" أبيي" .. عقبة على طريق الانفصال السلمي لجنوب السودان
موقع منطقة آبيي على خريطة السودان
على الرغم من مراحل الاتفاقات المختلفة التي شهدتها كل من حكومة الخرطوم والجيش الشعبي حول قضية "أبيي" الواقعة بين شمال وجنوب السودان وتمتعها برعاية بعثة الأمم المتحدة "يونميس"؛ إلا أنها ما زالت تمثل منطقة نزاع تشهد بين الحين والآخر نزاعات مُسلحة تنذر بنشوب حرب بين جنوب السودان وشماله ، خاصة مع اقتراب الموعد الذي سيتم فيه رسميا انفصال الجنوب عن الشمال في 9 يوليو القادم ليتحول هذا النزاع إلى عقبة أمام الانفصال بشكل سلمي.
وتثير أبيي مخاوف كثيرة في السودان ؛ حيث يغذيها فقر سكانها والخلافات التاريخية القائمة فيها بين قبائل "دينكا نقوك" في جنوب أبيي وبدو قبيلة "المسيرية" في شمالها والثروات النفطية التي تحويها هذه المنطقة الواقعة عند الحدود بين جنوب السودان وشماله.
وقد شكل الهجوم الذي نفذه الجيش الشعبي في 19 مايو 2011 على عدد من آليات القوات السودانية وبعض قوات البعثة الأممية المشتركة في منطقة أبيي مفاجأة للجميع، والذي يأتي رغم اتفاق المسئولين الحكوميين في الخرطوم مع نظرائهم من الحركة الشعبية في اتفاقية "كادوقلي" قبل أقل من شهرين على المحافظة على منطقة أبيي وترك إدارتها للشرطة والقوات المشتركة خاصة في الوقت الذي لم يعلم أحد بعد بدوافع الجيش الشعبي في هجومه.
فمن جانبها قالت قيادة القوات المسلحة في الخرطوم إنها "تحتفظ بحق الرد في حينه" رغم ما فقدته من عناصر، واعتبرت أن منطقة أبيي تعيش حالة حرب أكيدة يصعب فيها جمع البيانات أو تحديد عدد الضحايا والمفقودين، بينما أبدى جنرالات سابقون دهشتهم للهجوم وطالبوا وزير الدفاع الفريق عبد الرحيم محمد حسين بالاستقالة من منصبه وإفساح المجال لمن هو أقدر منه على معالجة ما سمّوه خروقات الجيش الشعبي واعتداءاته.
أما بعثة الأمم المتحدة في السودان فقد أدانت الهجوم على القافلة واعتبرت أن هذا الفعل يُشكل خرقا خطيرا للاتفاقات السابقة المُبرمة بين الطرفين بل هو أيضا هجوم جنائي ضد الأمم المتحدة"، داعية الأطراف المختلفة إلى التحقيق الفوري في الحادث واتخاذ الإجراءات المناسبة ضد مرتكبي هذا الهجوم المُتعمد، وقالت إنها ما زالت مُستعدة لمواصلة مساعدة الأطراف على تنفيذ اتفاق "كادوقلي" وحثهم على بذل كل جهد ممكن للبقاء على الطريق الصحيح في تنفيذ هذا الاتفاق وتجنب أية أعمال من شأنها أن تعرقله.
وفي أعقاب اندلاع مواجهات عنيفة وسقوط قتلى وجرحى في اشتباكات قبل انتخابات ولاية جنوب كردفان المتاخمة لجنوب السودان ودارفور أقرت اللجنة المشتركة بين "المؤتمر الوطني" و "الحركة الشعبية" سحب جميع القوات من منطقة "أبيي" وإنشاء لجنة فنية بمُشاركة الأمم المتحدة للمُراقبة والتحقق من تنفيذ قرارات إعادة نشر القوات.
وقد خلصت اللجنة الدائمة لأبيي والمكونة من الشريكين والأمم المتحدة في اجتماعها بمقر قوات حفظ السلام الدولية "يونميس" إلى ضرورة تنفيذ "اتفاق كادوقلي" السابق الموقع في يناير الماضي و "اتفاق أبيي" الموقع في 4 مارس، كما اتفق الطرفان على السماح للجنة الفنية والأمم المتحدة بحرية الحركة وعدم إعاقة عملياتها ؛ حيث تتكون اللجنة من قيادة مشتركة من القوات المسلحة والجيش الشعبي إلى جانب ضباط أمن وشرطة وخدمات من كل طرف وعلى رأسها نائب قائد قوات "يونميس" .
