إيليا أبو ماضي
(1889 ـ 1957م)
إيليا بن ضاهر أبو ماضي شاعر وطني لبناني، من كبار شعراء المهجر، ولد في قرية المحيدثة بلبنان، واختلف الدارسون في سنة مولده، لكن معظمهم يحددها بعام 1889م. تعلم في مدرسة القرية ثم غادرها وهو في الحادية عشرة من عمره إلى مصر، ولايعرف سبب هجرته المبكرة هذه، ربما كان السعي لتحصيل الرزق، وربما اختار مصر للحصول منها على جواز السفر إلى أمريكة لأن الحكومة العثمانية آنذاك منعت هجرة السوريين إليها. استقر أبو ماضي في الاسكندرية، وكان يبيع السجائر فيها نهاراً، ويكبّ على دراسة النحو والصرف، وقراءة شعراء العصر العباسي ليلاً، ثم أخذ يقلدهم بنظم الشعر، ورآه الأديب أنطون الجُميّل في دكانه مرة يكتب شعراً فقرأه وأعجب به، ونشره له في مجلة «الزهور» التي كان يصدرها. وقبل أن يبلغ العشرين من عمره طبع ماتجمّع لديه من قصائد في ديوان سمّاه «تذكار الماضي». ولعل ما لاقاه من هجوم عنيف، ونقد للغته وأوزانه، أو لعل إخفاقه في تجارته أيضاً كانا السبب في مغادرته الاسكندرية إلى أمريكة الشمالية.
|
ويختلف الدارسون كذلك في سنة نزوح أبي ماضي إلى العالم الجديد بين سنتي 1911و1912. والمعروف أنه استقر أولاً في سنسناتي ـ أوهايو، أربع سنوات انصرف فيها إلى التجارة مع أخيه مراد، لكنها لم تصرفه عن الشعر. وفي عام 1916م انتقل إلى نيويورك تلبية لدعوة بعض الشباب الفلسطيني لتحرير «المجلة العربية» التي كانوا يصدرونها هناك، ثم أسهم في تحرير مجلة «الفتاة» وجريدة «مرآة الغرب». وفي عام 1929م أصدر مجلة «السمير» نصف الشهرية، ثم حوّلها عام 1936م إلى جريدة يومية. وفي نيويورك لقي الأدباء العرب الذين أنشؤوا «الرابطة القلمية» عام 1920م ومنهم جبران خليل جبران، وميخائيل نعيمة ، ونسيب عريضة ورشيد أيوب ، فانضم إليهم.
تزوج ابنة نجيب دياب صاحب جريدة «مرآة الغرب»، ورزق منها ثلاثة أبناء.
وصف أبا ماضي بعض من عرفه، بقامته القصيرة، وجسمه الضامر، وعينيه البراقتين، وتميز بحديثه الرفيع الذي فيه معاني الشعر بلهجته الخطابية الحماسية. واختلف الدارسون في صفاته النفسية، فعدّه بعضهم متفائلاً مقبلاً على الحياة، مبدداً لآلامها، داعياً إلى المرح والابتسام، وقال بعضهم «إنه لايمكن أن يعدّ من المتفائلين، بل هو متشائم أيضاً، ولكن على غير طريقة جبران ونعيمة فهو متشائم مرح، وهو أبيقوري في فلسفته، لاأدري في نظرته إلى الحياة».
وقد أحب المرأة وأعلى شأن الحب الخالص، وأحب الناس جميعاً، فكان في مقدمة شعراء النزعة الإنسانية.
«تذكار الماضي»: ديوان صغير نشر في مصر عام 1911م، وأهداه الشاعر إلى الأمة المصرية معبراً عن حبه لها وتعلقه بها، ولم يضمّنه قصائده الوطنية النقدية خوفاً من السلطة الحاكمة آنذاك. وقد بدا فيه ضعيف اللغة، واضح التقليد لأساليب شعراء العصر العباسي، ومن تأثر بهم في العصر الحديث.
