النفسجسدية (Psychosomatic)،
هو تداخل الدافع النفسى لتسبيب الوجع الجسدى. والعلاج لا يكون طبيا بحتا إنعكاس تعب النفس على أوجاع الجسد! جسم الإنسان معرض فى أكثر الأحيان إلى الإصابة بالآلام والأوجاع. ويكون المسبب خللا عضويا، يعمد الأطباء إلى الكشف عنه لمحاولة علاجه عبر الأدوية والمسكنات والمهدئات، وحتى عبر العمليات الجراحية.
بيد أن الدراسات الحديثة تسيرمع كل الإختصاصات العلمية لتؤمن أكبر فرصة للتداوى من الأمراض الجسدية على أنواعها التي قد تصيب المرء.
وقد تقدم الطب أشواطا هائلة وحقق إنجازات عظيمة في مجالات عدة، وأمن الدواء للداء والسكون للوجع والتجبير للكسر والعلمية للعلل!
التحدى الجديد – القديم الذى يطرح نفسه عدوا لدودا أمام كل منجازات الطب الحديث والعلم هو كيفية القضاء على "المجهول"!
أى عندما تكون العواقب معلومة والمسببات مجهولة! فبعد أن يعجز الطبيب عن كشف علة المريض، يحيل الأمر إلى آخر فآخر، لتكبر السٌبحة، ولا من يداوي.
ماذا لو كانت نفس الإنسان هى العامل الأبرز فى التأثير على وضعه الجسدى؟ فهل ممكن أن يتسبب التعب النفسى والقلق بأوجاع ممثلة لتلك التى يخلفها خلل عضوى فى جسم الإنسان؟ الجواب هو نعم!
فقد أظهرت حالات عديدة من الآلام المبرحة أن السبب الأساسى لها هو العامل النفسى الذى يدفع بالمرء إلى التنفيس عن سخطه وكبته ومعاناته النفسية عبر طاقته الجسدية، ليولد أحساسا حقيقيا بالوجع، لا يختفى بالعلاجات التقليدية، بل يتطلب شفاء النفس والجسد سواسية...
للبحث والتداول فى موضوع الأمراض النفسجسدية، لابد من التوجه إلى أختصاصيين نفسيين ملمين بهذه المسألة، إضافة إلى أخذ رأى الطب الذى يعمد عادة إلى شفاء الجسد من دون النظر إلى فرضية تأثير العامل النفسى عليه.
السيدة ساندرا خوام، إختصاصية فى علم النفس والنفسجسدية، تعطى وجهة نظر أهل الإختصاص عن هذه الظاهرة المتنامية فى مجتمعاتنا. بيد أن المختصين الملمين فى هذا الترابط ما بين النفس والجسد قليلون جدا...
ترابط النفس والجسد :
تقول خوام إن "النفسجسدية هى مقاربة للإنسان بكامله، من الجهة النفسية إضافة إلى تلك الجسدية. فيتولى الأطباء المختصون العناية بالجسد، فيما يهتم المعالجون النفسيون بالشق النفسى، بغية التوصل إلى الجمع ما بين الإثنين وتكوين الترابط بينهما ليظهر المفهوم الشامل للتعامل مع الإنسان".
تضيف أنه "من الممكن أن تؤثرأمراض جسدية مزمنة على نفسة المرء، كأن يصيب السرطان صاحبة بالإكتئاب مثلا. كما يحتمل أن ينعكس القلق فى النفس على الحالة الجسدية فيولد تشنجات تتحول إلى أمراض".
وتصر على ضرورة الربط ما بين النفس والجسد وتأثيرهما على بعضهما، سلبا أو إيجابيا.
تقول إنه "منذ نحو قرن، بدأت الدراسات تؤكد أن بعض الحالات النفسية تؤدى إلى أوجاع وأمراض. فحتى عندما يمرض الشخص ويكون بحالة نفسية تعبة يتأثر تماثله إلى الشفاء، فيستغرق وقتا أطول أو تسوء حالته وتتدهور. ذلك أنه توجد علاقة وثيقة تسبب فى تأخير شفاء الجسد إثر اعتلال النفس".