واتفق الطرفان على لقاء اللجنة الفنية المشتركة في أبيي في 18 أبريل الماضي ، كما وافقا على أن يخاطب كل منهما قبائل "المسيرية" و "دينكا نقوك" لاختيار قيادات قبلية وعقد لقاء برعاية الامم المتحدة لبحث سبل الانتقال والحركة وقد رحبت "يونميس" بالاتفاق وأكدت في بيان لها استعدادها لرعاية الاتفاق وتقديم العون اللازم.
أبيي ودستور الجنوب الجديد:
تطالب مسودة الدستور الجديد لجنوب السودان الذي سيبدأ العمل به عندما تستقل المنطقة في التاسع من يوليو المقبل بضم أبيي إلى الجنوب السوداني، وكذلك منح الرئيس سلفا كير فترة ولاية جديدة مدتها أربع سنوات وهو ما أثار غضب المعارضة السياسية.
وعلى صعيد ردود فعل تضمن نص دستور جنوب السودان الجديد بالمطالبة بـ "أبيي" علق الرئيس السوداني عمر حسن البشير اعترافه بجنوب السودان كدولة مستقلة في حال استمرار الجنوب في محاولاته بضم منطقة أبيي الحدودية بين الشمال والجنوب والمُتنازع عليها؛ حيث قال البشير أمام جمع من الجماهير في ولاية كردفان الجنوبية: "إنه إذا كانت هناك أية محاولة لفصل أبيي بحيث تكون داخل حدود الدولة الجديدة فلن يعترف الشمال بهذه الدولة".
وحذر البشير من قبل من أن الأمر سيأخذ منحى آخر إذا حاول الجنوب فرض أمر واقع بشأن أبيي، مؤكدا رفضه لأي حل يقضي بضم ابيي إلى الجنوب واستعداده لخوض حرب لأجل هذا الهدف.
وأضاف .. "نحن لن نقبل فرض أمر واقع، وإذا حاولوا فرض أمر واقع في أبيي والادعاء بقرار منهم أنها جنوبية فنحن سنقرر أنها شمالية إلى أن يتم حسمها عن طريق الاتفاق بين الطرفين".
كما أكد حزب "المؤتمر الوطني" الحاكم فى السودان رفضه القاطع لأية إشارة ترد في الدستور الانتقالي لدولة جنوب السودان المُرتقبة بتضمين منطقة "أبيي" أو اعتبارها ضمن حدود الجنوب ، وهدد بإعادة النظر في قرار الاعتراف بدولة الجنوب في يوليو القادم حال النص على ذلك في الدستور.
من جانبه صرح مسئول أبيي في المؤتمر الوطني "الدرديري محمد أحمد" بأن تضمين مشروع دستور دولة جنوب السودان نصا يجعل منطقة أبيي جزءا من دولة الجنوب يعد خرقا لاتفاقية السلام الشامل وتجاوزا لاستفتاء تقرير المصير لجنوب السودان والذي ينص على أن جنوب السودان هو ما يقع جنوب حدود يناير 1956 ، وأن المؤتمر الوطني لن يقبل هذا النص ولن يعترف بهذا التجاوز وسيعيد النظر في الاعتراف بدولة الجنوب المتوقع إعلانه في التاسع من يوليو في حال إصرار الجنوب على تضمين هذا النص في دستوره.
أبيي .. منطقة سودانية لها وضع خاص ضمن اتفاقية السلام الشامل بين حكومة السودان والحركة الشعبية لتحرير السودان ؛ فقد كانت تابعة لولاية غرب كردفان التي تم حلها بعد توقيع اتفاق السلام وسكانها مزيج من قبائل "المسيرية" العربية وقبيلة "دينكا نقوك" الزنجية ، وهي تعد جسرا بين شمال السودان وجنوبه ، وأصبحت تبعية هذه المنطقة الغنية بالنفط محل نزاع بين الحكومة والحركة الشعبية، ويرى المحللون أن هذا الصراع يمكن أن يقود البلاد مرة أخرى إلى حرب أهلية.