ديوان «إيليا أبو ماضي» ـ الجزء الثاني: طبع في مطبعة مرآة الغرب ـ نيويورك ـ عام 1919م، قدّم له الأديب المهجري جبران خليل جبران مثنياً على شاعريته. ويشتمل على قصائد في موضوعات ذاتية ووطنية ووصفية وقصصية، وقصائد مناسبات متعددة. طبع هذا الديوان ثانية في دار اليقظة بدمشق عام 1954م، ثم أعيد طبعه، بعد أن ضم إليه «تذكار الماضي»، في دارة العودة ، ثم اختارت دار العلم للملايين في بيروت تسعاً وخمسين قصيدة منه ونشرتها بعنوان «تبر وتراب» مرات عدة بين عامي 1960و1967م، خصت جزءاً منها لشعر المناسبات بعنوان «تحية الشاعر»، وجزءاً للمراثي بعنوان «دمعة الشاعر» وثالثاً «الشاعر في حفلات تكريمه». ويعدّ هذا الديوان مرحلة وسطى مرّ بها أبو ماضي متردداً بين التقليد والتجديد قبل أن يبلغ أوج النضج في ديوانيه التاليين:
الجداول: صدر كذلك في نيويورك عن مطبعة مرآة الغرب عام 1927م مع مقدمة للأديب المهجري ميخائيل نعيمة بارك فيها الشاعر وشاعريته، وقد خلا هذا الديوان من القصائد الوطنية وقصائد المناسبات، إلا نادراً، واشتمل في معظمه على قصائد ذاتية وإنسانية تميزت بطرافة صورها وأخيلتها، وعذوبة أنغامها أشهرها «الطين ـ المساء ـ الطلاسم». ويعد هذا الديوان مرحلة تطور وتحوّل في شعر أبي ماضي ونضجه من حيث جدّة الموضوعات، وتوازن المبنى والمعنى، والعناية بالقوافي، واستخدام الأبحر القصيرة والمجزوءة، وقد بدا فيه، على انتمائه للرابطة القلمية، مستقلاً عن سائر أعضائها بشخصيته الشعرية، ونظراته الفكرية الفلسفية الخاصة إلى الكون والحياة.
الخمائل: صدر أولاً في نيويورك عن مطبعة مرآة الغرب عام 1940م، ثم طبع في لبنان، دار صادر، ويعد الخمائل امتداداً للجداول من حيث الأسلوب والفكر والموضوعات التأملية والإنسانية، وتنويع الأوزان والقوافي، إلا أن الإلحاح فيه على الدعوة إلى التفاؤل والتمتع بالحياة أشدّ وأوضح، كما في قصائده «عش للجمال ـ ابتسم ـ كن بلسماً ـ كم تشتكي»، وفيه مطولتان هما «الشاعر والملك الجائر ـ الأسطورة الأزلية»، ومن أجود قصائده وأشهرها «أمنية آلهة ـ الفراشة المحتضرة ـ الشاعر في السماء». وقد عالج الشعر القومي في بعض قصائده، ومنها قصيدة «فلسطين» التي يبدؤها بقوله:
ديارُ السلام وأرضُ الهنا
يشق على الكلّ أن تحزنا
فخطب فلسطين خطب العلا
وما كان رزءُ العلا هيّنا
للشاعر قصائد أخرى نشرها بعد «الخمائل» في جريدته «السمير» وغيرها من صحف المهجر والمشرق العربي، لكن لم يتح له نشرها في ديوان مستقل.
لأبي ماضي مقالات كثيرة إلى جانب افتتاحيات جريدته «السمير» لو جمعت في كتب لوقعنا منها على الشيء الكثير من الموضوعات الحساسة، والمعالجة القيّمة، إن لم نقع على آيات في البلاغة والمقدرة اللغوية.
شعره وخصائصه الفنية: عني أبو ماضي بالموضوعات الوطنية في مرحلته الأولى، ثم بالموضوعات الإنسانية التي حض فيها على التساوي بين الناس، والبعد عن التكبر والدعوة إلى التفاؤل والابتسام، وتبدو في شعره أيضاً الحرية الفكرية المنزهة عن الطائفية المذهبية، وحب الطبيعة والاندماج فيها، إلى جانب التأمل الفلسفي في أسرار الكون والحياة، وخرج من ذلك كله بفلسفة «لاأدري» كما في قصيدته «الطلاسم». وتتفق تأملاته مع جبران خليل جبران وميخائيل نعيمة، لكنه لم يؤمن مثلهما بعقيدة تناسخ الأرواح.
