لكل نشاط هدف، عادة ما يكون ذا علاقة بالناس. في هذه المدونة مثلا، الهدف هو نقل القراء من حال إلى حال أفضل. لتقييم مدى نجاح نشاط المدونة في تحقيق هذا الهدف، لا بد من سؤال القراء بشكل دوري عما خرجوا به من محتوى الرسائل التي يتلقونها في هذه المدونة. لكي يشارك القراء بدورهم في هذه العملية، لا بد لهم من ترك تعليقات.
دفع زوار و قراء أي موقع لترك تعليقات من الأمور عالية الخطورة، لأن دفع الناس للمشاركة – دون رغبة فعلية منهم – يجعلهم في حالة مزاجية أكثر قبولا لإبداء انفعالات وقول أشياء لا تعبر بكل دقة عما يدور بداخلهم. خذ مثلا حين تدخل على موقع فيطلب منك ترك اسمك و عنوانك البريدي، ماذا كانت النتيجة؟ موقع البريد الإلكتروني لمدة 10 دقائق، إذ ما أن تدخل على هذا الموقع حتى يعطيك عنوانا بريديا مؤقتا، تستعمله لتحصل على ما تريده، ثم يحذف الموقع هذا العنوان البريدي المؤقت، وتمضي أنت بدون تعريض البريد الإلكتروني الخاص بك لاستغلال رجال التسويق.
قبل نهاية التدوينة السابقة، وضعت فقرة خارجة عن سياق التدوينة كلها، أشرت فيها إلى أن نسبة لا بأس بها من القراء لا يتركون تعليقات، رغم أنهم عادة يؤكدون على رضاهم عما يجدوه من تدوينات ويرغبون في المزيد منها. الغرض كان إثارة عقل القارئ وتحفيزه لترك تعليقات، بشكل لا يثير حنقه، وبشكل مرح إذ أن الأمر بدا وكأنه مقلب كوميدي، وذلك لتخفيف وطأة الأمر على القراء، وللحصول على نتائج ذات دقة مقبولة لتجربة ذات علاقة بسلوك البشر.
آثرت كذلك عدم التدخل أو الرد، والانتظار حتى بلوغ التعليقات أكثر من 50 تعليقا، حيث أن هذا الرقم يبدو كبيرا في عالم المدونات العربية، ما يجعل أي نسب نخرج بها ذات قبول لدى الباحثين ومحبي علم الإحصاء. دون إطالة كلام، من إجمالي 50 تعليقا، في المتوسط، أشار 35 تعليقا إلى هذه الفقرة التي تركتها، للدلالة على أن تارك التعليق قرأها واستوعبها، في حين جاء 15 تعليقا بدون الإشارة لهذه الفقرة.
15 تعليقا تعني أن قرابة 30% من قراء التدوينة لم يقرؤوها بالكامل، أو نسوا الإشارة إلى هذه الفقرة، أو لأي سبب من الأسباب الأخرى، لكن تبقى النسبة قائمة: 30% من المعلقين لم يقرؤوا حتى النهاية قبل تركهم لتعليق، أو قرؤوا ولم يتفاعلوا مع هذه الفقرة. بالطبع، هؤلاء ندين لهم بالشكر على المشاركة الإيجابية، ولكن دون القراءة حتى نهاية الموضوع، فأي رأي يصل إليه القارئ أو أي قرار يتخذه سيكون مبنيا على أساس غير سليم. ساعتها حين يبني المدون قراره بناء على تعليقات مثل هذه، فسيكون قراره خاطئا كذلك.
عدم الوضوح هذا، هو ما أشارت إليه التدوينة السابقة والتي سبقتها. حين نشتري، لا تكون الرؤية عندنا واضحة ولا نتخذ قرار الشراء على أساس سليم. كذلك الحال مع غيرنا من البشر. ليس البشر كتابا مفتوحا مفهوما، يمكنك أن تخضعه لقوانين ونظريات، ولهذا قلت في بداية التدوينة السابقة أنها ستغضب حملة الشهادات العليا، لأن هؤلاء يصلون إلى مرحلة أكاديمية تجعلهم يرون العالم كله خاضعا لقواعد ونظريات لا يخرج عنها (مع احترامنا لهم وتقديرنا لمجهودهم العلمي بالطبع).
