يسأل كثيرون لماذا كانت ثورة 25 يناير بلا قائد؟
هذه السطور ربما تقدم زاوية من الإجابة عن السؤال.
مكونات الخيال الجديد عند الدكتور محمد البرادعى كانت من خارجه ومن داخله، فالذى دعا الرجل للانخراط فى السياسة المصرية بعد انتهاء مدة رئاسته للوكالة الذرية، هو مجموعات من الشباب وجيل مختلف تفاعل مع الدعوة عبر شبكة الإنترنت، فتبنى أصحاب الخيال الجديد الرجل من المربع الأول، منطلقين من دائرة خارج حدود السياسة التقليدية والأسماء المجمدة والأحزاب الكرتونية ثم عبر وسيط جديد هو الإنترنت وتحديدا «فيسبوك»، وحين عودة الرجل فى فبراير ٢٠١٠، انتقل جمهور «فيسبوك» والعالم الافتراضى إلى أرض الواقع، فكان حلم الرجل دافعا إلى الموجة الثانية من تحول الافتراضى إلى الواقعى ونزول الإنترنت إلى الشارع (الموجة الأولى كانت فى 6 أبريل 2008، والثالثة كانت فى 25 يناير 2011)، والتف حول فكرة الرجل وفكره قطاع كان صامتا وكامنا من الطبقة المتوسطة والمتوسطة العليا، مع ضخ دماء ساخنة ودافقة فى عروق الحلم السياسى فى البلد، حيث جسد البرادعى بديلا باترا لمشروع توريث مبارك لنجله، حيث احتجاج فريق النظام وأبواقه وجمهور المتفرجين على المشهد المصرى بغياب بديل، فجاء البرادعى بجسارة الخيال الجديد بديلا ناسفا، ومن هنا جاء الهجوم عليه وحملات تشويهه
ثم هو الرجل الذى انفصل عن ماكينة الدولة المصرية التى تكرس النفاق والطاعة عنصرين أساسيين فى جينات العمل السياسى والمؤسسى، وهو كذلك الرجل الذى لم يطلب جنسية غربية غير جنسية وطنه أمام كل المغريات، بل والمنطقيات التى صادفها ثلاثين عاما خلال عمله فى العالم الغربى.
الشجاعة التى جاء بها البرادعى كانت تليق برجل من خارج الصندوق طرح نفسه مرشحا لكنه لم يطرح نفسه زعيما، ثم طلب من الناس أن تتحرك، لا أن تنتظره ليقدم لهم ما يحلمون به، ثم لم يكن مهتما بما يطرحه كثيرون من دائرة المعارضة التقليدية، فلم يكن معنيا كثيرا بالاستجابة إلى خطوات تطلب منه أو انتقادات بعضها تهجمى تعرض لها، كان الرجل مستقيما فى فكره وحلمه وهدفه، وهو الذى رفض أن يمشى فى مظاهرة تضم مئة أو مئتى مواطن، بل قال لأول مرة فى قاموس الحياة السياسية فى عصر مبارك جملة (مظاهرة مليونية).
عاد البرادعى فى 27 يناير 2011 ليلة جمعة الغضب، وهو الوقت الذى كانت فيه الأحداث تفتقد التشخيص والترميز، الإعلام الدولى والعربى حاول منذ لحظة وصول البرادعى إلى المطار أن يقدمه ويستقبله باعتباره رمزا للمظاهرات وقائدا لجمعة الغضب، الجهاز الأمنى والإعلامى فى الدولة المصرية حاول أن يحاصر البرادعى ويجهض تحوله إلى قائد الثورة، رغم أنه تعامل مع البرادعى باعتباره رمز هذه الثورة، حيث صب الهجمات عليه وكثف طوربيد التزييف والتضليل نحوه، لكن البرادعى هو الذى أفسد تماما محاولة شخصنة حركة الغضب ثم الثورة فيه!
كان أكثر الذين حالوا دون تحويل الثورة إلى زعامة البرادعى هو البرادعى نفسه، هناك بالقطع مجموعات سياسيين قدامى ومعارضين لعبوا دورا فى المشهد ظن بعضهم أنه دور البطولة وأحبوا أن يدرؤوا عنهم خطر البرادعى بالهجوم وربما التهجم المبكر عليه، هناك محبطون من أداء الرجل معهم فى العام الذى سبق، أرادوا أن يخربشوا الصورة ظنا منهم أنها مبالغ فيها وأنهم مسؤولون عن التصنيع فعالجوا ما تصوروه خطأ بخطأ، هناك الإعلام الرسمى والخاص المدفوع بأوامر أمن الدولة فى محطات وصحف رجال الأعمال (رئيس تحرير جورنال خاص كتب ليلة جمعة الغضب أن البرادعى أجبن من أى شاب نزل مظاهرة يناير، وهى المظاهرة التى لم ينزلها طبعا رئيس التحرير الذى عاد مع مصالح وتوجهات مالكى جريدته للاعتذار للبرادعى بعدها، وقبل البرادعى الاعتذار!!) وتسلطت ألسنة غوغائية لممثلين وأنصاف فنانين ولاعبى كرة يتمتعون بموهبة الجهل إلى جانب موهبة الرياضة لوضع الرجل فى بؤرة التطاول، وفى هجمة موقعة الجمل كان أنصار مبارك يهتفون عاش حسنى مبارك و(...لفظة قبيحة) يا برادعى، كان الأمر واضحا لدى النظام أن البرادعى هو المشكلة وأنه مفجر هذا الحدث!
لم يصبح لدى الثورة أى قائد، ولا قيادة.
الأيام عدت والعبرة المهمة أن اختراع قائد لأى ثورة أهم كثيرا من تركها فى أيدى من لا قادة لهم!