أكبر أبناء محمد علي باشا[ر] كان قائداً عظيماً ووالياً على مصر، ولد نحو عام 1789م في قَوَلة وهي ثغر صغير على حدود مقدونية وتراقية وكان أثره مهماً في تاريخ مصر في عهد أبيه، فقد كان يلقب بيد محمد علي الحربية لما كان لأعماله الحربية من أثر في نجاح سياسة والده.
لما توطد مركز محمد علي في مصر أرسل في طلب ولديه إبراهيم وطوسون من موطنهما سنة 1805م واستدعى فيما بعد زوجته وأولاده الصغار، وهم إسماعيل وشقيقتاه سنة 1809. لم يكن إبراهيم قد أتم السابعة عشرة من عمره حينما عينه والده على قلعة القاهرة، ثم أرسله سنة 1806 رهينة لقاء الخراج الذي وعد الدولة العلية به وتوكيداً لإخلاصه، فرده الباب العالي بعد سنة نظير خدمات أبيه وإعراباً عن نجاح محمد علي في هزيمة حملة الجنرال فريزر الإنكليزية على مصر عام 1807.
تعلم إبراهيم في مصر، وعاش في وسط عربي بحت، وقرأ تاريخ
العرب وثقافتهم، مع ما تلقنه من مبادئ العلوم والفنون، وخالط الرجال في مجالسهم وعاش صريحاً جاداً مترفعاً عن الدنايا محباً للنظام.
وكان إبراهيم ذا هيبة ويقظة دائمة، حاد المزاج، سريع الغضب، يضرب لجنوده المثل بنفسه في البسالة وخوض الغمرات وكان يتكلم اللغات التركية والعربية والفارسية.
وفي عام 1816 أرسله أبوه إلى الجزيرة العربية، ولما يتجاوز السادسة والعشرين من عمره، بغية الوصول إلى نتيجة حاسمة في الحرب مع الوهابيين، بزعامة الأمير عبد الله بن سعود بن عبد العزيز بن محمد، التي كان يخوضها أخوه طوسون من 1811-1813م امتثالاً لأوامر السلطان العثماني محمود الثاني[ر].
اتخذ إبراهيم من «الحناكية» مركزاً يوجه منه هجومه على الوهابيين، واعتمد إبراهيم في سياسته هناك على ولاء القبائل التي سيجتاز بلادها إلى نجد، لتأمين طريق الحملة، فأحسن معاملتها، ومنع جيشه أن يأخذ شيئاً من دون دفع ثمنه، فخضعت له القبائل إلا أقلها.
حاصر إبراهيم باشا الرسّ جنوبي القصيم واستولى عليها ثم زحف إلى عنيزة فاستسلمت واقتحم بريدة عنوة، ثم حاصر الدرعية في 6 نيسان سنة 1818، واستمر حصارها خمسة أشهر وبضعة أيام، وفي 19 أيلول 1818 استسلم عبد الله بن سعود، فأرسله مع أفراد أسرته إلى مصر وانتهت الحرب.
عمل إبراهيم على كسب ود القبائل التي حاربته، فأعلن الأمان وأغدق المال على من انضم إليه، ورد النخيل الذي كان قد صادره إلى أصحابه، وكان لحسن لقائه وسعة صدره وكرمه أثر إيجابي بالغ.
وعني بتحصين المواقع الحربية المهمة في البلاد ووضع في الوقت نفسه أساس الإصلاح الزراعي، فأمر بحفر الآبار، وعني بتنظيم التموين في مكة والمدينة، وحرص على توفير الأمن على طريق الحج، وعلى توزيع مرتبات من الغلال على فقراء الحرمين والمجاورين، ونال في أثناء ذلك لقب الباشوية من السلطان العثماني.
عاد إبراهيم مظفراً إلى القاهرة في كانون الأول سنة 1819، وبعد ذلك بقليل ولاه السلطان على جدة، وفي غضون ذلك ناط محمد علي بابنه الثالث إسماعيل فتح بلاد السودان للكشف عن مناطق الذهب المعروفة، وجلب الجنود لتأليف جيشه الجديد منهم. واضطر إلى إرسال ابنه إبراهيم إلى السودان بإمدادات عسكرية لدعم أخيه، ولكنه سرعان ما عاد إلى القاهرة لمرض أصابه في أوائل عام 1822م حيث اشترك في تدريب الجيش الجديد الذي تألف من المصريين العرب، ووكل أمره إلى الكولونيل سيف Séve (سليمان باشا الفرنساوي) الذي ساعد إبراهيم في حروبه اللاحقة في اليونان والشام.