حين أطلب من أي مقدم لخدمة أو بائع لسلعة ألا يحكم مسبقا بأن بضاعته رخيصة وأن عليه بيعها بسعر رخيص، وأن يجرب عدة مستويات سعرية، وألا يبني أحكاما بدون إخضاع أحكامه هذه للتجربة، فأنا أريد منه الخروج من نسبة 30% إلى نسبة 70% وأن يتخذ قراره على أساس سليم. (وهذه النسبة ليست ثابتة، هي فقط تشير إلى وجود نسبة من الضوضاء في عملية اتخاذ أي قرار لأي شخص منا).
من لم يقرأ التدوينة حتى نهايتها، اتخذ قرارا غير عقلاني حين ترك تعليقه وعرض فكرته. خذ هذه الحالة وكررها على عملية شراء أي سلعة أو خدمة. البشر ليسوا عقلانيين في جميع تصرفاتهم، بحكم تكوينهم وطبيعتهم. دعنا نضرب مثالا، إذ كنت تسير في طريقك ووجدت ثعبانا ضخما مخيفا يفر من صاحبه، فإنك إذا رأيت بعدها بوقت قصير خيالا أسود رفيعا، فستظنه ثعبانا وستثب من مكانك خوفا أن يكون هذا هو اليوم الذي يمر عليك فيه ثعبانان وليس واحدا.
الآن، لنقلب هذه الفرضية. كنت تسير في سوق تجاري ووجدت مصورين سخفاء يصورون برنامج سخيفا اسمه الكاميرا السخيفة، حيث قام فريق البرنامج بعمل دمية على شكل ثعبان قماشي يخوفون به الأبرياء. ساعتها سترى أن الأمر دعابة ولن تتحرك خوفا من هذه الدمية. إذا خرجت خارج السوق ورأيت ثعبانا حقيقيا فإنك ستقف مكانك لتثبت أنك لست ممن يقعون ضحية مثل هذه المواقف الكوميدية، وسيكون الانطباع الأول لديك إنه اليوم الذي قابلت فيه ثعبانان قماشيان.
إنها مرة أخرى سيطرة العقل اللاواعي على الواعي، ويرى الكتاب الذي أشرت إليه في التدوينة السابقة أن سبب هذه السيطرة هو أن الوقت اللازم للعقل الواعي لكي يتخذ قرارا لحظيا طويل جدا، ولذا أودع الله عز و جل فينا آليات أخرى تتخذ القرار نيابة عنا، في حال احتاج الأمر لذلك التدخل، وهو ما يحدث – وفقا للكتاب – طوال 95% من حياتنا. هذه الآليات تعتمد على أشياء كثيرة قد يرفضها العقل الواعي، لكن اللاواعي يتأثر بها ويقبلها ويعمل وفقا لها.
خلاصة القول: ليس البشر ممن يخضعون للفرضيات وللنظريات طوال الوقت. البشر أنفسهم عاجزون عن فهم أنفسهم. لا تضع حكما مسبقا بأن منتجك رخيص، أو أنك إذا رفعت السعر فستبور بضاعتك. جرب ، وانظر ، وتدبر، ثم احكم، لكن ليس قبلها. مرة أخرى، لا تبع رخيصا!
[الصورة المستعملة مع المقال منقولة من
موقع فوتوسيرش لبيع الصور التوضيحية]
[هناك فرق بين الجنون وبين اللا عقلاني. الجنون هو عطب أصاب آليات عمل العقل. اللا عقلاني هو حالة خاصة طبيعية يمر بها التفكير العقلاني، يمكنك أن تعتبرها بمثابة فترة راحة واستجمام للعقل!]