- الصدام المتأخر
- سقوط آخر معاقل القومية
- أزمة رغم النفي
- مستقبل اليسار العربي
هللت أجنحة اليسار العربي بمكوناتها المختلفة من قوميين وناصريين وشيوعيين وغيرهم للثورات العربية التي شهدتها بداية تونس ومصر، وعدتها ضربة للتيار "المتأمرك" في المنطقة، باعتبار أن نظامي بن علي ومبارك من أنظمة "الاعتدال" إن جاز التعبير، بل زادت وزايدت بأنها من تقود تلك الثورات عبر الشباب اللامنتمي للقائم من الأحزاب والحركات خاصة الدينية منها.
اليسار العربي وجد في الثورات متنفسا له بعد أفول نجمه، وانفضاض الناس من حوله واهتراء الشعارات المرفوعة منذ عقود من الزمن بعد أن تجاوزتها الأحداث والزمان، وحالة الجمود القاتلة التي اعترت اليسار إما لـ"خلود" الزعيم من هذا التيار أو ذاك، حتى بعد مماته أو لعدم تصديق أن الزمن ليس زمنهم، وبالتالي كانت انطلاقة الثورات في تونس ومصر بمنزلة حافز ودافع لليسار إلى التحرك من جديد، والظهور بمناسبة أو من دونها.
لكن حتى ننصف نورد الحقائق التالية، في تونس شارك حزب العمال الشيوعي من اللحظات الأولى، كما شاركت مجموعات وأفراد يساريون، سواء من خلال الاتحاد التونسي للشغل أو من خارجه.
وفي مصر كان الحزب الشيوعي المصري من الداعين إلى إضراب 25 يناير/كانون الثاني، وكذلك الاشتراكيون الثوريون، وأحزاب قومية وإن كانت صغيرة، وشارك طيف واسع من اليساريين في التظاهرات.
|
الصدام المتأخر
لكن، ما إن استتب الأمر بعض الشيء في مصر وتونس، رغم كل محاولات سرقة وحرف الثورة عن مسارها من قبل من استلموا زمام الأمر في البلدين، حتى بدأت تتضح الرؤى، وتتكشف حالة الترهل التي يعيشها اليسار.
ففي تونس، وفي أول مواجهة ديمقراطية حقيقية وفي أول انتخابات نقابية يوم 23 أبريل/نيسان 2011، سقطت قوى اليسار في الامتحان، حين جرى التنافس بين قائمة تمثل التيار الإسلامي المقرب من حركة النهضة وعلى رأسها ضياء الدين مورو وقائمة تمثل التيار القومي ويساريين ومستقلين، وتضم أعضاء مثل نزار الجربي ومراد الفرجاني وأسيا حاج سالم، وقد أدت النتائج إلى فوز الإسلاميين بأغلب المقاعد في الجمعية.
أما في مصر فقد كانت المواجهة الأولى هي الاستفتاء على التعديلات الدستورية في 19 مارس/آذار 2011، وقد احتشدت فيها كل قوى اليسار وألقت بثقلها الكامل للتصويت بـ"لا" على التعديلات المقترحة، في حين تصدرت حركة الإخوان المسلمين في مصر حملة الموافقة بـ"نعم".
وجاءت نتيجة الاستفتاء صادمة لقوى اليسار حيث صوّت ما نسبته 77.2% من المصوتين بقبول التعديلات، وهو ما فتح باب المواجهة من جديد بين التيار اليساري القومي والتيار الإسلامي، بعد أن جيشت قوى اليسار نفسها من جديد لرفض نتيجة الاستفتاء ومطالبتها بدستور جديد قبل الانتخابات، لمعرفتهم المسبقة واليقينية أنهم لن يحققوا فيها شيئا يذكر إن جرت.
كان من الممكن اعتبار ذلك جزءا من الحراك الديمقراطي الإيجابي، لكن حملات إعلامية مبرمجة، ومحاولات تشويه واضحة، بدأت تلقي بظلالها على المرحلة المقبلة، وهو ما نعتقد أنه يؤخر تحقيق الثورات العربية في كل من مصر وتونس لأهدافها، لأن الهدف لدى البعض بات ضرب التيار المضاد، والقضاء عليه إن أمكن.
سقوط آخر معاقل القومية
ما زاد من أزمة اليسار العربي هو تحرك الشعوب العربية في دول "الممانعة" وثورتها في وجه حكامها، وهنا حدث الانقلاب الأهم في تعاطي اليسار العربي مع الثورات العربية، ودخوله في مجال التشكيك المطلق بالجميع دون استثناء، والتخلي عن الموقف السابق الذي يدعي قيادة الثورات في تونس ومصر، والاتفاق على نقاط محددة وكأنها تعميمات وزعت على اليسار بكل ألوانه من قوميين وماركسيين وناصريين.
وأهم تلك النقاط التي يجادل بها كل يساري عربي اليوم:
- أن الثورات العربية بمجموعها من تخطيط أميركي لاستبدال نظام بنظام آخر.
- أن هدف الثورات ضرب المقاومة والممانعة وتقسيم الدول العربية.
- يتردد اسم برنار هنري ليفي كمايسترو لتلك الثورات.
- الإخوان المسلمون والسلفيون هم أذرع التنفيذ الأميركي في المنطقة.
- هي مؤامرة محبوكة للنيل من الشعوب العربية.
- قطر والجزيرة أهم أسلحة هؤلاء في تحريك الفتنة وضرب الشعوب وإشعال المنطقة.
- كل ما يعرض على وسائل الإعلام محض افتراء وكذب وتزوير وتحوير، والرواية الوحيدة الصحيحة هي الرواية الرسمية.
