بعدما انتهينا من عرض الجزء الأول من قصته هنا، نكمل مع ليجسون حيث شرع في كتابة رسالة إلى عميد الكلية تحكي قصته بالكامل ورغبته في الالتحاق بها من خلال منحة دراسية، وخوفا من ألا تصل الرسالة أو تنال الرفض، كتب ليجسون رسائل مشابهة إلى عمداء العديد من الكليات الأمريكية، بقدر ما سمحت له ميزانيته المالية الهزيلة. على أن عميد كلية سكاجيت Skagit كان من الرحمة بمكان حتى رد على رسالته بالموافقة، وامتنانا منه لكفاح ليجسون، وافق العميد على قبوله في الجامعة وفي منحة دراسية ومنحه وظيفة جانبية تكفل له بعض المال ليسدد إيجار السكن ونفقات المأكل والملبس!
رغم الخبر الجميل، لكن ليجسون تعرف على خبر آخر مزعج: السفر يتطلب جواز سفر (باسبور)، وجواز السفر بدوره يتطلب تاريخ ميلاد، وهو ما لم يكن أحد يعرفه على وجه الدقة من أهله وقريته. مرة أخرى عاد ليجسون للورقة والقلم ليكتب رسالة إلى العاملين في الإرسالية التبشيرية ليساعدوه في الحصول على جواز السفر، وهو ما قاموا به بالفعل. واثقا من نجاحه، وحتى لا يدخل على الكلية حافي القدمين، أنفق ليجسون كل ما تبقى له من مال على زوج أحذية.
بعدها أكمل ليجسون رحلته، بدون أن يكون عنده أي حل مقترح لكيفية جمعه للمال اللازم لشراء تذكرة سفر إلى أمريكا، لكنه وثق أن هذه المشكلة ستجد لها حلا. بعدما دخل ليجسون مدينة الخرطوم، اتصل بنائب القنصل الأمريكي والذي أخبره أن عليه توفير مبلغ تذكرة السفر أو كفيل مالي ليحصل على تأشيرة طالب علم، على أن نائب القنصل هذا تأثر بإصرار ليجسون فكتب بنفسه إلى عميد كلية سكاجيت وأخبره بهذا الشرط المالي، مع مديحه في هذا الشاب المثابر، فما كان من طلاب كلية سكاجيت إلا وجمعوا تبرعات من أنفسهم ومن مواطني البلدة لشراء تذكرة سفر هذا الإفريقي، وهو ما كان مبلغه 650 دولار أمريكي، كما عرضت عائلة أمريكية أن تستضيف ليجسون ليقيم معها خلال دراسته. قبل أن يركب الطائرة من الخرطوم، سرد ليجسون قصته لصحفي أمريكي والذي نشرها قبل وصول ليجسون، الأمر الذي جعله من المشاهير بسرعة، تنتظره جوقة من الصحفيين في المطار.
في ديسمبر 1960، بعد مرور عامين على خروجه من قريته وبعد 3200 كيلومتر سيرا على الأقدام، وصل ليجسون إلى أعتاب كلية سكاجيت. الشهرة القصيرة هذه جعلته يظهر على شاشات التليفزيون، وعلى صفحات المجلات، وطلبته العديد من الجهات ليتحدث عن رحلته الحالمة. هل توقف ليجسون بعد تخرجه من الجامعة؟ لا بل سافر إلى انجلترا ليحصل على شهادة الأستاذية في العلوم السياسة من جامعة كامبردج، وهناك حيث استقر بقية حياته. وضع ليجسون كتابا في 1965 شرح فيه كل تفاصيل قصته ورحلته، أسماه I Will Try. كان ليجسون أول مواطن من بلده يحصل على شهادة جامعية من أمريكا.
حتى لا تظنها كانت رحلة سهلة، حين جاء ميلاد ليجسون، كان كبير الحجم ثقيل الوزن، حتى أن أمه انزعجت من ثقل وزنه فرمته في النهر متخلصة منه، لولا أن امرأة قروية شاهدته فالتقطته من النهر وأعادته إلى أمه. كان لليجسون ثمانية من الإخوة، عاش منهم اثنان فقط. كانت مدرسة الكنيسة الاسكتلندية الابتدائية تبعد عن سكنه 3 أميال، ولذا كان عليه السير يوميا. لم يكن لدى المدرسة ورقة أو قلم أو كتاب، وكان على الطلاب إحضار الطعام للمدرسين كل يوم. المدرسة التالية كانت تبعد ثمانية أميال، ردته في اليوم الأول لحضوره لأنه كان عاريا تقريبا. كانت المدرسة الثانوية التالية تبعد 200 ميل عن قرية ليجسون، وكان والده قد توفى وتولت أمه الإنفاق على العائلة بمفردها، لكن ليجسون أصر على الاستمرار في التعلم، خاصة وأنه يبلي فيه البلاء الحسن.
حين ركب ليجسون الطائرة لأول مرة في حياته، فإنه طلب بكل أدب من المضيفة الحصول على مظلة / باراشوت، ظنا منه أن هذه هي وسيلة النزول من الطائرة! المؤلم أن كتابات ليجسون منعت من النشر والتداول في بلاده بعدما نالت مالاوي استقلالها، لأنها كانت تدعو إلى الحرية والتحرر، على أن المدرسين في المدارس تحدوا هذا المنع وقدموا لطلابهم بعضا من كتاباته.
في الختام، أجدني أشعر ببعض الغصة أن ليجسون لم يجد مدرسة إسلامية تأخذ بيده نحو الحق والنجاح، ولم يقصد مدينة عربية أو إسلامية ليتعلم فيها ويحصل على الثقافة والعلوم التي كانت لتساعده على عيش حياة النفع والمساعدة، ولعل سردي لهذه القصة هنا يشعل نار الحماسة في قلب قارئ فلا يدعها تخبو حتى يبني مدارس إسلامية في إفريقيا، ولعل قارئ آخر ينفق جزءا من ثروته لتحسين حالة الجامعات والمدارس العربية حتى تسبق غيرها وتكون الأولى في التصنيف العالمي لأفضل الجامعات، ولعل قارئ آخر يقول لنفسه أنا أفضل من هذا الإفريقي وسأنجح لأبعد منه، وأما من سيبحث عن أعذار وعيوب في القصة، فهذا أحد أسباب عدم عثور ليجسون على مدرسة إسلامية، لأن المُعذِّرون تكاثروا في وقتنا هذا وقل أهل العمل والاجتهاد. تقبل الله منا ومنكم الصيام والقيام وصالح الأعمال.