفكر بأنه نفسه من الممكن أن يكون في موضع المتوفى، وهذا الشعور بأنه الآخر ولست أنا ، كسرته صدمة مشاهد الأحداث دون قيود للغة أو الجغرافيا فكان التأثير الإنساني لها واسع الامتداد.
بدلاً من اليأس والإحباط .. لا تبتئسوا :
رغم هذه المشاهد المأساوية التي تدعو إلى اليأس والإحباط والألم سواء على مستوى ما يحدث في الأرض المحتلة بين الاحتلال والمقاومة، أو في العالم العربي، أو على المستوى الإنساني، فإنني في مواجهة كل هذا أتوجه بدعوة ونداء للجميع بضرورة الاحتفاظ بالاتزان النفسي والتماسك دون انهيار وأقول لهم "لا تبتئسوا" فهناك ما يمكن أن نقوم به الآن في مواجهة الآثار النفسية للوضع الراهن حتى لا نفقد عقلنا ونصبح ضحايا لحالة اضطراب الصدمة التي تعرف اختصاراً( PTSD ) وتنشأ بسبب الخبرات الأليمة والمشاهد المأساوية التي لا تحتمل من قتل ودمار وقهر وظلم، وأعتقد أن مجرد متابعة نشرات الأخبار اليومية حالياً بما تتضمن من أحداث واقعية على أرض فلسطين يكفي لإثارة مشاعر اليأس والإحباط والاكتئاب الجماعي لدى قطاعات كبيرة من الناس.
وهنا نذكر بعض الخطوات العملية التي يمكن أن تخفف علينا الآثار النفسية للأزمة ، ومن أمثلتها :
- الاستمرار في حالة الوعي والانتباه واليقظة لدى كل قطاعات المجتمعات العربية وخاصة الشباب الذين اعتادوا
على الغياب عن المواقف الوطنية لفترات طويلة، ويمكن اعتبار الانشغال بهذه الأزمة بداية للتخلي عن الاستهتار واللامبالاة، والانصراف إلى المواقف الإيجابية الجادة في الحياة.
- لتكن الأزمة الحالية بداية لأسلوب عربي جديد للتفكير فيما يدور حولنا من أحداث، والفهم الجيد لما يصادفنا من أزمات، والتشخيص الواعي لها حتى يمكن معالجتها بصورة ملائمة، وهذا هو أسلوب الذين سبقونا في التقدم العلمي والحضاري، وأصبح علينا أن نلحق بهم، ولا نسمح لهم بالسيادة المطلقة علينا والتحكم في مقدراتنا كما هو الحال الآن.
- لا داعي لليأس القاتل والإحباط الجماعي الذي يمنع الناس من القيام بأية خطوات إيجابية، فهناك الكثير من
البدائل لا تزال ممكنة أهمها رفض هذا الواقع، والتخلص من الخوف الذي تحاول الحروب النفسية للأعداء أن تبثه في نفوسنا برسالة غير مباشرة مضمونها هو أنه " لا طاقة لنا بشارون وجنوده " ، أو أن هناك قوة عظمى تحكم العالم ويجب التسليم والاستسلام لها لتفعل ما تريد.
- لا بد من تبني بعض الأفكار على المستوى الفردي والجماعي تسهم في مقاومة مشاعر اليأس والانكسار التي تعتبر – من وجهة النظر النفسية – أقوى أثراً من كل جوانب الأزمة الأخرى بما فيها الخسائر في الأرواح والممتلكات، وأرى أن المنظور الإسلامي في هذه المواقف يتفق تماماً مع الصحة النفسية، فالإيمان القوي والعودة إلى الله، وما تتضمنه تعاليم الدين الإسلامي من تعظيم قيمة الصبر، والإشارات الأخرى التي وردت في آيات القران الكريم مثل قوله تعالى : " ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين " من شأنه أن يضمن الاحتفاظ بحالة معنوية عالية مهما كانت تداعيات الأزمة ومضاعفاتها.
الماضي والحاضر .. ونظرة على المستقبل :
إذن فالنظرة الشاملة على الماضي والحاضر والوضع الراهن يمكن أن تثير لدى كل منا الكثير من الانفعالات والمشاعر والتساؤلات عما يمكن أن يأتي في المستقبل .. ورغم أن أحداً لا يعلم إلى أين تسير الأحداث فإن المطلوب حالياً هو الاستمرار في المقاومة في مواجهة العدو كي لايستريح أو يشعر بالأمن، ومطلوب من الشارع العربي أن يظل على نفس المستوى الحالي من الغضب والالتهاب حتى تصل الرسالة التي مؤداها:
" نحن معكم إخواننا في فلسطين " ، والتي تتضمن أيضاً " نحن كلنا نقف صفاً واحداً في مواجهة العدوان بإرادة صلبة لا تعرف الكلل " .
ويتطلب ذلك تقديم المساندة المادية والمعنوية للمقاومة التي تتعامل مع العدوان بالقوة، وإلى وضع الكفاح " والمقاومة " كخيارات بديلة ، ويجب أن يتوفر الاستعداد للمضي في ذلك بنفس طويل، وهذا من شأنه أن يعيد الاتزان المفقود بين الطرف الفلسطيني الذي تبدو صورته حالياً وكأنه الطرف الأضعف لأنه شعب أعزل، لكن لدى كل أفراده إرادة المقاومة، ويفضل الشهادة على الحياة، كما أثبت أن لديه قدرة هائلة على احتمال أوضاع صعبة، وبين آلة الحرب العسكرية الإسرائيلية التي يدفعها الرعب إلى "الهروب إلى الأمام" بزيادة العنف والإرهاب من جانب قوات الاحتلال كلما زادت المقاومة.
ويمثل هذا الوضع مأزقاً حقيقياً يعاني منه أولاً الإسرائيليون الذين صنعوه بغرور القوة والدعم من حلفائهم
.. لكن المتوقع حين تتأزم المواقف على هذا النحو الذي يمثله الوضع الراهن هو اقتراب الوصول إلى الحل النهائي، ويتم ذلك في النهاية بحصول من يملك إرادة الصمود، والتصميم على التضحية وهو الطرف الفلسطيني على ما يسعى إليه وهو يقوم بتقديم التضحيات الكبيرة لتحقيق أهدافه المشروعة في الحرية والسلام مهما كان الثمن.
وبعد ذلك فإنني أتوجه إلى نفسي أولاً ثم إلى إخواني العرب والمسلمين وإخوان الإنسانية في كل مكان من الذين فجعتهم المشاهد المأساوية التي شهدتها فلسطين مؤخراً بأن يتجاوزوا صدمة هذا الواقع الأليم، وأقول لهم مرة أخرى : " لا تبتئسوا " ، فمن خلال مثل هذه الأزمات والمواقف الأليمة يأتي الانفراج بأوضاع جديدة تعد بأمل في حياة أفضل، وفيها تعويض عن كل صعوبات الواقع الراهن.