- شيطنة كل من يتعاطف مع الثورات العربية في الدول "القومية الممانعة"، باعتباره سقط أو تم شراؤه.
- محاولة اللعب على الوتر الطائفي بإبراز البحرين وما يجري فيها باعتباره دليلا على المؤامرة المحاكة ضد المقاومة والممانعة والشيعة.
- والأهم التشكيك في أي حكم جديد قادم باعتباره لا محالة حكما عميلا تابعا، حكما سيفرط في الحقوق العربية ويعترف بإسرائيل، ويحول مجتمعاتنا إلى نسخة غربية منحلة، تسود فيها العقلية الإمبريالية والنظام الرأسمالي.
لقد استشعر اليسار عموما، والقوميون تحديدا الخطر الشديد بعد أن تعرضت أنظمة الحكم في ليبيا وسوريا ومعهما اليمن للخطر، فهي آخر الساحات والمعاقل التي تحمل نفس الشعارات، وكانت تشكل حاضنة للغالبية الساحقة من نشاطاتهم وفعالياتهم، وبالتالي فإن سقوطها يعني اندحار تيار اليسار والقومية.
أزمة رغم النفي
ورغم الأزمة الحقيقية التي يعيشها اليسار العربي، فإنه يحاول تصديرها عبر ما سبق، أو من خلال التشكيك في الآخر، والاستعداد لفتح معركة "دونكيشوتية" معه.
ومع أن مواقع اليسار تعج بالتحليلات والدراسات التي تتناول تلك الأزمة، فإن النفي القاطع لوجود أزمة هو السائد بين صفوفهم.
وهنا نتوقف عند بعض ما كتبه جورج حبش الذي كان يعرف باسم "الحكيم" لكونه طبيبا وحكيما أي فيلسوفا، والذي شكل رحيله رحيل آخر عمالقة اليسار العربي، حيث يقول في إحدى مقالاته وقد كتبها قبل رحيله، "لا يمكن الحديث عن أزمة اليسار العربي، وأسباب حالة الانكفاء والتهميش التي وصل إليها اليوم دون مراجعة تاريخ هذه الحركة، والوقوف أمام أخطائها ومنعطفاتها على مستوى التكتيك والإستراتيجية"
ويضيف أن "نظرة تقويمية لحركة اليسار العربي، تفتح باب الأسئلة حول تجارب الأحزاب اليسارية العربية. بجناحيها الشيوعي والماركسي القومي، خاصة أن كثيرا من القراءات لتجارب هذه الأحزاب باتت تسلم بإخفاقها عن استيعاب ووعي حركة الواقع، وبالتالي فشلها في تغييره".
ويزيد حبش متسائلا "السؤال الذي يطرح نفسه دوما في هذا السياق هو، لماذا أخفقت البرامج التي طرحها اليسار العربي في تحقيق التحولات المطلوبة على أرض الواقع؟ ولماذا لم يصبح اليسار العربي قوة تغيير حقيقية؟ ولماذا بدأ هذا اليسار بالضعف بعد انهيار الاتحاد السوفياتي والمنظومة الاشتراكية".
ويقول "أعتقد أن أهم المشكلات التي أدّت باليسار العربي إلى أزمته، وبالتالي إلى عدم إنتاج وعي مطابق لحركة الواقع العربي هو اعتماده بالدرجة الأولى على استعارة مقولات نظرية جاهزة، أنتجتها الأحزاب الماركسية العالمية.. وإسقاطها على واقعنا، دون النظر في متطلبات هذا الواقع وإشكالياته. وذلك على اعتبار أن هذه الأحزاب قد حققت في حينه بعض الانتصارات والتحوّلات في بلدانها، ثم تبيّن بعد انهيار الاتحاد السوفياتي والمنظومة الاشتراكية أن هناك ضرورة لإعادة النظر في كل التجربة الاشتراكية ودراستها، خاصة أن أصواتا كثيرة تعالت بعد ذلك معلنة موت الماركسية".
مستقبل اليسار العربي
ما من شك في أن التمترس خلف شعارات سابقة تنظيرية كما وصفها حكيم اليسار، ومعاداة التوجهات التحررية للشعوب العربية، وتأييد الأنظمة الدموية والقمعية كما هو الحال في سوريا، والوقوف أمام عجلة التاريخ التغييرية، والتشكيك في كل ما هو قادم، لن يفيد اليسار العربي ولن يخرجه من أزمته المستفحلة.
إن إعادة تقييم لحجم ودور وواقع اليسار العربي هو البداية لأي تحسن في ظروفه وواقعه، بل لا نبالغ إذا قلنا إن اليسار العربي بحاجة لإعادة تأهيل كامل، ينأى بها عن حالة الجمود والتقوقع في شعارات ما قبل انهيار الاتحاد السوفياتي، أو فترة الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي، وكذلك تغيير قياداته الحالية التي بقيت متربعة على رأس أحزابها لعقود من الزمن، رافضة التغيير والتبديل.
أما عن التعامل مع الواقع العربي الجديد، فإن الرهان على أنظمة زائلة لا محالة، والاستماتة في الدفاع عنها وعن دمويتها، لن يكون إلا المسمار الأخير في نعش اليسار المترنح دون شك، لأن الديمومة للشعوب التي من المفترض أن القومية والشيوعية هي من أشد المدافعين عنها باعتبار أغلبيتها من الطبقة الكادحة!
التشخيص واضح، والمشكلة والأزمة واضحة، وبرأينا أن الحلول واضحة، لكن العناد والإصرار على نفي الواقع لن يقود إلا إلى نهاية واضحة أيضا.
بقي أن نقول للمشككين دوما إننا عرب نعتز بعروبتنا ونفخر بها، وقد شرفنا بها وهي لغة قرآننا العظيم.