نعيش في هذه الحياة ونختلط مع أناس كثيرين,تصدر منا مشاعر وأحاسيس تجاههم ومن خلالها تتأثر علاقتنا وسلوكياتنا معهم فتزيد إلى أناس وتقل إلى أناس وقد تنعدم إلى أناس آخرين,هناك من يُعجب بأحد المشاهير أو غيرهم وقد يصل هذا الإعجاب إلى (تصنيم) هذا المشهور والتقليد والحب الأعمى مع العلم أن هذا المشهور (ما درى عنك) ولم يعلم مدى إعجابك به.
ولكن ماذا إن كانت هذه المشاعر تتجه إلى من كانا بعد الله هم سبب وجودنا في هذه الدنيا,هما من تحملا التعب حتى نرتاح نحن,هما من بذلا الغالي قبل الرخيص من أجلنا. حديثي هنا اليوم عن بِر الوالدين وما أدراكم ما بِر الوالدين,إنه طريق خصب قد يؤدي إلى مرضاة الله والجنة وأيضاً قد يؤدي إلى سخطه والنار, فهو أمر في غاية الأهمية وديننا الحنيف وصانا بالوالدين والإحسان إليهما والبر بهما حتى ولو لم يكونا مسلمين كما قال تعالى (وإِن جَاهَدَاكَ عَلى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفا) فما بالكم إن كانا مسلمين.يقول الله تعالى (ووصينا الإنسان بوالديه حُسنا) هذه تعاليم ديننا الحنيف والذي يأمرنا أمرا صريحا بالإحسان إليهما ولا اختلاف في ذلك ومن ناحية واقعية فلو أن أي شخص أحسن إليك يوما فبالتأكيد أنه يستحق الإحسان إليه فما بالكم بمن يحُسن إلينا دوما وكل لحظة ألا يستحق الإحسان كل لحظه ؟
أشكال البر كثيرة ولله الحمد وكل حسب استطاعته وسأذكر لكم صورا واقعية من البر والعقوق.
يحدثني والدي والذي كان يعمل في المحاكم الشرعية أن أحد المساجين شارفت فترة سجنه على الانتهاء فتقدمت أمه إلينا وكنا نعتقد أنها أول الفرحين بخروجه إلا أن الأمر لم يكن كذلك فكان طلبها أن تُمدد فترة سجنه ولما سألناها عن السبب قالت من شدة عقوقه بي,فكان يشتمني إن سألت عنه ورغبت بالاطمئنان عليه إذا وصل إلى البيت متأخرا وكان يتهمني بأني أتدخل بشؤونه حتى وصل به الأمر إلى ضربي في أحد الأيام,ناهيك عن من كان أبوه مريضا وقال له لنذهب إلى المستشفى وإذا بالأب يُفاجأ بأنه في دار الرعاية وقد تركه ابنه هناك,أو زوجة أجبرت زوجها على إخراج أمه من المنزل,أو زوج منع زوجته من زيارة والديها لفترة طويلة فهل هذا هو الإحسان؟
وعلى النقيض من ذلك فتجد البعض يتلمس حاجات والديه بل ويتصيد الفرص لنيل رضاهما وخدمتهما,فيُذكر أن أحد التابعين سُجن ظلما هو وابنه في فصل الشتاء وكان الابن شديد البر بوالده وكان يُجلب لهما في السجن لبنا للشرب فكان الولد يقف تحت المصباح ويأخذ جرة اللبن ويضعها على رأسه حتى تتأثر بحرارة المصباح ويصبح اللبن دافئا ليشرب منه والده حين يستيقظ,وفي إحدى الليالي انطفأ المصباح قبل أن يُجلب اللبن وكان باردا ففكر الابن بطريقة أخرى لتدفئة اللبن فنام على الأرض واحتضن الجرة وضمها إلى بطنه طوال الليل حتى أصبح اللبن دافئا ليشرب منه والده.
وأعرف إخوة لهم أم مقعدة ومريضة وأمضت فترة طويلة في المستشفى لأكثر من عام بحكم حالتها التي تتطلب التجهيزات الطبية بشكل دائم وكانوا يزورونها كل يوم أكثر من مرة هم وأخواتهم حتى وصل بهم الأمر إلى الإلحاح الشديد على الطبيب ليأذن لها ليوم واحد في الأسبوع بالخروج إلى البيت ومن ثم العودة في اليوم التالي حتى وافق,واستمروا على هذا الحال حتى أذِن لها الطبيب بالخروج بشكل كامل من المستشفى بشرط وجود مرافق دائم لها في المنزل فتسابق كل منهم أن يستقبلها في بيته فأصبحت كل فترة عند أحدهم وكثُر الضيوف الذين يرغبون بزيارتها في المنزل ومع كل هذا لم يتذمر أي أبنائها وبناتها وكذلك أزواجهم وزوجاتهم حتى استقرت عند أحد أبنائها بحكم منزله الكبير واتساعه لمن يرغب بزيارتها صباح مساء. أليست هذه صورا من البر لها من الجمال روعةٌ تستحق الوقوف والتأمل,أليس هذا هو الجمال الحقيقي الذي يفوق رسومات دافنشي ولوحة الموناليزا والتي يتغنى بهما الغرب ؟وختاما .. الله الله بالوالدين والبر بهما والإحسان إليهما من الآن وعلى الدوام في حياتهما وبعد مماتهما وتذكروا أن البر والعقوق دَيْنٌ مردود من الأبناء وإن طال الزمن وقد لا ينفع الندم بعد فوات الأوان .. اللهم اغفر لنا ولوالدينا واجعلنا وإياهم ممن طال عمره وصلح عمله وحسنت خاتمته وارزقنا برهم في حياتهم وبعد مماتهم,وتذكروا قوله تعالى (وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً).