السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
ثلاث نصائح لتتخذوا قرارات حكيمة وسليمة!
انت تجلس الآن وتقرأ كتابا ممتعا، ولكنك لا ترى الكلمات. لا، لا، لا حاجة للمبالغة، دعنا نقول إنك لا ترى الأحرف المنفردة. هل تعلم كيف يعرّف علم النفس المختص بتحليل المعلومات وضعك؟!... طبيعي جدا!
يكون مطلوبا منا في كثير من الحالات أن نتخذ قراراتنا خلال أجزاء من الثانية. والدماغ، عبدنا المطيع، يعطينا كافة المعطيات التي من الممكن أن نحللها من أجل اتخاذ القرار: هل ندخل هذا الموقف المكتظ، أم نتابع السفر للموقف الأسفل؟! هل نستثمر بأسهم هذه الشركة أن نهرب منها؟ هل علينا أن ندخل الولد إلى روضة الأطفال هذا العام أم العام المقبل؟!!!
يعتقد أغلبنا أن القسم الأكبر من المعلومات التي نتلقاها تدخل إلينا عبر العينين والأذنين. والحقيقة أن هذا الأمر غير صحيح. فحواسنا تكون معرضة لمليارات الإغراءات في كل ثانية، وهذا كثير جدا، حتى بالنسبة لحملة الشهادات الأكاديمية العالية. هنالك منظومة أساسية واحدة تستطيع أن تقرر ما هي المعلومات التي يسمح لها بدخول مخزن المعلومات المركزي لدينا. آلاف الإعلانات التجارية تحاول "صيد" هذه المنظومة، الكثير الكثير من الرسائل الإعلانية المحلقة في الفضاء المحيط بنا تحاول شدها نحوها، لكننا لا نتحدث عن منظومة حسّية، بل عقلية – هي منظومة الانتباه.
أثبت عدد غير محدود من الأبحاث أننا لا نرى الواقع كما هو – نحن ندركه فقط. إدراك العالم يعني تصفية وتنظيم جبال المعلومات التي نتلقاها في لوحة واحدة بسيطة، تحتوي على تركيز لمواضيع اهتمامنا، وتقسيم لها وفق مجموعات، إضافة للاستمرارية.
بالمحصلة النهائية، الانتباه هو المصفاة الأولى في العالم، وهو يتصرف كدكتاتور. فأصلا، تمت برمجة محركات البحث الخاصة به منذ زمن طويل، بناء على تجربتنا الماضية (والحقيقة أن لا وزن يذكر للـ"أنا" الواعي في هذه العملية). وثانيا، كل ما لا يقع تحت وطأة اهتمام تركيزنا وانتباهنا، لن يتلقى أي تعامل عقلي مطلقا، ولذلك فإنه لن يكون جزءا من أي قرار نتخذه.
إذا كيف يتخذ "انتباهنا الأوتوماتيكي" القرارات فعليا؟! هاكم قائمة قصيرة:
1. التركيز على الجوهر وليس على الهوامش
نعم، هذا ما تمت تربيتنا عليه منذ الصغر: أن نهتم بالجوهر، ونترك كل الأمور الأخرى المحيطة به. أصل هذا التوجه هو البرمجة الذهنية الوراثية التي تقسم كل شيء إلى "جوهري" و "هامشي". فهكذا مثلا عندما تنظر إلى الحائط المقابل، سترى مباشرة الصورة المعلقة في مركزه، بكل تفاصيلها، ولكنك بالتأكيد لا تعي كل ما يدور على الجدار الأبيض الذي يحملها. مع قليل من المبالغة نستطيع القول إنك لا ترى الجدار أصلا.
ها نحن ذا نتجاهل أو لا نرى زوايا أخرى يمكن رؤية الواقع منها، زوايا تختبئ في الخلفية بينما من الممكن أن تكون قادرة على إضفاء الكثير من الراحة والطمأنينة على حياتنا، إضافة للكثير من الإبداع، إن لم نقل المال أيضا. فمثلا، على مدى سنوات، لم تنجح شركة سيارات هولندية بتحويل سياراتها لسلعة مثيرة تسترعي انتباه الجمهور... إلا أن هذا الواقع تغير عندما استعانت الشركة بخبرات مختص نجح بتركيز كل جهود التسويق بما يحيط السيارة وليس بالسيارة نفسها: ساحة الموقف!
ما المقصود؟ بدلا من إدخال تحسينات تكنولوجية مكلفة إلى السيارة، قامت الشركة باستئجار كميات كبيرة من أماكن وقوف السيارات في أكثر الأماكن ازدحاما في المدن المركزية، وثم أعلنت أن الوقوف سيكون مجانيا ومتوفرا فقط لأصحاب السيارات التي من إنتاجها. والنتيجة؟! ارتفاع 8.5% بالمبيعات.
