والله ما شاهده العالم على الفضائيات وما سمعه من وكالات الأنباء عن استهانة النظام السوري بكرامة مواطنيه واعتدائه على روحهم قبل أجسادهم، يفوق في بشاعته أفظع الأساليب التي اتبعها أعتى المجرمين من اليهود الصهاينة في تعاملهم مع الفلسطينين.
بل أسمح لنفسي وبكل أسى، أن أقول بأن معاملة العدو الإسرائيلي، لم تنحدر- في جانبها الأخلاقي- إلى المستوى المتردي الذي تعاملت به قوى الأمن السورية مع المتظاهرين الذين لم تتجاوز مطالبهم في البداية تحقيق الحرية والعدل والإصلاح.
وليس أدل على ذلك من المشهد الشهير الذي بثته الفضائيات ومواقع على النت، الذي أثبت دون أدنى شك صدق هذا القول، حيث يظهر جنود النظام وهم يركلون عدداً من المعتقلين الذين طرحوهم أرضا على بطونهم .. ويصرخون في وجوههم قائلين:
هذه (الركلة) من أجل الحرية التي تريدونها ..
وهذه من أجل الديمقراطية التي تطالبون بها ..
وهذه مقابل مناداتكم بإسقاط النظام ..
ثم يُظهر المشهد الجنود وهم يعتلون ظهور المعتقلين ويقفزون في الهواء ثم يهبطون على ظهور الضحايا بكل قسوة ووحشية عدة مرات وهم يضحكون ويقهقهون.
ولم يكتف الجند بذلك .. وإنما عادوا تسديد ركلاتهم المروعة نحو رءوس المعتقلين وخاصراتهم بوحشية لا مثيل لها .. ثم ينهون جرمهم البشع بالتقاط صورة تذكارية وهم يعتلون ظهور ضحاياهم (المبطوحين) أرضاً على وجوههم وبطونهم.
هذا المشهد المروع الذي ما زال يعلو في قسوته ووحشيته كل الجرائم التي ارتكبتها قوات الأمن والجيش السوري بحق المدن والقرى والبلدات السورية، بدئا بدرعا وانتهاء بالمدن والقرى الواقعة على الحدود مع تركيا .. يدفعنا للتساؤل عما إذا كان النظام السوري قد أعد مسبقاً كتائب خاصة تضم هذا النوع القميء من البشر لمواجهة أي خروج على النظام كالحالة التي تمر بها سوريا اليوم؟.
ليس من شك أن هذا السلوك الوحشي المشين، لا يمكن أن يصدر إلا عن فئة ضالة من المخلوقات التي "يعشش" في صدورها كم هائل من الحقد على كل من يحاول تغيير النظام السوري الراهن، اعتقاداً منها بأن أي مساس بهذا النظام يعني- بالنسبة لها- الاضطهاد إن لم يكن الهلاك.
والسؤال الملح هنا هو : ما الدافع لهذا "الحقد" الذي تقذف به هذه الثلة من الجنود أرواح إخوانهم من المتظاهرين السوريين قبل أجسادهم، والذين لم يرتكبوا بحق النظام سوى مطالبته بالرحيل بعد أن أبدى تسويفاً مريبا نحو إدخال الإصلاحات التي يطالبون بها، وبعد أن أعملت قوات الأمن فيهم القتل والإرهاب والإذلال في محاولتها قمع المظاهرات؟.
ليس هناك من تفسير منطقي سوى أن أفراد هذه الثلة ومن شابههم قد أُعِدُّوا- مسبقاً- للقيام بهذا الدور القذر، تماما كما فعل الراحل حافظ الأسد حين أمر أتباعه بقصف مدينة حماه براجمات الصواريخ وقذائف المدفعية في الربع الأخير من القرن الماضي، وأودى- آنذاك- بحياة ما لا يقل عن عشرة آلاف شهيد بحسب أقل التقديرات إضافة لتدمير نحو ثلثي المدينة.
ليس من شك أن ثمة معايير وضعت بشأن اختيار عناصر هذه المجموعات، وأغلب الظن أن أهم معيار فيها .. أن يكون العنصر الذي يقع عليه الاختيار متمثلاً آلياً ضرورة التنكيل بأي مواطن يعارض النظام الراهن وقتله إذا لزم الأمر.
وغرس هكذا قناعة في نفس أي فرد لا يتم إلا بدافع من اثنين: فإما أن يكون قد خضع لعملية غسيل مخ لم تبق فيه إلا ما يريده النظام، وإما أنه على درجة كبيرة من التطرف الطائفي الذي لا يرى في الآخر سوى عدواً أزلياً.
واستباقاً لما قد يساء فهم ما أقول، أسجل هنا إيماني بأن الطائفة العلوية في سوريا، لم يصدر عنها- طوال تاريخها المعاصر (على الأقل)- ما يشير إلى اتخاذها مواقف تتصف بالطائفية، فهي كانت دوما ملتزمة بوحدة سوريا الوطنية، شأنها شأن جميع الطوائف الأخرى.
