أبو قرة (ثاودورس ـ)
(؟ - 830م)
هو أحد آباء الكنيسة الشرقية وعلم من أعلام اللاهوتيين المسيحيين العرب.
ولد في الرها في أواسط القرن الثامن الميلادي، وفيها تلقى العلم أولاً، ثم ترهّب في دير القديس مار سابا (قرب القدس) حيث كان ذكر القديس يوحنا الدمشقي [ر] لا يزال حيّاً يملأ الأرجاء. فطالع كتاباته وتخرّج فيها. انتخب مطراناً على الملكية في حرّان في أواخر القرن الثامن، لكن أسقفيته عليها وإقامته فيها لم تطولا، لأسباب لا تزال مجهولة، فعاد إلى مار سابا. استعان به بطريرك بيت المقدس الملكي توما في الحوار مع الكنيسة الأرمنية، فأنشأ أبو قرة لهم باسم البطريرك سنة 812م رسالة في العقيدة. ثم تحوّل أسقف حرّان السابق إلى داعية متجوّل يدافع عن الدين المسيحي وعن تعليم المجمع الخلقيدوني وعن إكرام الصور المقدّسة مجادلاً النساطرة واليعاقبة ومحاوراً المسلمين. فطاف في البلاد يعظ ويعلّم، حتى بلغ أرمينية حيث خاض، سنة 815م في أغلب الظن، غمار مناظرة مشهورة في بلاط أميرها آشور مسّاكر (المتوفى سنة 826). وأقام مدة في بغداد على ما يبدو. وقد توفي سنة 830م.
كان أبو قرة يجيد لغات العلم الثلاث في عصره: السريانية واليونانية والعربية، وقد كتب فيها كلّها. في السريانية وضع ثلاثين ميمراً (أي مقالاً) مدحاً لرأي الأرثوذكسية كما يخبر هو بنفسه، لكنها لا تزال حتى الآن مفقودة. وفي اليونانية نُشر له 44 مقالة بعضها وجيز جداً في أقل من صفحة واحدة وبعضها في حجم كتيّب صغير.
لكن شهرة ثاودورس أبي قرة ومكانته قامتا على مصنفاته العربية التي تفوق اليونانية حجماً وأهمية، وإن كانت دونها عدداً، إذ لا يتعدّى مجموع ما عُرف منها حتى الآن الثلاثين بين ميمر ورسالة وعظة وما شاكلها. ويعود الفضل الأكبر في اكتشاف أبي قرة العربي ونشره وتعريفه إلى الخوري قسطنطين الباشا المخلّصي، وإن كان القس يوحنا أرنْدْزِنْ قد سبقه إلى نشر المقال «في إكرام الإيقونات» (في بون سنة 1897) ثم لحق بهما الأب لويس شيخو اليسوعي فاكتشف المقال «في وجود الخالق والدين القويم» ونشره في مجلة «المشرق» على دفعتين (سنة 1912 المجلدة 15). واهتم المستشرقون بأبي قرة العربي اهتماماً بالغاً وقد نقل معظم آثاره إلى الألمانية الأب العلامة جورج غراف شيخ الباحثين في التراث المسيحي العربي.. ومما يجدر ذكره أن كثيراً من آثار أبي قرة قد نقل قديماً إلى اللغة الجورجية، بل إن بعضها لم يصل إلى الباحثين إلا بهذه اللغة.
وأبو قرة علاوة على كل ما تقدم يعد من نقلة الفلسفة اليونانية إلى العربية ومن الرعيل الأول منهم. يذكر له ابن النديم في الفهرست تعريب أحد كتب أرسطو المنطقية: التحليلات الأولى. وتنسب إليه المخطوطات نقل مؤلفَين آخرين منسوبين إلى أرسطو. ويعدّ الجاحظ في كتاب الحيوان أبا قرة في جملة النقلة المجيدين.
اطلع أبو قرة على الفكر الفلسفي اليوناني بشقيه الأرسطاطاليسي والأفلاطوني الحديث.
