|
القارئ الدكتور عبدالله عسكر يكتب: الثورة والعلاج النفسي للأمة
الناقل :
elmasry
| العمر :42
| الكاتب الأصلى :
الشروق
| المصدر :
www.shorouknews.com
-
ما الذي تساويه الحياة حين يغيب الأمن وينتشر الخوف ويختل السلوك ويزيد الغطاء البدني وينكشف الغطاء الأخلاقي؟
حالة نفسية أو قل واقع نفسي أليم عاشه جموع المصريين قبل ثورة 25 يناير المجيدة.ثم تأتي الثورة لتفجر كل الطاقات الكامنة نحو التغيير سعيا للحرية وتحقيقا للعدالة الاجتماعية ،شعارات نبيلة ،أطلقها نبلاء هذه الأمة من الشباب الذين تلقوا تعليما نبيلا خارج التعليم التقليدي الذي يكرس الخنوع والخضوع والطاعة العمياء لنماذج السلطة.هؤلاء النبلاء والذين ساندوهم من الأحرار ظلوا لثلاثة أيام يواجهون قوي البطش الأمني حتي انهارت قواه مساء يوم الجمعة المباركة في 28 يناير.
وعادت الحالة المصرية إلي التفكك والانهيار الأمني وعملت طيور الظلام من فلول قوي الأمن المنهار علي بث الرعب بدعم من وسائل الاعلام الضالة والمضللة.
ولكن الشعب المصري سريعا ما استعاد قواه ، واستدعي الصورة الطيبة من تارخه النبيل وبسرعة فائقة استطاع أن يسيطر علي حالته النفسية ليستجمع قواه ضد كل قوي الثورة المضادة التي تملك الاعلام والأموال والبلطجية.
وهنا سطر الشعب المصري أسمي آيات التكامل من خلال لجانه الشعبية التي عملت علي حفظ الأمن واستطاعت أن تسقط السيناريو الثاني من خطة افشال الثورة حيث كان السيناريو الأول هو القضاء الأمني عليها وتفريق المتظاهرين من خلال قنابل الغاز والصعق بالعصي الكهربية والشوم والهراوات والقبض علي الناشطين ،أما السيناريو الثاني فكان سحب الشرطة من أماكن خدمتها وتحطيم السجون واطلاق الخطرين من السجناء و ترويع الناس من خلال بلاغات جنائية كاذبة عبر وسائل الاعلام المضللة لدرجة أصابت العديد بالذعر .
وبعد فشل السيناريو التمثيلي لشق الصف من خلال خطاب الرئيس المخلوع بتفويض نائبه بأعمال رئيس الجمهورية يوم 2 فبراير لتكون أحداث الأربعاء الأسود المسمي بموقعة الجمل التي أطاحت بكل آمال النظام الفاشل وأكدت ضرورة رحيله حتي تم ذلك وحققت الثورة أول أهدافها الكبري وانتقلت ادارة شئون البلاد للمجلس الأعلي للقوات المسلحة وبهذا استمد المجلس الأعلي للقوات المسلحة شرعيته من الشعب، وتسربت روح الثورة من الشعب الي الجيش ، وأصبح الجيش درعا حاميا للثورة والثوار واستطاع أن يجهض كل محاولات الانقلاب وكل محاولات الثورة المضادة من مطالب فئوية وأعمال بلطجة واسنطاع الجيش استعادة الأمن وتحقيق الأمان والاطاحة بحكومة أحمد شفيق وتشكيل أول وزارة ثورية بقيادة عصام شرف.
و المتأمل في دفتر أحوال الثورة يجد أنها مسكونة بحمي التغيير ، خائفة مرتجفة ، وترتجف معها أواصر الوطن ، فلقد أحدثت الصدمة الكبري ، صدمة خلع نظام فاسد ، أفسد معظم العقول ، حتي أن غير الفاسدين هم أولئك الذين - لحسن حظهم- حرمهم النظام السابق من المشاركة في الفساد ، ولهذا فإن الصدمة التي لحقت بهذا النظام الفاسد أفقدت الدولة توازنها، فلم توجد أية دراسات تنبوئية أو توقعات سياسية يمكن أن تشير من قريب أو بعيد إلي حدوث ما حدث ، وهذا ما يجعلها ولأول مرة في التاريخ المصري ثورة لاشعورية ، ولو فكر الثوار قليلا واستخدموا العقل والحسابات الاستراتيجية بصورة واعية ماكان لهذه الثورة أن تنجح .