فإذا حدث أن خرج أحد على هذا الواقع خلال الأحداث التي تجري حالياً في سوريا، فهذا لا يمس الطائفة العلوية لا من قريب ولا من بعيد، وإنما يمس النظام الحاكم الذي درج على استقطاب مثل هذه العناصر وأشباهها من المنتفعين درءاً لما يتوقعه من معارضة. فليس من شك أن النظام الحالي قد استثمر الفئات الضالة التي تربت على الحقد والكراهية للآخر لأبعد مدى، حيث قامت بتدريبهم على استخدام أبشع أساليب التعذيب والتنكيل في التعامل مع المتظاهرين الذين يطالبون بإسقاط النظام.
والواقع أن الجرائم التي ارتكبتها مثل هذه الثلة الضالة من الجنود وقوى الأمن التي يصفها المتظاهرون بـ"الشبيحة"، تعطي انطباعاً بأن النظام الذي ساد سوريا في عهدي الراحل حافظ الأسد ونجله بشار، لم يتورع من العمل على إقناع بعض الشباب من العلويين بالانضمام لكتائب خاصة هدفها الدفاع عن النظام والمحافظة على الطائفة العلوية لتظل القوة السائدة في البلاد، كما عمل على تجنيد عناصر من طوائف أخرى عن طريق إغرائهم بالمال والنفوذ.
ومما يؤكد هذا القول أنه بالرغم مما جاء في الخطاب الثالث للرئيس بشار الأسد من وعود وردية بالإصلاح السياسي والاقتصادي والاجتماعي، غير أن الأسلوب القمعي ضد المتظاهرين في مختلف المدن والبلدات والقرى والضياع السورية ظل الوسيلة المرادفة والوحيدة التي يتعامل بها النظام مع المواطنين، الأمر الذي لم يترك أمام الشعب السوري أي خيارٍ سوى العمل على إسقاط النظام، والمطالبة برحيل الرئيس بشار وأعوانه.
فدماء السوريين الذين قضوا نتيجة إطلاق "شبيحة" النظام وقوى الأمن الرصاص الحي على المتظاهرين المطالبين بالحرية والعدل والإصلاح، والذين زاد عددهم عن 1300 شهيداً .. باتت حاجزاً فولاذيا يفصل بينه وبين الشعب .. يصعب على أي وساطة اختراقه.
كما أن الوعود التي يطلقها ومراسيم العفو عن السجناء والمعتقلين التي يصدرها، سرعان ما تُذهبها رياح العنف والبطشح المقرونة بـ "الاستهبال" و"الاستخفاف" بعقول البشر، والتي يعتقد النظام أنها ما زالت تخال على الشعب السوري الطيب.
والشيء المؤكد الذي لا يريد النظام أن يفهمه، هو أن صبر الشعب السوري على ظلمه وبطشه لم يكن بدافع الخوف أو التهاون أو الضعف، وإنما كان تحسباً للمواقف الصعبة التي فرضها القدر على سوريا بحكم موقعها الجيوسياسي أولاً، ودعماً لادعاءات النظام بأن ما يعانية الشعب من كبت للحريات وشح في دخل الأسر إنما هو لصالح الجهود التي يبذلها من أجل تحرير الجولان ثانيا، وكذلك ادعاءاته بأنه المحافظ على الثوابت القومية للأمة العربية ثالثاً !!!.
لذلك فإن احتماء النظام وراء قدر سوريا أن تكون في واجهة الخطر الصهيوني، لتبرر الأخطاء التي يرتكبها بحق الشعب السوري .. لم يعد يجدي. ذلك أن النظام البوليسي القمعي الذي يدعي أنه ضروري لمواجهة المؤامرات الخارجية قد ارتد إليه، حيث لم يحاول حتى مجرد تسخين الجبهة مع العدو في الجولان المحتل منذ حرب 73 وحتى اللحظة، ليشعره بأنه لن يهناً باحتلاله هضبة الجولان والأراضي العربية الأخرى.
فالشعب السوري والشعوب العربية والإسلامية الأخرى لن تنسى القانون الجائر الذي أصدره الراحل حافظ الأسد، بإعدام كل من يثبت أنتماؤه لتنظيم الإخوان المسلمين (وتطبيقه بأثر رجعي) بدعوى أن هذا التنظيم يعيق جهوده من أجل تحرير الجولان. كما لم تنسى أن نجله بشار لم يقم بإلغائه منذ تسلم الحكم قبل أكثر من عشر سنوات وحتى بداية المظاهرات الاحتجاجية، ما يدل على طغيان هذا النظام واستبداده وانحرافه هو جزء متأصل في تكوينه.
هنا .. لا بد أن يكون زعماء الطائفة العلوية على وعي بهذه الحقائق، وعليه فإن من المؤمل أن يجاهدوا من أجل التخلص من نفوذ هذا النظام عليهم وعلى عشائرهم وأبنائهم، وأن ينبذوا القادة العلويين الذين استطاع نظام الأسد استقطابهم عن طريق إغراقهم بالمال والجاه والسلطان. فعائلة الأسد ستظل محسوبة على الطائفة العلوية شاءت أم أبت، الأمر الذي يدعو زعماءها للمبادرة فوراً بالتخلي عن بشار وزمرته، والمطالبة بإسقاطه ونظامه.