الإنسان يجد فى الإعتلال الجسدى حالة للإحتماء، كوسيلة للهروب من الصرعات النفسية.إنها وسيلة يلجأ إليها الإنسان للتنفيس عندما لا يلقى مخرجا لأزمته.
المريــــض :
تشير السيدة خوام إلى أنه "يجب التفريق بين الشخص الذى يحس بأوجاع ناتجه عن سبب عضوى بحت، والذى يشعر بالألم إثر تأثير نفسى.
فعلى المريض أن يستشير طبيبا ويخضع لسلسلة من الفحوصات الكاملة المخبرية والطبية، وصور الأشعة والرنين الصوتى، لكشف سبب إعتلاله.
فمتى ثبت من الصور والفحوص أن لامبرر عضوى للإحساس بهذا الكم من الوجع، ولم تعط الأدوية النتيجة المرجوة. كان السبب المباشر هو تعب نفسي وقلق".
وعن الأسباب، تتوسع قائلة " بادئ ذى بدء، على الطبيب المخول أن يحكم أن السبب ليس خللاعضويا من شأنه أن يسبب هذا الوجع.
فبعد أن يعجز الطب عن إيجاد سبب وجيه لألم جسدى، يرد الأمر إلى تعقيدات نفسية، سببها مشاكل الحياة المتراكمة، أو الضغوط اليومية، أو فقدان شخص عزيز، أو تعب فى العمل، أو إنفصال أليم، أو تقدم فى العمر .. مما يسبب إكتئابا مبطنا، فيعبر الإنسان عن وضعه النفسى عبر إستعمال جسمه للتعبير عما يعجز عن الإفصاح عنه".
إن تفاقم الحالة النفسية عند الشخص يؤدى فى بعض الأحيان إلى طرحه فى خانة المرضى الذين يعانون أوجاعا مبرحة متكررة ومتواصلة، من دون بروز سبب عضوى مقنع...
إنعكاسات جسدية!
تقول خوام إن "الشخص المصاب بالأمراض النفسجسدية يترجمها عبر الإحساس بألم حقيقى فى مناطق من الجسم.
منها على سبيل المثال لا الحصر، أوجاع الظهر، والكتفين، والرقبة، والمعدة، والرأس، إضافة إلى وجع فى الأمعاء والمصران الغليظ والقرحة والصداع النصفى. كما يمكن أن يتسبب ذلك فى أمراض جلدية كالإكزيما وسواها إضافة إلى أمراض القلب".
فقد ثبت عبر الدراسات أن العوامل النفسية، مثل العوامل الكلاسيكية الأخرى كالتدخين والكوليستيرول وإرتفاع الضغط، مسئوولة عن أمراض القلب. وتفسر أن" كل ألم يتعدى مدة الستة أشهر متواصلة، يصبح مزمنا، ويتطلب علاجا عبر الأدوية والجلسات النفسية".
وعن الأشخاص الأكثر عرضة لهذه الأمراض، تقول "الجميع معرض لإنتكاسات نفسية مع تحمل ضغوط الحياة اليومية، بيد أن النساء معرضات أكثر من الرجال لأن المرأة تعيش فى حالة ضياع، ما بين التمثل بموضة الغرب للإنفتاح والتحرر، والتقيد بتقاليد الشرق للإلتزام ومجارة العادات، كما أنها تلاقى صعوبة فى التأقلم ما بين العمل والبيت والزوج والإهتمام بأنوثتها".
تضيف أن "الأطفال أيضا معرضون أحيانا لهذه الأمراض عبر إظهار ألم المعدة قبل الذهاب إلى المدرسة، أو إبان الخضوع لإمتحان ما. وحتى الرضع قد يعانون من إضطرابات إثر العلاقة المتزعزعة مع الأم، فيعبرون عنها بالأرق والغثيان وإكتام المعدة".
