حين بنى الأمريكيون الجسر الخشبي الموصل بين ضفتي أحياء مانهاتن وبروكلين في مدينة نيويورك، فإنه كان أطول جسر معلق في العالم – في وقت الانتهاء منه: يناير 1883 وكان اسمه جسر بروكلين ونيويورك، ثم اختصره الأمريكيون إلى جسر بروكلين، وكان من أهم رموز مدينة نيويورك، واستغرق بناؤه 13 سنة.
أما قصتنا اليوم فتدور حول شاب أمريكي من نيوجيرسي، بدأ يقرأ الكتب التي تحدثت عن فنون العلاقات العامة، أو سمها ‘فنون التعامل مع وسائل الإعلام‘ إن شئت، وكان بول هارتونيان يقرأ الكتاب منها ثم يطبق ما جاء فيه، ويحاول لفت انتباه وسائل الإعلام، لكن لا يصيب النجاح، وكان يقرأ الكتاب التالي، ويطبق ما فيه وتتكرر النتيجة، ولما تعددت القراءات ومرات الفشل، توصل إلى نتيجة مفادها: ماذا لو كانت هذه الكتب على غير حق، وأن عليه هو الإبداع والتوصل إلى معادلة تجعله يتمكن من لفت انتباه وسائل الإعلام لتتحدث عما كان يروج له.
بعدها بدأ بول يحقق بعض النجاحات الصغيرة، وبدا كما لو كان وضع يده على طرق احتراف العلاقات العامة، لكنه كان يبحث عن الضربة الساحقة: الخبر الذي يجبر كل وسائل الإعلام والصحافة على الاستماع لما يقوله. كان هذا الأمر يشغل تفكيره ليلا ونهارا، فهو أصبح قادرا على كتابة بيان صحفي ناجح، لكن ما كان ينقصه هو القصة المؤثرة والخبر عظيم الأهمية.
وحال تفكيره كذلك، إذا به يشاهد مقابلة تليفزيونية مع مقاول تغيير ممرات المشاة الخشبية على متن جسر بروكلين، لأن الخشب تآكل ولم يعد آمنا، وكان هذا الخشب المتعفن المتهالك هو الخشب الأصلي المستعمل عند بناء الجسر لأول مرة. أسرع بول بالاتصال برقم هاتف هذا المقاول (كان رقم هاتف الرجل مكتوبا على سيارته والتي ظهرت في خلفية التقرير التليفزيوني أثناء المقابلة!!) وسأله بول: ماذا ستفعل بكل هذا الخشب القديم؟ رد الرجل: سأتخلص منه بالطبع، إنه بلا قيمة. بول: ما رأيك في أن أشتريه منك لقاء 500 دولار على أن توصله إلى منزلي، أنا أقطن على بعد 30 دقيقة من الجسر. المقاول: سيكون عندك بالتأكيد.
الاتصال الهاتفي الثاني والتالي كان مع شخص آخر تولى تقطيع قطع الخشب هذه إلى مربعات صغيرة، ثم قام بول إلى آلته الكاتبة، وخلال 15 دقيقة كان كتب البيان الصحفي الذي اشتهر على مستوى العالم، وظل الناس يتكلمون عنه، ويذكرونه في كتب التسويق والعلاقات العامة، وكان عنوانه كالتالي: رجل من نيوجيرسي يبيع جسر بروكلين… مقابل 14.95 دولار!
بعدها عكف بول على تصميم ورقة بسيطة عملت مثل شهادة منه تثبت أصالة قطعة شريحة الخشب الملصقة أعلى ورقة هذه الشهادة، ثم كتب أسفل قطعة الخشب هذه ملخصا لقصة الجسر وبعض المعلومات عنه، ثم ذيلها بأن هذه الورقة تشهد بأن قطعة الخشب هذه أصلية، شكلت جزءا من الأعمدة الخشبية المستعملة في بناء جسر بروكلين. بعدها ذهب بول إلى صديق له يعمل في مطبعة، والذي طبع له مئات النسخ، أرسلها بول بالبريد العادي إلى أشهر العاملين في مجال الصحافة والإعلام، قرابة المائتين شخص.