إذا، في المرة القادمة التي تصرخ المعلمة بها بوجه طفلكم، وتطلب من التركيز باللوح والتوقف عن النظر من النافذة... ربتوا على رأسه ورددوا بهدوء... "أمستردام"!
2. انظروا إلى الكل وليس لأجزائه
نحن نرى الكرسي عادة قبل أن ننتبه لوجود الأرجل أو مُتـّكأ الظهر. وحتى أكثر الرجال ذكورية سيتذكرون الفتاة التي مرّت للتو أمامهم قبل أن يخوضوا بتفاصيل جسدها (هذا بخلاف الرأي السائد عن الرجال). وباللغة المهنية، بإمكاننا القول إن الكائنات البشرية تقوم بالبداية بإجراء تحليل شامل للعالم (إدراك الشيء الكامل) قبل أن تخوض بتحليل الأجزاء.
هذا التوجه، الذي يوفر علينا الكثير من آلام الرأس بالتعامل اليومي، من الممكن أن يخفي عن أعيننا الكثير من الأفكار الإبداعية الخلاقة الكامن فيها الكثير من الخير، والتي ترتكز بالأساس على النظر إلى الأجزاء وليس إلى الوحدة الكاملة. تريدون أمثلة؟ هنالك الكثير!
حتى قبل سنوات قليلة، كان الاعتقاد السائد أن البنوك تعطي مختلف أنواع الخدمات المالية، إلى أن جاءت شركات "الليسينج" وأثبتت أن بالإمكان بناء عالم بأكمله على أحد مجالات اختصاص البنوك، ألا وهو مجال التمويل. أما شبكة الـ CNN (ومثلها الجزيرة العربية) فقد أثبتت أن بالإمكان التمركز بجانب واحد من جوانب البث التلفزيون ي والنجاح فيه كثيرا: الأخبار. بل إن بالإمكان تحويله لكينونة قائمة بحد ذاتها، ممتعة ومربحة أيضا. من يريد أمثلة أخرى فليفكر مثلا بالمحافظ الصغيرة والرخيصة التي تستخدم للاحتفاظ بالهواتف الخلوية!!!
3. الخضوع للتقسيمات التي أوجدها الواقع أمامنا
لاقطات الانتباه التي في رأسنا لا تلتقط الأشياء المنفردة فقط: إنها تقسم العالم إلى مجموعات وفئات، وإلى مناطق على المستوى الذهني. إذا نظرتم إلى غرفة صف تقليدية، تحتوي على مجموعة كبيرة من التفاصيل، من المنطقي أن تقوموا بتقسيمها أوتوماتيكا إلى: تلاميذ، كراسي، وطاولات، متجاهلين تماما كل حيز آخر غير معرّف، أو حتى الفروق التي قد تكون بسيطة، ولكنها موجودة بين كل تلميذ وآخر.
هذا هو الوقت السليم لأذكركم أن التقسيمات التي نتبعها، هي هي... التقسيمات العادية التي نعرفها. هذا التقسيم الواقعي ليس من المفروض أن يكون مقدسا نهائيا. كل ما هنالك هو أنها جاءت من أجل الراحة والنجاعة، مثلها مثل كل المعتقدات النمطية. وهي مثل كل المعتقدات النمطية، من الممكن أن تأخذنا إلى الجمود وحتى للالتصاق بواقعنا الآني طويلا.
التقسيمات النمطية من الممكن أن تأخذنا إلى تقسيمات ذهنية. وهذه الأخيرة من الممكن أن تكون أكثر فتكا بنا، أضعافا مضاعفة.
إليكم مثالا من الحياة الزوجية: غالبيتنا ينتهج فصلا تاما بين تصرفاته في المنزل وتلك التي تميزه في مكان العمل. ففي كثير من الحالات، يصاب الأزواج (والزوجات) المحبطين من شريكهم بالصدمة عندما يرون كيف يتصرف هذا الشريك الممل بالعادة بحدّة ونشاط، ويتحول فجأة لشعلة من الحركة والفاعلية، كما يتحول لكتلة من الآذان الصاغية خلال ساعات الدوام. هذا الفصل ليس مقصودا أو بنية سيئة، إنه نتاج مستتر لفصل صناعي تراكم على مر السنوات.
هذه القدرة على النظر بشكل مختلف إلى الأمور التي تحيط بنا يوميا، بشكل متسائل ومشكّك، من الممكن أن تكون في كثير من الأحوال الخطوة الأولى والهامة على طريق نجاح العلاقات التي باتت تبدو مملة، أو المصلحة التجارية المتعثرة أو حتى المصير الشخصي المجهول. جربوا هذا... إنه يستحق التجربة.
لكم ودي وردي وحبي