كان الأسبوع الماضى أسبوعاً لـ«تحرير عبير»، حيث اشتعلت النيران فى كنيستين، وقُتل ١٥ مصرياً فى اقتتال طائفى حقير ومخز. وبدلاً من أن تأخذنا الثورة إلى «مصر الجديدة» التى أردناها جميعاً، فإذا بها تأخذنا إلى «إمبابة»، حيث فتنة طائفية صنعتها أياد خارجية حاقدة، مستخدمة فلول النظام البائد، والكثير من الجهل والفقر وضيق الأفق، وآلافاً من المتعصبين المهووسين من المسلمين والمسيحيين، وميراثاً بغيضاً من الاحتقان والتخلف وعدم التسامح.
انتفض الثوار الحقيقيون، وأخرسوا راكبى الموجة من المتعصبين والمهووسين من الجانبين، وصرخت النخبة الوطنية الشريفة الحقة، مطالبة بعدم الانحراف عن الهدف الحقيقى، وعدم الاستسلام لدعاة الفتنة الجهلاء أو المأجورين، وبدا أن الأمر فى سبيله إلى الاحتواء، والعودة بنا جميعاً إلى جادة الصواب، بعيداً عن مهالك الفتن والدعاوى التخريبية المغرضة.
لكن الأسبوع لم يكد يشرف على الانتهاء، حتى ظهرت دعوة جديدة، تريد أن تأخذ الثورة إلى «تحرير فلسطين»، عبر «مليونية زاحفة»، تستهدف الوصول إلى الحدود مع غزة، لـ«الضغط على العدو الصهيونى ومساندة الأخوة فى فلسطين».
رفع المتظاهرون فى «جمعة الزحف» شعارات منها: «على غزة رايحين.. شهدا بالملايين»، و«اليهود فين.. المصريين أهم»، و«الشعب يريد إسقاط اليهود». وخطب مدعون ومأفونون، من راكبى موجة الثورة، فى الجماهير «النبيلة»، مرتدين مسوح الحكمة، فهددوا أمريكا وإسرائيل بـ«قطع الأيدى»، وأكدوا أن «الجموع فى ميدان التحرير جاهزة للذهاب إلى تل أبيب»، وأن «فلسطين لن تتحرر إلا بمعركة، وسنخوضها عندما نكون جاهزين لها».
لذلك، فقد توزع متظاهرون مصريون أمس الأول الجمعة بين «ميدان التحرير» لتأكيد الوحدة الوطنية، وذهب آخرون إلى «ماسبيرو» للانضمام إلى اعتصام قبطى يطالب بمحاسبة المسؤولين عن واقعتى «صول» و«إمبابة»، فيما تحرك الآلاف إلى سيناء، للمشاركة فى «الزحف» الذى يوافق ذكرى النكبة، وتجمع المئات أمام السفارة الإسرائيلية مطالبين بـ«غلق السفارة وطرد السفير»، وصرح ثوار يساريون بأنهم «قد يستخدمون السلاح دفاعاً عن مدنية الدولة».
«كنا فى جرة وخرجنا لبرة»، ليس هناك أفضل من هذا المثل الشعبى للتعبير عن «فائض الثورة»، الذى بتنا نعانى منه، وأسرفنا فى إنفاقه فى مسارات غير رشيدة، فبعد عقود من السكوت على الظلم والقمع والفساد وتردى الكفاءة، بتنا جميعاً ثائرين، وقادرين على الموت فوراً من أجل «كاميليا» أو «عبير»، فإن لم يكن، فمن أجل فلسطين.
فجأة وجدنا لدينا ملايين الشهداء المحتملين، والقادرين على التضحية بدمائهم، لمناصرة «أخت أسيرة فى دير»، أو لـ«الدفاع عن الصليب»، أو لتحرير «دولة عربية منكوبة»، أو «الحكم بالشريعة وصبغ المجتمع بصبغة الإسلام»، أو «إقامة الدولة المدنية»، أو «صرف الحوافز»، أو «إقالة المحافظ».
لماذا ذهبت الثورة إلى «إمبابة» بدلاً من «مصر الجديدة»؟ ولماذا توزعت على طيف واسع عميق من المطالب، يبدأ من «إصلاح أجور الأطباء» ولا ينتهى عند «تحرير فلسطين» و«قطع يد أمريكا»؟ ولماذا ظهرت كل هذه الوجوه البغيضة، واحتلت تلك المنابر، لتنفخ فى عقول البسطاء جهلاً وغرضاً وخواءً، محاولة سحبنا إلى الفتن وعصور الظلام؟ وماذا يفعل الجيش إزاء تلك التحديات؟
يمتلك الجيش أهدافاً واضحة ومحددة وقابلة للتحقيق والقياس ولديها موارد متوافرة وتوقيتات معلنة، لكنه لا يمتلك طموحاً.
وتمتلك الثورة وجماهيرها العريضة طموحات واسعة لا يحدها حد، لكنها لا تمتلك أهدافاً محددة وقابلة للتحقيق والقياس، وليست لديها موارد كافية لتحقيق تلك الأهداف، ولا توقيتات معلنة لإنجازها وفق مراحلها المختلفة.
الإشكال الذى تعانيه مصر الآن يرجع إلى المناوأة الإقليمية لنجاح الثورة، وتحالفها مع فلول النظام البائد التى مازالت تتمتع بالثروة والنفاذ الاجتماعى والسياسى، إضافة إلى الجهل والفقر والتعصب الذى يشكل مرتعاً خصباً للفتن والانفلات، وبقايا الجسم الأمنى المجرم الفاسد، الذى لا يتورع عن إشعال البلاد، ليعود إلى مكانته ومكاسبه السابقة، أو على الأقل لينتقم ويرد على ما طاله من إذلال وتحقير.
تلك عوامل غاية فى الخطورة حقاً، لكنها لن تكون قادرة على خطف الثورة المصرية أو حرفها عن مسارها الرشيد، إلا إذا تلقت مساعدة من الجيش والثورة وجماهيرها العريضة.
ثمة ثلاثة مخاطر حقيقية على الثورة، تكاد تهدد بدحرها وتفريغها من مضمونها، أولها أن الجيش، وإن كان لديه هدف، فإنه بلا طموح جسور، يحفزه على الإبداع وابتكار الحلول والتحرك بسرعة وحزم وامتلاك زمام المبادرة عوضاً عن تبنى سياسة رد الفعل.
وثانيها أن الثورة، وإن كان لديها طموح جارف وواسع، فإنها بلا أهداف محددة قابلة للتحقيق وفق مراحل منطقية، وثالثها أن الثورة والجيش لم تجمعهما رؤية واحدة تقودهما معاً إلى «مصر الجديدة».
وبسبب هذه المخاطر العارمة الثلاثة، تظهر «خفافيش الظلام»، التى تريد أن تأخذنا إلى «تحرير عبير» أو «تحرير فلسطين»، قبل أن نحرر أنفسنا.