وقد أفاد منه في إيضاح العقائد المسيحية والدفاع عنها, فعاب عليه ذلك بعض خصومه ووصموه بالفيلسوف ازدراء ويلمس تأثره بمذهب أرسطو بالذات في ثقته العظيمة بالعقل، فهو يعتقد فيه القدرة على إدراك حقيقة الموجودات في نظرية واقعية للمعرفة، واستطاعة معرفة الله عن طريق المماثلة.
إلا أن المصدر الأساسي لفكر أسقف حرّان يظل الكتاب المقدس الذي يعرفه حق المعرفة، ويكثر من اعتماده. فبعد أن يتحقق العقل أن الكتب المقدسة القديمة والجديدة هي من عند الله يصير لزاماً عليه «أن يؤمن بما قالت هذه الكتب.. بلغته معرفته أم لم تبلغه.. فنحن نقبل ما قالت هذه الكتب بالإيمان ولو كانت عقولنا لا تجد سبيلاً إلى تحقيق قولها».
وقد قرأ أبو قرة آباء الكنيسة وألف كتاباتهم وهو يجلّهم إجلالاً كبيراً وله فيهم هذا القول: «درجتهم في الكنيسة فوق مراتبها كلها بعد مرتبة السليحيين [أي الرسل] والأنبياء.. ومَن من النصارى يردّ شيئاً من تعليمهم إلا كان نفياً من النصرانية مقصى من خير الكنيسة».
لأبي قرة فضل الريادة في مجالات عديدة، من الجيل الأول من النقلة كما سلف، وهو أيضاً من أوائل اللاهوتيين الذين صنّفوا بالعربية بلغة فصيحة على الرغم من بعض الهنات. وميامره إن لم تكن أقدم تأليف عربي نصراني، كما وصفها ناشرها، فهي من أقدم ما وصل إلينا من هذا القبيل. وفيها منهج جديد في الفكر عند العرب عموماً والمسيحيين منهم خصوصاً، جدّته في اللجوء إلى الفلسفة والمنطق في البحوث الدينية اللاهوتية وفي نزعته العقلانية البارزة. ذلك أن أبا قرة لا يرضى بإيمان لا ينظر العقل في مسوغاته، بل العقائد الإيمانية ذاتها لا بد من أن تكون موضوع نظر العقل قبل أن تصير موضوع اعتقاده. فعلى المرء أن «يدبّر إيمانه بالعقل». وهذا التعبير أثير لديه يكثر من ترداده.
هذا التشديد على الشأن العظيم للعقل في مجال الدين والإيمان يبرز مدى اندماج أبي قرة في بيئته. وكل من درس فكره لاحظ الصلات المتينة العرى بينه وبين المعتزلة، والواقع أن الصفة الغالبة على فكر أبي قرة هي الحوار والتوجّه إلى الآخر لإطلاعه أو لإقناعه. ومعظم آثاره تنطق بهذا حتى في صيغة عناوينها: «محاورة»، و«جواب سؤال»، و«رد اعتراض»، و«مجادلة» و«رسالة»... وتبرز هذه الصفة حتى في أسلوبه الإنشائي، فإنه يكثر من كاف المخاطب وأدوات النداء وأفعال الأمر، كما يكثر من الأمثال والتشابيه التي تضفي على حديثه طلاوة وتوضح مقاصده لغير المتفقهين، وبعضها بديع بليغ في حسن دلالته ووفائه بالغرض.
لهذه الأسباب مجتمعة يُعَدّ أبو قرة من كبار اللاهوتيين الملكيين، بل لقد وضعه بعض خصومه في مصف القديسين، مكسيموس المعترف ويوحنا الدمشقي: وهو أحد أبرز اللاهوتيين المسيحيين العرب وقد عبّر بالعربية أبلغ تعبير عن عقائد إيمانهم، وجسّد في حياته وآثاره عظيم اهتماماتهم.
فايز فريجات