ولقد حققت الثورة ما يحققه العلاج بالتحليل النفسي ، فحالة الأمة المريضة قد أصبحت بصحة وعافية ، مثلما يحدث للمريض من تجربة حين يصل إلي حقيقة ما تنطوي عليه ذاته من ايجابيات مطمورة وراء الحيل اللاشعورية من قبيل الانكار (انكار العبودية وادعاء الحرية)،(المغالاة في الضحك لمغالبة الحسرة)،والتكوين العكسي(مثل : زيادة الاقبال علي الحجاب في الوقت الذي ترتفع فيه معدلات الزواج العرفي ....) والعديد من الحيل الدفاعية التي تضلل بها الأنا نفسها من قبيل ليس في الامكان أبدع مما كان ، وكانت قد اتجهت بوصلة الأمة إلي المرض النفسي ، فأصبحت أمة معلولة، انخفض تقديرها لذاتها .. فلم تعد جديرة بالوفاء بمسئولياتها تجاه شعبها وتجاه الأشقاء والأصدقاء ،وتهاونت في حقوقها التاريخية في مياه النيل ، وتراجعت رهبتها أمام العدو المتربص وكل معتد أثيم ، تدهورت صحة رعاياها وتراجع مستوى مؤسساتها التعليمية وانتشرت الآفات المجتمعية من انحرافات وادمان وغيرها .. وجلبت لغرفة نومها قلة من المتطفلين الذين استباحوا الأرض والعرض ، وأصبح الأحرار عملاء والأعداء أصدقاء والأخوة غرباء وأبناء الوطن سجناء.
غاب القانون وحل محله قانون المال والسلطة والجاه لدرجة أنك تقتل فتاه لمجرد أنا لا ترغب في سحنتك البهية فتحرض علي قتلها وتساندك المؤسسة التشريعية بفتاوى ودفاعات واجراءات قانونية ملتوية للافلات من عقوبة الاعدام مثلما حدث في قضية مقتل المطربة اللبنانية سوزان تميم ،وفي نفس السياق تحكم المحكمة الادارية العليا ببطلان عقد مدينتي ،ويحدث الالتفاف من كل رموز الفساد المرتشين لعدم تنفيذ الأحكام ، بينما يقتل الشاب خالد سعيد ضربا حتى الموت بلا محاكمة... والعديد والعديد من أمثلة غياب القانون ، ولا ننسى غياب المثال أيضا ، فما من نموذج يحتذي به في كل الرموز الحاكمة ، بل لكي تدخل في زمرة الفاسدين ينبغي أن يرضي عنك المخبرين قبل قوادهم،وقد تشتري أنبوبة لاستنشاق الفساد حتي لا يضيع كل مستقبلك هباء،وهكذا وهكذا ...غاب الوعد الصادق فلم يعد النظام يعد بشيء ووفي به...
ولولا النور الذي جاء من دروب الحرية غير المتوقعة ولولا هؤلاء الفتية الذين آمنوا بربهم وبأنفسهم ما كان الخلاص ،هؤلاء الذين أشعلوا أول ثورة ذكية في تاريخ البشرية ،هؤلاء الذين تعلم معظمهم باللغة الإنجليزية وعرفوا تاريخ الديمقراطية واشكاليات الوجود في سؤال شكسبير علي لسان هاملت :"أكون أولا أكون تلك هي المشكلة".. فأرادوا الوجود وضحوا من أجله بأرواحهم الطاهرة ومالبثوا حتي هرعت إليهم قوي الشعب ، ثم يتسلق علي أكتافهم المهمشين السياسيين أو الذين رفض النظام القديم إلحاقهم بركب الفساد ، لتكتمل الصورة وتستوعب الثورة كل المتناقضات وتنشر في ربوع الأمة ترياق الحرية ليلتئم الشمل ويستعيد الوطن عافيته، وهنا تعيش الأمة المصرية - ولأول مرة - تجربة الذاتية ، وهي التجربة الصادمة التي يقف أمامها العقل متسائلا وماذا بعد ؟ وقد يحاول النكوص للحالة المرضية السابقة ، ولكن هيهات فلقد سقط جدار الحيل المرضية وما من سبيل الآن إلا تأكيد الذاتية وهذا ما يكشف عنه قرار احالة الرئيس المخلوع واسرته للمحاكمة وهذا ما كان يعتبره البعض ضرب من المستحيل وعندما يتحقق المستحيل نكون أمام تجربة الحقيقة القابعة خلف جدار الخوف ولافتات الاستقرار، واحمد ربنا ، وعلشان تتطمن على مستقبل ولادك ، وكل حوائط المرض الحاجبة للحرية حيث توجد الذاتية .. وللموضوع بقية .
|