أما من حيث الأسلوب فقد بدا تطوره واضحاً بين شعره الأولي في «تذكار الماضي» وبين مانظمه في المهجر. ويلاحظ أحد الدارسين أن شعره مرّ بثلاثة أطوار، الأول تقليدي يصوره ديوانه «تذكار الماضي»، والثاني لاحت فيه إرهاصات تطور كبير في تجربته الشعرية، وتباشير الصعود نحو القمة، وبداية الاستقلال في التفكير والمفهوم الأدبي والفني ويصوره الجزء الثاني من ديوانه، وأما الطور الثالث فيعبر عنه ديوانا «الجداول» و«الخمائل» ففيهما «بلغ غاية نضجه الشعري بمفهوماته الفنية، وعباراته وموسيقاه، ومعانيه وخيالاته وتأملاته وتصاويره وأحاسيسه» وامتاز أبو ماضي بمطولاته الشعرية مثل «الطلاسم، الشاعر والملك الجائر، الأسطورة الأزلية»، كما امتاز بإبداعه في الحوار الشعري وخاصة في قصائده «أمنية آلهة، ابتسم، الشاعر في السماء»، ونظم الموشحات مثل «مصرع القمر، البلبل السجين، أمة تفنى وأنتم تلعبون»، ومال في أكثر قصائده إلى تنويع الأوزان والقوافي كما في «تعالي، المساء، الناسكة».
وقد شاب شعره، في بداية نظمه، بعض التعقيد والأخطاء اللغوية، والضعف في الشكل والمضمون، وأخذ عليه بعض القصائد الضعيفة في معانيها وموسيقاها وصياغتها الشعرية مثل «المجنون، الأشباح الثلاثة»، ومن هذا القبيل أغلب قصائد شعره في المناسبات المختلفة.من مختار شعره قوله في قصيدة عنوانها: ابتسم:
قال: السماءُ كئيـبةٌ وتجـهّما
قلت: ابتسمْ، يكفي التجهم في السما
قال: الصِبا وَلّى، فقلت له: ابتسم
لن يُرجع الأسفُ الصِبا المتصرِّما
قال: الليالي جَرّعتني علقمـاً
قلتُ: ابتسمْ، ولئن جَرعتَ العَلقمـا
فلعلَّ غيرَك إن رآك مُرنّمـاً
طــرح الكآبة جانبــاً وتَرَنـَّما
لم ينل شاعر مهجري من الشهرة والمنزلة بين قراء العربية ما ناله أبو ماضي، فقد حفظ الناس كثيراً من قصائده، وأثنى الدارسون على شعره، ومنهم جبران خليل جبران في مقدمة الجزء الثاني من ديوانه يقول فيه: «سلالم من المنظور وغير المنظور، وحبال تربط مظاهر الحياة بخفاياها»، ومنهم ميخائيل نعيمة، في تقديم «الجداول» إذ وجد في بعض أبياته «مثالاً جلياً للحقائق التي يدركها الخيال بوثبة واحدة، ولا يدركها العلم بأجيال طويلة». ورفع بعضهم منزلته فجعله «الركن الأول في بناء الشعر المهجري... إذ أحدث تجديداً في الكلمة الشعرية جعلها تتسع لمضامين الحياة الاجتماعية والفكرية، وللمشكلات النفسية دون أن تخرج من إطار البساطة والوضوح».
وأطلق عليه بعضهم ألقاب: شاعر المهجر الأكبر، أو شاعر الرابطة الأكبر، أو رسول الشعر العربي الحديث. وقد اختير مع الأديب المهجري حبيب مسعود أواخر عام 1948م ليمثل صحافة المهجر في مؤتمر اليونسكو الذي عقد حينذاك في بيروت، كان في أثناء إقامته موضع الحفاوة العظيمة لدى الأوساط الرسمية والأدبية في لبنان وسورية، وفي هذه الزيارة منحته الحكومة اللبنانية وسامي الاستحقاق والأرز، وأقيم له في 6/2/1949م حفل كبير في دمشق، وعلق على صدره وسام الاستحقاق من الدرجة الممتازة.
عزيزة مريدن