أغلب الاختراعات التي قلبت حياة البشرية كانت في البداية حلما أو وهما. وهذا ما سيحصل ربما مع الخلايا الجذعية التي أصبحت اليوم على كل لسان وفي داخل كل مختبر علمي. ويبدو أن التطور الهائل في هذا المجال سيساعد قريبا على تنمية أو تجديد الأطراف المبتورة أو الأعضاء البشرية المفقودة. فقد أحد عمال المصانع ثلاثة من أصابعه مرة واحدة بعد أن تشوهت بصورة لا يمكن إصلاحها بواسطة مكبس صناعي قوي. ولم يتمكن الجراحون حتى الآن من تقديم شيء يذكر له غير خياطة الجرح. ولو كان هذا العامل يمتلك قدرات مثل السمندر “نوع من فصيلة الضفدعيات” لرأينا كيف أن أصابعه المفقودة ستنمو من جديد لوحدها.
ربما سمع الكثيرون من قبل عن فكرة تجديد الأعضاء البشرية، واليوم يقترب هذا الحلم من أول خطوة له على أرض الواقع.
ويرتكز الاكتشاف الجديد المهم على أنه من الممكن إعادة خلايا الجلد إلى حالتها الجنينية، وهي المرحلة التي من يمكن أن تتحول فيها إلى أي نوع من الخلايا في الجسم، الأمر قد يفتح بابا واسعا جدا من الاحتمالات التي تصب في مصلحة علاج وشفاء الإنسان من علل وأمراض عديدة.
وقبل كل شيء، إذا ما كان بالإمكان تحويل خلايا الجلد إلى ما هو أكثر من مجرد خلايا جنينية متغيرة، فلربما ستتاح بين أيدينا طريقة لتحويلها أي خلايا متخصصة أخرى مباشرة إلى نوع آخر.بمعنى أننا ربما لن نحتاج إلى إعادة عقارب ساعة تطور الخلايا إلى الوراء.
ومن المعروف أن لحيوان السمندر قدرة عجيبة على شفاء نفسه بنفسه من أي جرح أو بتر. وفي حالة نجاح هذه الطريقة، فإن فكرة تفعيل هذه الآليات، الساكنة أو المحجوبة عند البشر، على غرار السمندر، سيكون أمرا محتملا. ولكن السؤال الذي يطرحه دوج ميلتون، العالم المتخصص بالخلايا الجذعية من جامعة هارفارد هو: لماذا يجب علينا تجديد أو تنمية الأعضاء البشرية؟ ويبدو أن خلايا الجلد المعاد برمجتها للقيام بهذه المهمة المثيرة، لها نفس الخواص الموجودة في الخلايا الجذعية الجنينية والتي يمكن العثور عليها في الأجنة البشرية التي لم يتجاوز عمرها أياما معدودة.
ويقول دوج إن لدى هذه الخلايا المقدرة على التطور إلى أي نوع من أنسجة الجسم، ومثلها يمكن أن تنمو لتصير فيما بعد أعصاباً صغيرة جديدة لعلاج المرضى الذين يعانون من أي ضرر في الدماغ، أو تتحول إلى خلايا عضلة قلب جديدة للناس المصابين بأزمات قلبية. ولكن المهم في هذه العملية برمتها أنه ما لم تكن هذه الخلايا منسجمة جينياً إلى حد كبير، فمن المحتمل أن يرفضها جهاز المناعة عند المريض.
واعتاد الباحثون حتى وقتنا الحاضر على التفكير في طريقة واحدة فقط للحصول على خلايا متشابهة جينيا يمكن تطويرها إلى أي نوع من الأنسجة، وهذه الطريقة هي الاستنساخ العلاجي، وتتمثل باقتطاع نواة أي خلية من المريض البالغ ووضعها في خلية بويضة مجردة من كروموسوماتها ثم أخذ الخلايا الجذعية الجنينية من الجنين المستنسخ. ولذلك تعرضت أبحاث الخلايا الجذعية إلى عاصفة من الاحتجاجات والانتقادات في عام 2005 حينما ادعى الباحث الكوري الجنوبي وو سوك هوانج، أنه نجح في الحصول على صفوف مستنسخة من الخلايا الجذعية الجينية البشرية، وقد تبين لاحقا أنه زيف هذه النتائج.
ومنذ ذلك الحين لم ينجز أي شخص هذا العمل الفذ. ولكن، هناك اليوم طريقة أخرى يعود الفضل فيها إلى الأبحاث التي أجراها شينيا ياماناكا، عالم الخلايا الجذعية من جامعة كيوتو في اليابان.