وتقاتل الشمال والجنوب طوال الوقت باستثناء بضع سنوات منذ عام 1955 بسبب خلافات عرقية وفكرية ودينية ومنازعات على النفط وأودى الصراع بحياة 1.5 مليون ونصف مليون شخص على الأقل وزعزع استقرار المنطقة ؛ حيث هدمت المدينة بالكامل في مايو 2008 خلال معارك جرت بين الجيش السوداني والمتمردين الجنوبيين السابقين وشكلت أكبر خطر على اتفاق السلام الموقع في عام 2005.
ويدور الخلاف بين شمال السودان الذي تسيطر عليه حكومة الخرطوم وجنوبه الذي يتمتع بحكم ذاتي حول ترسيم حدود منطقة ابيي.
وعلى إثر مواجهات مايو 2008 رفع شمال وجنوب السودان خلافهما إلى محكمة التحكيم الدائمة في لاهاي للبت فيه، ويفترض أن تحدد هذه المحكمة بحلول 23 يوليو ما إذا كانت اللجنة السودانية التي قامت بترسيم الحدود في منطقة أبيي تتجاوز تفويضها.
وإن تبين التزام اللجنة بتفويضها فسوف يتم تثبيت الحدود التي رسمتها، بينما إذا حدثت تجاوزات في هذا التفويض فستتولى محكمة لاهاي ترسيم حدود أبيي. وقال "اروب موياك" حاكم المنطقة إن السكان هنا قلقون ويخشون أن ترد الجهة الخاسرة بشكل سلبي على قرار المحكمة.
ومما يزيد من حدة المخاوف الرهانات الاقتصادية والسياسية الكبرى التي تنطوي عليها مسألة أبيي ؛ حيث يرغب الجنوبيون في ضم أكبر مساحة مُمكنة من أراضي أبيي النفطية، فيما يسعى الشمال للاحتفاظ بهذه الموارد الثمينة.
سكان أبيي:
من أبرز المشكلات التي تعوق تنفيذ أي اتفاق أو تحكيم دولي حول أبيي هو التقسيم العرقي للمنطقة ؛ حيث يحوي سكانها مزيجا من قبائل "المسيرية" العربية وقبيلة "دينكا نقوك" الزنجية.
المسيرية:
تنتمي قبيلة المسيرية السودانية إلى جذور عربية من جهينة التي كانت تقطن المنطقة الغربية لجنوب كردفان واشتهرت برعي الأبقار وقد قدموا للسودان من تونس عن طريق تشاد بحثا عن المراعي الجيدة والمناطق الآمنة وقد ساهم اعتزازهم بأصولهم العربية في احتفاظهم بالكثير من العادات الاصيلة مثل ولعهم بالفروسية وركوب الخيل، وتنقسم قبائل المسيرية إلى فصيلين: المسيرية الحُمر، والمسيرية الزرق، ويضم كل فصيل عدة قبائل تتفرع بدورها إلى عشائر، وتتميز جميعها بالتجوال حيث تنطلق المسيرية مع أبقارها من شمال كردفان إلى جنوبها وبالعكس ويكون ذلك في أواخر شهر يونيو هربا من الذباب في الجنوب وهطول الأمطار بشدة، ويمكثون في الشمال حتى شهر سبتمبر وهذه الفترة يسمونها (المخرف) نسبة إلى فترة الخريف ويقضون فيها وقتا ممتعا؛ حيث انتعاش الاسواق بالمدن القريبة مثل بابنوسه، أبو زبد، رجل الفولة، وحتى سوق مدينة الأبيض وما بين شهري أكتوبر ويناير تستقر مجموعات كبيرة من المسيرية الزرق بالقرب من المدن والمسيرية الحمر بالقرب من مدن أخرى.
دينكا:
قبيلة الدينكا هي مجموعة عرقية في جنوب السودان. موطنها الأصلي يتوزع بين منطقة بحر الغزال وولاية "جونجلي" ومناطق من ولاية جنوب كردفان وولاية أعالي النيل.
ويشتغل غالبية الدينكا بالرعي والزراعة حيث يعتمدون على رعي قطعان الماشية في مراع قريبة من الأنهار خلال موسم الجفاف، وفي موسم الأمطار يقومون بزراعة الدخن وأنواع مختلفة من الحبوب، ويبلغ تعدادهم حوالي 1.5 مليون ونصف مليون نسمة - أي 4% تقريبا من مُجمل سكان السودان، وهي أكبر مجموعة عرقية في جنوب السودان. تنحدر قبيلة الدينكا من فروع الشعوب النيلية وتتحدث باللغات النيلية وهم من أكثر الأفارقة سمرة وطولا.