وفي أوائل عام 1824 كُلف إبراهيم باشا القضاء على الثورة في اليونان، فانطلق على رأس جيش قوي مدرب يحمله أسطول مؤلف من 51 سفينة حربية و146 ناقلة جند بحرية، ونزل في شبه جزيرة المورة، فاستولى على نافارين ودخل تريبولتزا Tripolitsa وفي أيلول 1825 تمكن من إخضاع المورة بأكملها والتفت إلى معاونة العثمانيين في حصار ميسولونجي Missolonghi فسقطت في نيسان 1826، وبذلك فتح الطريق إلى أثينة التي سقطت في تموز من العام نفسه، وتدخلت الدول الأوربية الثلاث إنكلترة وفرنسة وروسية وعقدت معاهدة لندن (تموز 1827) وفرضت الهدنة وأصبحت أساطيل الحلفاء خارج مياه خليج نافارين التي كان يرابط فيها الأسطولان المصري والعثماني.
وانتهز أمير البحر الإنكليزي كودرنغتون Codrington فرصة غياب إبراهيم باشا فدخلت سفنه مع السفن الفرنسية والروسية مياه نافارين، وكان بمقدور أمير البحر المصري أن يحول دون دخولها باستخدام مدفعية أسطوله المسيطرة على مدخل الخليج والبطاريات المنصوبة على البر، ولكنه تمسك بالهدنة المتفق عليها، وأصر مع زميله أمير البحر العثماني على أن لا يكون العدوان من جانبهما، ونشبت معركة نافارين (20 تشرين الأول 1827) التي دامت أربع ساعات، ودمرت أساطيل الحلفاء المتفوقة الجزء الأكبر من الأسطولين المصري والعثماني، وقررت الدول المتحالفة الثلاث في تموز 1828م إبعاد إبراهيم عن المورة، وتكليف فرنسة إجراء الاتصالات لتنفيذ القرار، ووصل إبراهيم الإسكندرية في تشرين الأول 1828 مع 24 ألف جندي حملتهم 26 سفينة حربية و21 ناقلة هي كل ما بقي من أسطوله بعد نافارين.
ولما كان محمد علي يدرك أهمية بلاد الشام الاستراتيجية والاقتصادية فقد حاول عبثاً إقناع السلطان بتقليده حكمها، ولقد طلب فعلاً من السلطان، أيام الحرب السعودية، أن يعهد إليه بولاية الشام متذرعاً في ذلك بحاجته إلى المدد منها للمعاونة في القتال. لكن الحرب السعودية وفتح السودان صرفاه مؤقتاً عما يريد، حتى تجدد عزمه على المطالبة بولاية الشام بعد الحرب اليونانية، ولما أخفقت مساعي محمد علي في إقناع السلطان بتقليده حكم سورية، تذرع بمعاقبة والي عكا، عبد الله باشا الجزار لامتناعه عن وفاء دين سابق مترتب عليه لمصر، وعرقلة وصول أخشاب الشام إلى مصر، وحماية المصريين الفارين من الجندية، فندب ولده إبراهيم باشا لقيادة الحملة الموجهة إلى بلاد الشام في 29 تشرين الأول 1831، وقدرت قوتها بحدود 30 ألف مقاتل مع عمارة حربية تقارب 35 سفينة حربية وسفن إمداد، وتحركت القوات البرية باتجاه سيناء فبلغت العريش واحتلت خان يونس ثم غزة ويافا (8 تشرين الثاني 1831) وفي 26 تشرين الثاني 1831م ضرب الحصار على عكا بعد وصول العمارة الحربية المصرية.