فقد عرف هذا الرجل من خلال عمليات الاستنساخ أن النواة البالغة يجب أن يعاد برمجتها بواسطة بعض العوامل الموجودة في خلية البويضة. وتعمل هذه العوامل على تحديد الجينات المضبوطة ويمكن حينذاك الحصول على نفس التأثير من دون الحاجة إلى عملية الاستنساخ، ومن هذا المنطلق بدأ شينيا تجاربه على جينات 24 متطوعا.
وفي عام ،2006 أعلن شينيا أنه نجح في اختباراته. فمن خلال إضافة نسخ أخرى من أربعة جينات فقط استطاع أن يعيد برمجة خلايا جلد فأرية لتتحول إلى الحالة التي تمكنها من تطوير أي خلايا وأنسجة في الجسم.
وقد أحدثت هذه الخلايا المسماة بالخلايا المستحثة متعددة المهام ضجة واسعة في العالم، ولم تمض سوى سنة واحدة بعدها حتى نجح شينيا في الحصول على أول خلايا بشرية متعددة المهام باستخدام النسخة البشرية من الجينات الأربعة. وزاد فريق منافس آخر بقيادة جيمس تومسون من جامعة ويسكونسون ماديسون حدة التباري بعد أن أضاف نوعاً مختلفاً قليلا من الجينات الأربعة. وهذا ما دفع فرقا علمية عديدة من العالم أجمع للتلهف على دخول هذا المضمار، ونجحوا اليوم في الحصول على صفوف من الخلايا الجذعية المستحثة متعددة المهام.
وعلى النقيض من الاستنساخ، الذي يحتاج إلى مهارة خاصة في المعالجة المجهرية للوصول إلى النواة داخل خلية البويضة، فإن طرق التعديل الجيني التي استخدمها شينيا تتلاءم مع المختبرات التقليدية.
ويقول عنها كونارد هوشدلينجر، عالم الخلايا الجذعية من مستشفى ماساشوستس العام في ولاية بوسطن، إنها طريقة سهلة نسبيا، فأي مختبر تتوفر لديه خبرة في الخلايا الجذعية الجنينية يمكنه تطبيقها.
وللمرة الأولى يتمكن الباحثون المهتمين بالخلايا الجذعية من وضع أيديهم على نوع منها لا يثير جلبة ومشاكل أخلاقية. ولكن تبقى الشكوك تحوم في نفوس البعض، ومن بينهم توم اوكارما، رئيس شركة جيرون للتقنيات البيولوجية التي استثمرت الملايين من الدولارات في تطوير علاجات من الخلايا الجذعية الجنينية، إذ يقول في أحسن الأحوال لن تكون هذه الخلايا سوى وكيلة عن الخلايا الجذعية الجنينية الطبيعية.
أما الباحثون الذين لا يتملكهم نفس الاهتمام بهذه الخلايا فهم مندهشون جدا من مدى الشبه بين الخلايا المستحثة متعددة المهام والخلايا الجذعية الجنينية الطبيعية. وهناك بالفعل دليل قوي على أن هذه الخلايا يمكن أن تكون ذات فائدة في علاج الأمراض.
ففي أبريل/نيسان الماضي أعلن باحثون بقيادة ردولف جانيش، من معهد وايتهيد للبيولوجيا الطبية في ماساشوستس، أنهم نجحوا في تقليل أعراض مرض الباركنسون في الفئران عن طريق علاجها بأعصاب صغيرة مشتقة من خلايا مستحثة متعددة المهام.
ونجح الفريق بهذا العمل أولا من خلال إيجاد صفوف خلايا متعددة المهام من خلايا جلد الفئران، ثم حولوها إلى أعصاب صغيرة منتجة للدوبامين “ناقل عصبي” وزرعوها في أدمغة الفئران بدل الخلايا الميتة المنتجة للدوبامين. وبعد أربعة أسابيع، ظهر على الفئران المعالجة تحسن ملحوظ مصحوب باستعادة السيطرة. وهذا أكبر دليل على صحة مبدأ هذه الطريقة من العلاج. وجاء المثال الآخر على نجاح الطريقة في شهر ديسمبر/كانون الاول الماضي حيث أعلن ردولف جانيش أنه استطاع شفاء فأر مصاب بالأنيميا المنجلية عن طريق تنمية خلايا مستحثة متعددة المهام صحح بها الجين المعيب المسبب للمرض، بعد أن استخلصها من خلايا جذعية دموية وزرعها. ويقول ان هناك استخدامات لا حصر لها من طريقة ياماناكا، لذلك ستحدث ثورة في عالمي البيولوجيا والطب.