لا يملك الدينكاويون سلطة تنفيذية مركزية، ولكن عوضا عن ذلك أسسوا نظما عشائرية مستقلة ومترابطة في الوقت ذاته، وعلى رأس كل قبيلة قائد أو سلطان يسمى (بيني).
تسمى لغتهم بالدينكاوية أو (تونقيانق) "بادغام النون والقاف" ومعناها (الناس) أو (القوم). وتتفرع من اللغات (لغات نيلية صحراوية) وتكتب بالأبجدية اللاتينية مع بعض الإضافات.
تنقسم قبيلة الدينكا إلى عشرة فروع "اتوت- الياب أو عالياب - بور - شيق - اقار - قوك - ريك - تويق - ملوال - الدينكا نقوك" أكبرهم هم الملوال ويقدر عددهم بمليون نسمة.
ترتبط هجرات الدينكا بالظروف المناخية المحلية، ويتجاوب نمط حياتهم الزراعي والرعوي مع مواسم الفيضان والجفاف بالمناطق التي يعيشون بها. يبدأون ترحالهم بين شهري مايو ويونيو عند بداية موسم الأمطار إلى بيوت مصنوعة من الطين والقش في مستعمرات بنوها بعيدا عن مناطق الفيضانات، ويقومون فى هذه الفترة بزراعة الدخن وغيره من الحبوب.
أما فيما يتعلق بالمعتقدات الدينية والثقافية فقد ينعكس نمط معيشة الدينكا على معتقداتهم وممارساتهم الدينية، ويؤمنون بإله واحد يدعى (نيال) أو (نياليك) يعتقدون أن روحه تتقمص الأفراد ليتحدث من خلالهم، وتهيمن حاليا الديانة المسيحية على ثقافة الدينكا؛ حيث انتشرت إبان الانتداب البريطاني للمنطقة في القرن التاسع عشر وفي فترة الحرب الأهلية.
يعيش الكثير من الدينكا في بلاد المهجر، على سبيل المثال في مدينة جاكسونفيل بولاية فلوريدا. وفي كلاركسون إحدى ضواحي أتلانتا بولاية جورجيا، وفي مقاطعة أدمونتون الكندية.
من أعلام الدينكا "وليام دينق نيال" مؤسس الاتحاد الوطني الإفريقي السوداني وشخصية قيادية خلال حرب التحرير الأولى ضد الحكومة في الخرطوم، و "جون قرنق" النائب الأول السابق لرئيس الجمهورية والقائد العام الجيش الشعبي لتحرير السودان ورئيس الحركة الشعبية لتحرير السودان. و "ابيل الير كواي" نائب رئيس الجمهورية في سبعينيات وثمانينيات القرن المنصرم، والجنرال "سيلفا كير ميارديت" خليفة الراحل جون قرنق كنائب أول لرئيس الجمهورية ورئيس لحكومة الجنوب والقائد العام الجيش الشعبي لتحرير السودان ورئيس الحركة الشعبية لتحرير السودان، و "فيكتوريا يار ارول" وهي سياسية وعضو في البرلمان، وناشطة نسائية وأول جنوبية تحصل على شهادة جامعية.
رغم أن الشواهد تدل على أن "أبيي" هي برميل بارود أو قنبلة موقوتة تهدد مسيرة السلام السودانية فإن الأمل ما زال موجودا في انتصار روح السلام وابتعاد نذر الحرب عن منطقة طالما عانت من ويلاتها. ولعل زيارة "سيلفا كير ميارديت" رئيس حكومة الجنوب والقائد العام للجيش الشعبي لتحرير السودان إلى الخرطوم ولقائه مع الرئيس السوداني "عمر حسن أحمد البشير" تكون بادرة جيدة لاستبدال الحوار بالكلمات بدلا من طلقات المدافع. فبالفعل أعلن الجيش السوداني وقف عملياته في "أبيي" ووقف مطاردة بقايا جيش الجنوب الذين هاجموا قوات الجيش الحكومي. وهذا ربما يُهدئ من الأمور ويعطي فرصة للساسة لكي ينجزوا بقية ما بدأوه من مسيرة سلمية .**