انقضت ثلاثة أشهر من غير أن ينال من المدينة منالاً، ولكن إبراهيم استغل هذه المدة والحصار قائم في احتلال المواقع المهمة في ولاية صيدا (وقاعدتها يومذاك عكا) وما حولها، فاحتلت قوة من جنوده صور وصيداء وبيروت وطرابلس، واحتلت قوة أخرى القدس، وداخل القلق السلطنة من أعمال محمد علي، فحشدت جيشاً من عشرين ألفاً بقيادة عثمان باشا، وانتصر إبراهيم باشا على الجيش العثماني في معركة الزرّاعة بين حمص وبعلبك في 14 نيسان 1832م ثم عاد ليشدد الحصار على عكا، فسقطت في يده في أواخر أيار ودخل دمشق في 16 حزيران وجعلها مقر حكومة أبيه في الشام، ثم انتصر ثانية عند حمص على طلائع الجيش العثماني، ودخل حمص وحماة، وزحف على المواقع العثمانية في مضيق بيلان حيث تحصن حسين باشا قائد الجيش العثماني، وهناك وقعت المعركة الحاسمة بين إبراهيم باشا وحسين باشا (30 تموز 1832م) وانتهت بهزيمة منكرة للجيش العثماني وقائده حسين باشا الذي هرب على إثرها، ومضى إبراهيم في الزحف فاحتل الإسكندرونة وبانياس وسُلمت له أنطاكية واللاذقية، ولم يلبث أن احتل أضنة وأورفة وعينتاب ومرعش وقيصرية، وانتصر في قونية على الجيش العثماني وأسر قائده
الصدر الأعظم رشيد باشا، وغدا الطريق إلى العاصمة اصطنبول مفتوحاً أمام قوات محمد علي بفضل تفوق الجيش المصري ومستواه العسكري الممتاز، وبفضل مواهب إبراهيم باشا القيادية، ولما وصل إبراهيم كوتاهية في أيار 1833 تلقى أمراً من أبيه بالتوقف، لتهديد الدول الأوربية بالتدخل.
عُقدت معاهدة كوتاهية بين الباب العالي ومحمد علي، نال فيها الأخير حكم بلاد الشام وأضنة، ومنح إبراهيم لقب محصل أضنة، وبذلك دخلت الشام في حكم الدولة المصرية، وصار إبراهيم باشا حاكماً عاماً للبلاد السورية معيناً من قبل والده، إضافة إلى تجديد ولايته على جدة من قبل السلطان.
انصرف إبراهيم باشا إلى تنظيم البلاد ساعياً إلى تجديد أحوالها وتحديثها في جميع المجالات الإدارية والاقتصادية والمالية وقامت سياسته على مبدأ المساواة في الدين والمساواة أمام القانون كما حاول أن يدير بلاد الشام على أنها قطر واحد يسكنه شعب واحد، فاصطدم بالفروق والخلافات القائمة بين الطوائف، وتفاقم الخطب حين عمدت بريطانية وروسية والدولة العثمانية إلى تغذية القلق والاستياء بالدس وتحريض الناس للثورة على إبراهيم باشا. وخاصة بعد توقيع معاهدة «هنكار أسكله سي» الدفاعية بين الدولة العثمانية وروسية (تموز 1833) لوقف الزحف المصري، وكان من نتيجة ذلك حدوث الفتن والثورات على حكم إبراهيم باشا في بلاد الشام ولاسيما في لبنان، ومن أسباب موقف بلاد الشام هذا من إبراهيم باشا ـ إضافة إلى التدخل الأجنبي ـ ما قام به من احتكار تجارة الحرير وأخذ ضريبة الرؤوس (الفردة) من الرجال كافة على اختلاف مذاهبهم، وكانت ضريبة الرؤوس سابقاً لا تؤخذ إلا من أهل الذمة واضطر إبراهيم باشا إلى قمع هذه الحركات بشدة ومصادرة السلاح من الأهالي في جميع أنحاء البلاد، وقد صوِّر جمع السلاح مقدمة لتجريدهم من القوة أو لتجنيدهم وانتقاص حقوقهم، وتأكد للدولة العثمانية أن اضطراب الأحوال ضايق حكومة إبراهيم باشا وأرهق قواها، فحشد السلطان محمود قواته من جديد واستأنف الحرب على إبراهيم باشا لاسترداد بلاد الشام بتحريض