ولكن، مع ذلك، ربما لن تتغير الأشياء بالطريقة التي يظنها البعض. فمن الناحية النظرية، وعلى غرار الاستنساخ العلاجي، يمكن أن تنفع الخلايا المستحثة متعددة المهام لعلاج الأمراض الشخصية.
ويجبرنا المنطق على هذا الاعتقاد، فإذا ما استطعنا علاج الناس باستخدام أنسجة مشابهة لأنسجتهم من الناحية الجينية فلن تكون هناك مشكلة فيما يخص رفض جهاز المناعة لها. أما على صعيد التطبيق، يظل هذا الطموح هدفا بعيدا مع الواقع المؤلم المتمثل بالاقتصاد في نفقات الرعاية الصحية.
فعلاج مجموعة قليلة من فئران المختبر وشفاؤها من مرض الباركنسون شيء وإنتاج علاجات شخصية للملايين من المرضى المستحقين لها بسبب حالاتهم المتدهورة شيء آخر. ففي الوقت الراهن، تتطلب عملية إنشاء صف منفرد من الخلايا البشرية المستحثة متعددة المهام شهرا كاملا، مضافا عليها أسابيع طوال من إنمائها داخل المختبر للحصول منها على النوع المعين من الخلايا التي يحتاجها كل مريض.
وحتى لو استطاع المرضى انتظار علاجهم بهذه الطريقة، فإن الجهد المضني للوصول لها يعني أن العملية يمكن أن تتكلف مئات الآلاف من الدولارات. أضف إلى ذلك مسألة إقناع السلطات الطبية بأن كل صف من الخلايا آمن وسليم، كما يقول اوكاراما، التي تعمل شركته على تطوير علاجات تعتمد على عدد قليل من الخلايا البشرية المستحثة متعددة المهام، مضيفا أن هذه العملية غير قابلة للتنفيذ من الناحية التقنية، كما أنها مكلفة جدا. ومن ناحية علماء البيولوجيا فهم يتوقعون أن تكون الخلايا المستحثة متعددة المهام أدوات عملهم الجديدة أكثر من كونها علاجات. فإعادة برمجتها ستتيح لهم إمكانية الحصول على صفوف خلايا من المرضى الذين يعانون من حالات سببها عنصر جيني.
كما أن دراسة هذه الخلايا ستدلهم إلى الكثير من المعلومات عن التغييرات الجينية المحددة التي تؤدي إلى تطور المرض وتجعلهم قادرين على اختبار الأدوية المفيدة لعلاجها. ولكن تبقى هناك مشكلة كبيرة: فطريقة ياماناكا تستخدم الرتروفيروسات للحصول على المزيد من الجينات داخل الخلايا المضافة بهذه الطريقة، وهذا ما يضاعف من خطورة الإصابة بالسرطان.
فالرتروفيروسات تعمل على دمج نسخ الجين الإضافية داخل كروموسومات الخلايا، وفي حالة استقرارها في المكان الخاطيء يمكن أن تؤدي لظهور السرطان. والأكثر من ذلك، أن الجينات المضافة بهذه الطريقة تبقى نشطة على الدوام وهذا ما يزيد من مخاطر ظهور الأورام لأن هذه الجينات لها تأثيرات مرتبطة بالنمو. لذلك يخطط ياماناكا حاليا للقيام بإعادة برمجة الخلايا من دون إضافة جين يدعىc-Myc والذي يعتقد أنه الأخطر من بين الأربعة التي استخدمها أساسا.
كما بين أن خلايا الفأر المنتزعة من الكبد أو المعدة هي أقل ميولا لأن تكون سرطانية بعد إعادة البرمجة من تلك التي ينتزعها من الجلد. ولكن ما يحتاجه حقا هو معرفة طريقة إعادة برمجة الخلايا من دون استخدام الرتروفيروسات وكذلك من دون ترك نسخ زائدة من الجينات فتستقر في الجين من دون عمل. وهناك طريقان رئيسيان لعمل ذلك، الأول من خلال إدخال الجينات في الخلية بطريقة لا تجعلها تندمج في الجين. وبالفعل، ادعت شركة تدعى بريمجين من كاليفورنيا أنها استطاعت الحصول على خلايا مستحثة متعددة المهام عن طريق إضافة أنابيب كربونية نانومترية مغلفة بجينات أعيد برمجتها، ولكنها لم تكشف عن النتائج بعد.