صعوبات :
يرى البعض أن إستشارة إختصاصى فى علم النفس هو إيحاءعلى الإصابة بخلل نفسى بارز أو وجود مشكلة عقلية كبرى. لذا، يفضل معظم الأشخاص عدم البحث بالموضوع حتى، ويرفضون الفكرة رفضا قاطعا.
تقول خوام إن "على الناس التخلص من عقدة العلاج النفسى. فبغية أن يتعافى المرء، ويتجنب الترحال الطبى، أى تعدد الأطباء من دون جدوى، والإكثار من الفحوص والصور،ما يشكل عبئا ماديا ومعنويا إضافيا ويخلق حالة من التوتر، عليه أن يقرر العلاج مع الشق النفسى والجسدى".
فالتوعية ضرورية، لأن الأشخاص يعبرون عن ألمهم النفسى عبر الوجع الجسدى. وبعض الناس فى حاجه إلى الإحساس بالوجع، ويعاملونه على أنه صديق لهم فيعبرون من خلاله عما يختلج حقيقة فى نفسهم.
إن تداخل عوامل عديدة مثل شخصية الإنسان وبيئته وخريطته الجينية تشكل إستعدادا عنده للإصابة بالأمراض النفسجسدية وعليه تداركها قبل فوات الأوان.
علاج معقول :
تشرح خوام أن "علاج الأمراض النفسجسدية هو عبر توزيع المهام مابين الطب والعلاج النفسى إضافة إلى جلسات خاصة للإسترخاء. فالأدوية التى هى ضد الإكتئاب لها مفعول بتخفيف الوجع، لكنها لا تقضى عليه من أساسه، وما إن تتوقف حتى يعود الألم وتتدهور الحاله كما السابق".
كمبدأ عام، يخاف البعض من التكلم عن الإحساس بالألم فيعبرون عنه بجسدهم، لذا لابد من وجود شخص مختص يستمع إليهم ويحاكى رغباتهم.
عندما يرى الشخص نفسه فى طريق مسدود يبدأ بإعادة النظر فى خياراته، وقد يتسبب بمشكلة نفسية له، وهنا يأتي دور العلاج النفسى لإكمال الشق الطبي.
إن ردات الفعل التى يمكن أن تصدر عن الأشخاص إثر إعادة النظر فى الخيارات يمكن أن تساعد على تخطى الأزمة، كما يمكن أن تدفع بهم إلى الهاوية.
فمن المستحب أن يوجه الإنسان تركيزه على الناحية الإيجابية عبر توظيف طاقاته فى الإبتكار والإبداع وهذا ما يعرف عنه علم النفس بالتسامى، فيكون قد جابه الضغوط بالإنتاجية للتنفيس عن حاجاته (Sublimation).
كما يمكن أن يتخذ الطريق المعاكس فيمرض جسديا ليبقى العقل متجاهلا لوجود مشكلة. فيشعر بألم فى منطقة معينة من جسمه، أو فى جسمه بكامله لأن نفسه سقيمة حقا (Somatisation).
تقول خوام إن " النفسجسدية مختلفة عن الهيستيريا، لأنها ليست أوهاما أو دلعا، بل إن الوجع حقيقى وفعلى". كما أن الإنسان يجد فى الإعتلال الجسدى حالة للإحتماء، كوسيلة للهروب من الصراعات النفسية.
وقد لاقى هذا الأمر حذوة كبيرة مع إنتشار الطب النفسى، بل تعداه إلى أمراض عضوية. إنها وسيلة يلجأ إليها الإنسان للتنفيس عندما لا يلقى مخرجا لأزمته.
تضيف أنه"لا يكفى أن يبقى الإنسان على قيد الحياة ويداوى جسده، لأن العيش ليس هدفا بحد ذاته. بل إن الحياة مليئة بالأحاسيس الإيجابية والسلبية وعلى الإنسان أن يتعايش مع كل ما يطرأ ويتأقلم معه، وليس أن يلجأ إلى التغاضى عنه وإنكاره، ليكون"حيا – ميتا" أى يعيش من قلة الموت"!