من بريطانية، ووقعت معركة فاصلة عند نزيب نصيبين الواقعة قرب عينتاب، (وليست نصيبين الحالية تجاه القامشلي) في حزيران 1839م حقق فيها إبراهيم باشا نصراً مبيناً على الجيش العثماني الذي كان يقوده حافظ باشا، وانحاز فوزي باشا قائد الأسطول إلى محمد علي، ولكن الموقف تبدل بسبب تدخل الدول الأوربية بريطانية وروسية وبروسية والنمسة التي عقدت فيما بينها معاهدة لندن (تموز 1840م) وقضت بإجبار محمد علي على سحب قواته من بلاد الشام حتى عكا. والاكتفاء بولاية مصر وراثية لـه ولأولاده من بعده، ولما كان محمد علي يطمع في مساعدة فرنسة له، فقد رفض الانصياع للمعاهدة، لكن فرنسة خذلته، وحاصرت أساطيل الحلفاء شواطئ الشام ومصر، ووجد إبراهيم باشا نفسه في موقف حرج بين جيوش الحلفاء التي نزلت البر وأهالي لبنان الذين أثيروا عليه، واستسلم الأمير بشير الشهابي[ر] حليف محمد علي للحلفاء في صيدا التي استولى عليها أمير البحر الإنكليزي نابيير Napier كما استولى على بيروت وعكا وصيداء ويافا فاضطر محمد علي، في مفاوضاته مع نابيير، إلى قبول التخلي عن بلاد الشام في تشرين الثاني 1840م وغادر إبراهيم باشا دمشق مع جيوشه في 29 كانون الأول 1840م مرتداً إلى مصر عن طريق غزة وبعث شطراً منها عن طريق العقبة.
انصرف إبراهيم بجهوده في السنوات التالية إلى شؤون مصر الإدارية، وكان قد لمس أهمية الزراعة في حياة مصر منذ أن كان دفترداراً (أي مفتشاً) عاماً للحسابات سنة 1807، ثم حاكماً على الصعيد سنة 1809 حيث طرد فلول المماليك وأخضع البدو وأعاد الأمن والنظام إلى البلاد، وأسهم في تطبيق سياسة أبيه الاقتصادية الرامية إلى زيادة الموارد المالية لمصر وتنفيذ إصلاحاته وتقوية نفوذه، كما أدخل إلى مصر بعض الزراعات النافعة التي رأى أنه يمكن نجاحها في مصر من فاكهة وخضار وأشجار ونبات للزينة، وعمل على إكثار شجر الزيتون والتوت، وزراعة قصب السكر، وعني بتطوير الثروة الحيوانية، وأنشأ صحيفة أسبوعية تشتمل على أخبار الزراعة والتجارة، وفي مطلع عام 1847 تألف المجلس الخصوصي برئاسته للنظر في شؤون الحكومة الكبرى، وسن اللوائح والقوانين وإصدار التعليمات لجميع مصالح الحكومة، وفي نيسان 1848 أصبح إبراهيم باشا الحاكم الفعلي للبلاد، لأن والده اعتل اعتلالاً شديداً لا برء منه، ولم يعد قادراً على الاضطلاع بأعباء الحكم، وفي أيلول 1848م منح السلطان العثماني إبراهيم ولاية مصر رسمياً، لكنه لم يُكمل العام في منصبه، وتوفي قبل والده في 10 تشرين الثاني 1848 عن ستين عاماً، وترك من الأولاد بعد وفاته، أحمد، وإسماعيل (خديوي مصر فيما بعد) ومصطفى.
كان إبراهيم باشا عربي اللغة والعاطفة، وإن لم يكن عربي المولد، وكان ينوه بفضل
العرب على المدنيّة والتاريخ، يقول معاصره البارون دوبوا لوكومت De Bois Le Comte
إنه كان يجاهر بإحياء القومية العربية ويعد نفسه عربياً، وسئل كيف يطعن في الأتراك وهو منهم فأجاب: «أنا لست تركياً فإني جئت إلى مصر صبياً، ومن ذلك الحين مصرتني شمسها وغيرت من دمي وجعلته دماً عربياً». وكتب إلى أبيه في أثناء حصار عكا حين بلغه أن السلطان حشد الجيوش لدفع الجيش المصري عن أسوارها «ومهما بحثوا فلا يمكنهم أن يعثروا على مثل جنود العرب الذين أقودهم أنا».
أحمد طربين