أما الطريقة الثانية فهي من خلال إدخال البروتينات التي تتحول مباشرة إلى الخلية، أو إيجاد جزيئات صغيرة لها نفس التأثير ومن السهل نفاذها داخل الخلية. ويعمل شين دينج، من معهد سكريبرز للأبحاث في كاليفورنيا، حاليا على البحث عن مرشحين محتملين لأداء هذه المهمة بين مكتبته الضخمة التي تضم أكثر من 100 ألف جزيء صغير. ويدعي هذا الرجل أنه قادر على إنشاء خلايا مستحثة متعددة المهام باستخدام جين واحد أو اثنين بالإضافة إلى جزيء واحد شبيه بالدواء أو اثنين.
وفي الوقت الذي يعمل فيه الباحثون على عدة طرق لإنشاء خلايا مستحثة متعدة المهام آمنة، يستلهم البعض من طريقة ياماناكا أفكار أخرى لفتح آفاق أخرى من الاحتمالات. ويقول دوج ميلتون إذا كان الهدف تحويل نوع خلية إلى آخر، فلماذا نحتاج العودة إلى البداية؟ لذلك، واعتمادا على طريقة ياماناكا، يدعي دوج في بحث غير منشور أنه تمكن من إنشاء خلايا بيتا بنكرياسية تفرز الأنسولين من نوع آخر من خلايا بالغة متخصصة من دون الحاجة إلى العودة إلى الوراء، أي من دون العودة إلى حالتها الجنينية.
ولكن ألم نسمع عن شيء من هذا القبيل قبل بضعة سنوات؟
فقد وثق عدد من علماء البيولوجيا قبل بضع سنين عملاً مذهلاً قاموا به استطاعوا من خلاله التغلب على تمايز الخلايا. فقد ادعى البعض أنهم حولوا خلايا دماغية إلى خلايا دموية وخلايا النخاع العظمي إلى أي نوع آخر. ولكن العديد من هذه التجارب أثبت أنه من المستحيل إعادتها، أو أن التحول كان بفضل عمل فني من صنع الإنسان مثل دمج خلية مع أخرى.
ويتفق دوج مع الرأي القائل إن التغلب على تمايز الخلايا لا يتم إلا من خلال تجارب مستمرة، ولكنه يؤمن بأن العلم حاليا وصل إلى مرحلة تمكِّنه من تحقيق ذلك، قائلا الكثير من تلك التجارب كانت تتم وفق آليات ضعيفة لذلك قضت عليها الانتقادات. ولكن سيكون من الخطأ الاعتقاد أن ذلك لا يمكن حدوثه. ومن الشركات التي تتعامل مع الاحتمالات العريضة لتحويل تخصص الخلايا هي تلك التي يعمل بها شين دينج، والتي أسست مع كبار علماء الخلايا الجذعية شركة تدعى فات ثرابوتيكس في سياتل الأمريكية.
وتسعى هذه الشركة، إلى جانب تسويق جهود شين في إنشاء صفوف خلايا مستحثة متعددة المهام، إلى تطوير أنواع من الأدوية تتحكم بدفع الخلايا إلى الأمام أو الوراء مع المسارات التطورية الخاصة.
وتتركز إحدى أفكارها على إيجاد نوع من الدم الخاص يعمل على إنشاء خلايا جذعية تعمل على تزويد الدم للمرضى الذين يعانون من أنواع معينة من السرطان وذلك عن طريق تدوير الساعة التطورية لبعض خلايا الدم البيضاء فيها إلى الوراء. وعند تحقيق ذلك يمكن أن تنتفي الحاجة إلى زراعة نخاع العظم والتي ربما ينجم عنها تعقيدات كثيرة. كما ترغب هذه الشركة في تطوير أدوية تعمل على تحفيز الخلايا الجذعية البالغة في الجسم لإعادة تجديد الأنسجة المتضررة بسبب المرض أو الجرح. ويبدو هذا مثل تحويل الناس إلى ما يشبه حيوان السمندر، وهو الهدف الأساسي الذي تعلن عنه الشركة على موقعها في الإنترنت، قائلة يمكن أن تتعزز عملية إعادة تجديد اللواحق أو الأطراف في حالات الإصابة بجروح أو بتر.