لم يحدث شيء في اليوم الأول، فالبريد كان بطيئا وقتها، لكن في اليوم التالي كان بول على موعد مع ما لم يتوقعه، إذ تحقق حلمه، وبدأ هاتفه لا يعرف البقاء بدون رنين، وبدأ المراسلون الصحفيون يتوافدون على بيته، وبدأ يجري مقابلات مع الصحف ومع محطات الراديو، وبدأ الصحفيون من خارج نيويورك يتقاطرون عليه لمقابلته، حتى أن محطة CNN أرسلت سيارتها ذات الهوائيات الضخمة لتبث قصة بول للشعب الأمريكي كله، كل نصف ساعة وعلى مدى ثلاثة أيام متتالية.
هذا الاهتمام الصحافي استمر ستة شهور، وبدأ بعدها الاهتمام يفتر، حتى تحدث برنامج تليفزيوني عن شهادات بول، ومرة أخرى، عادت التليفون للرنين، وعادت الصحف والمجلات ومحطات الراديو للحديث عن الرجل الذي باع جسر بروكلين… قطعة قطعة.
والآن، هل توقف بول عند حدود جسر بروكلين؟ لا، لقد كررها مع الستائر الحمراء القديمة للبيت الأبيض بعد التخلص منها عند إعادة تزيينه، وفعل الأمر ذاته مع قماش من منطاد زيبلين الشهير، ومع أحجار من كنيسة شهيرة، ومع خيوط الصلب التي حملت جسرا آخر، وهكذا الكثير.
هل يمكن تكرار الأمر في بلادنا، هذا هو السؤال
بالطبع، المقارنة مع صناعة الإعلام العربية ستكون ظالمة، فمن جهة، إذا فعلنا الشيء ذاته فربما نظر العديد من الناس إلى الأمر على أنه وسيلة نصب واحتيال، أو أنه فكرة غير مجدية، وأظن كذلك سيكون رأي وسائل الإعلام عندنا، وحتى تلك التي ربما تناولت خبر كهذا، ستتناوله ضمن أخبار الحمقى والمخرفين، ولن تأخذه على محمل الجد.
على أن كل هذا يجب أن يتغير، يجب أن نغير طريقة تفكيرنا، ومن بعدها سيتغير حالنا، تشجيع مثل هذه الأفكار المقبولة، غير المبالغ فيها، مطلوب، لخلق فرص عمل وتجارة لأفراد المجتمع. أتطلع لأن نرى مثل هذه الأفكار منفذة في عالمنا العربي، ففي الإمارات ستجد لوحات تضم سبع أكوام رمل مختلفة اللون، كل كومة تأتي من إمارة مختلفة (إذا لم تكن قد رأيتها فربما كان السبب الغلاء الفاحش غير المقبول لثمن هذه الأكوام)، والأمر ذاته يمكن تكراره في جميع البلاد العربية.
تخيل لو شاهدت شهادة مماثلة، باللغتين العربية والانجليزية، تحكي أن قطعة الصخر / كومة الرمال هذه مأخوذة من صحراء الجيزة حيث تقع الأهرامات، أو كومة رمال من شاطئ غزة، أو كومة رمال من حول المسجد الأقصى في القدس الشريف، أو ربما طورنا الفكرة أكثر ورسمنا خريطة فلسطين برمال فلسطين، وحكينا قصتها بعدة لغات وشرحنا قضيتنا بها.
إن الأفكار كثيرة، فماذا هبط عليك منها؟ وهل ستسرع لتنفذ فكرة مثل هذه أو قريبة منها؟ أخبرني حتى أكتب عنها هنا.
إذا أردت نقل هذه القصة فافعل، لكن بشرط وضع رابط لهذه المقالة في المكان الذي نقلتها إليه، مع ذكر مصدرها قبل نقلها لا بعده، فالفرق بينهما كبير!
بعد مرور 25 سنة على هذه الفكرة، عاد بول ليفعلها مرة ثانية، مع 2500 قطعة خشبية من جسر بروكلين، في إصدارة محدودة، يمكنك قراءة المزيد عنها من هذا الموقع.