حين جلس الكاتب نورم برودسكي على مقعده في طائرة مسافرة من نيويورك إلى كاليفورنيا، تابعة لشركة جت بلو JetBlue، (التي تقدم رحلات سفر اقتصادية بأسعار مخفضة مثل طيران العربية والجزيرة) سمع عبر سماعات الطائرة صوت رجل، يرتدي ملابس فريق المضيفين في الطائرة، يخبرهم أنه ديفيد نيلمان، المدير التنفيذي CEO لشركة جت بلو، وأنه ينتظر فقط إقلاع الطائرة، حتى يقدم بعض المشروبات والأطعمة لركاب الطائرة، ويتحدث معهم لدقائق قليلة.
ما أن انطفأت لمبات ضرورة لبس حزام الأمان، حتى بدأ فريق المضيفين على الطائرة في العمل، وبدأ ديفيد يدفع عربة المشروبات، ويسلم على كل راكب ويقدم له بعض المخبوزات، ويستمع إلى ما لديه من ملاحظات ونصائح وشكاوى من خدمات شركته. كان ديفيد يقضي من 10 إلى 20 دقيقة في كل صف، ولا يوقف راكب عن إتمام حديثه، ثم يشكر الجميع ليمضي للصف التالي. لأن معدل تقدمه كان بطيئا، سارع بقية المضيفين لخدمة بقية الركاب، حتى ينتهي ديفيد ويصل إليهم. بنهاية الرحلة التي امتدت لساعات كان ديفيد قد استمع لكل الركاب.
لكن قبل ذلك يجب أن نتحدث عن شركة الطيران جت بلو، كما يصفها الكاتب الذي أوضح أنه من قدامى عملائها، لأنها وفرت أشياء لم توفرها غيرها من خطوط الطيران الاقتصادية الأخرى، مثل ضمان عدم حجز مقاعد الطائرة لأكثر من عميل، وعدم ازدحام صالاتها لتسليم الأمتعة في المطارات، وتقديم خدمة العملاء لكل وجميع المساعدات الممكنة لحل مشاكل العملاء – وليس فقط دعايات وأكاذيب رسمية، وتعرض شاشات المقاعد بث شبكات التلفزة، وتبلغ كلفة تعديل أي حجز مسبق ربع التكلفة في أي خطوط طيران أخرى، كذلك تقدم الشركة لركابها بعض الأطعمة الخفيفة المجانية – رغم أنها طيران اقتصادي، وغير ذلك الكثير من اللمسات الصغيرة.
ما أن وصل ديفيد إلى صف نورم حتى عاجله الأخير بسؤال، كيف تحصلون على كل هذه الأفكار للخدمات المفيدة، فرد عليه ديفيد، كل ما تراه من خدمات هنا كانت مقترحات قدمها لنا راكبون مثلك على متن طائراتنا. بعدها سأل ديفيد الكاتب عن عمله وعن أي مجلة يكتب فيها، ثم كتب اسمه على ورقة وأكد له أنه سيبحث عن مجلته ليقرأها، وأما الراكب المجاور لنورم فكان رجل مبيعات عرض على ديفيد توفير ما يبيعه على طائرات جت بلو، فأخذ ديفيد اسمه وعينة مما يبيعه، ووعده بأن يرد عليه سريعا. الراكب الآخر شكا لديفيد من أنه غير راض عن ترتيب مقعده، رغم أنه مسافر متكرر على جت بلو. اعتذر له ديفيد وقال أن هذا أمر يجب ألا يحدث مع راكب مثله، وعرض عليه تقديم عنوان البريدي له، لكنه أعتذر أنه قد لا يرد عليه لانشغاله، ولذا يمكنه أن يتصل بشخص آخر ويشرح له مشكلته، ويخبره أنه قابل ديفيد على متن هذه الرحلة.
بعد فترة سأل نورم أحد المضيفين، هل تقابل ديفيد كثيرا أم أن هذه مرة واحدة؟ فرد عليه المضيف، ديفيد؟ إننا نراه كثيرا ويعمل معنا على رحلات كثيرة. حين سأل نورم ديفيد عن معدل تكراره لهذه الجولات التفقدية عن قرب، رد عليه أنه لا يؤديها بالمعدل الذي يوده، لكنه يحرص أن يفعلها على الأقل مرة كل شهر.
وبينما نورم جالسا في مقعده، جاءه صوت ديفيد الواقف بجانبه ليخبره أن هناك راكب آخر على متن الطائرة يعمل في ذات المجلة التي يكتب لها نورم، فسكت نورم متعجبا، ثم رد عليه أنه طالع وجوه أغلب الركاب ولم يجد من يعرفه منهم، فرد عليه ديفيد، هكذا أخبرتني السيدة في المقعد الخلفي، أنك لن تتذكرها، لكنك إذا جئت معي سأقدمك لها، وفعلا سار معه نورم وكانت السيدة تعمل في مكتب المجلة لكن في مدينة أخرى، وكان نورم قد قابلها منذ زمن لكنه نسي ملامحها. هذه الرحلة حملت أكثر من 100 راكب!
وهنا حيث تنتهي القصة.
أكبر عيوب زيادة حجم أي شركة، هو ضعف تواصلها مع العملاء بسبب كبرها. تعال مثلا إلى شركة طيران معتبرة مثل طيران الإمارات، هل حدث معك ووجدت تيم كلارك، مديرها الانجليزي الارستقراطي يجلب معه مترجمين ليتحدث مع ركاب رحلات طائرات الإمارات؟ ماذا عن شركة طيران الخليج؟ هل قرأت أن مديرها الجديد، سامر المجالي، ركب على متن رحلة من رحلات طائراته وسأل الركاب عما يضايقهم في سفرياتهم؟ لعله فعل ولم نقرأ عن ذلك، ويا حبذا لو وجدنا ذلك. هؤلاء المديرون قدموا خدمات متميزة بدون شك، فمنهم من حقق أرباح لأول مرة لشركته، ومنهم من أرسى قواعد شركة من أكبر شركات الطيران في العالم، لكني هنا أتحدث عن خدمة عملاء راقية، لم نر لها مثيلا.
الشاهد من القصة، أفضل الأفكار وأحسن الإضافات التي تقدمها لعملائك، ستأتي من أفواه عملائك أنفسهم. ليس معنى الكلام أن كل فكرة يجب تطبيقها، هذه ستكون القاضية. الهدف هنا هو البقاء أقرب ما يكون من العملاء، ليس من خلال موظف أو مدير، بل مباشرة، ما بين المدير – والعميل والمشتري والمستخدم. لا تترك شيئا يقف بينك وبين عميلك، ولو كان شابا أنيقا لامعا يحمل شهادات تخرج من جامعات أنيقة.
قف على خط المواجهة الأمامي، فالقادة العظام الذين حفروا اسمهم على صفحات التاريخ وقفوا الموقف ذاته.
على الجانب:
- للأمانة العلمية، بحثت عن مواقف مشابهة لمديري طيران الإمارات و الخليج، فلم أجد، ولعلهم فعلوها ولم أعرف، وأرجو أن يخبرني من يعرف لهم مواقف مشابهة.
- ديفيد نيلمان تقاعد من شركة جت بلو ليؤسس شركة طيران اقتصادية أخرى في البرازيل.
- كنت أريد من قرائي الأعزاء أن يرسلوا لي عناوين البريد الإلكتروني لكل من يعرفونهم من صحفيين يعملون في أي صحيفة أو مجلة في أي بلد عربي، لغرض سأفصح عنه قريبا.
[الصورة من ويكيبديا]