نحب أبناءنا.. نعم. نخاف عليهم.. نعم. لكن أن يتحول هذا الحب وهذا الخوف إلى ملاحقة ومطاردة للأبناء في كل مكان، بل ويصل إلى حد التجسّس والترصّد لكل كلمة.. أو سلوك.. أو حتى لمجرد صمت الأبناء، أو استمتاعهم بأحلام اليقظة، خاصة في مرحلة المراهقة! فهذا هو الخطر الذي يجب أن ننتبه إليه قبل أن يدفع أبناؤنا ثمن خوفنا عليهم.
التفهم والحوار الهادئ
ولتكن البداية من العيادة النفسية للدكتور محمود عبد الرحمن حمودة أستاذ الطب النفسي بجامعة الأزهر الشريف بالقاهرة -مصر- الذي يصف حالة أحد المراهقين الذي اصطحبته والدته للعيادة، وتشكو من إدمانه للحقن المسكنة والبانجو، وهو في الثانوية العامة، وتشكو من عدم إقباله على التحصيل الدراسي. ويقول الدكتور محمود: عندما تعمّقت في فهم نفسيته؛ اكتشفت اعتماديّة مفرطة نمّتها الأم بداخله فهو ابنها الأول، وكانت تذاكر له بنفسها بعض المواد ثم أرغمته على أخذ دروس خصوصية في كل المواد الدراسية بعد ذلك لتضمن له التفوق والنجاح، وحين دخل إلى مرحلة المراهقة كانت شلة الأصدقاء في انتظاره فتولَّوا التوجيه والاحتواء، وإدخاله إلى طريق المخدرات.
ويستطرد الدكتور محمود: لا بد أن نعرف أن المراهق بعد بلوغه يبدأ في سحب شحنة الحب والعاطفة من الوالدين ويوجهها إلى نفسه، وإلى أبطال التاريخ، والقدوة التي تعجبه، ورفاقه (أعضاء الشلة). ومع سحب هذه الشحنة يبدأ في رؤية عيوب الوالدين؛ بل ويضخّمها كسمة انفعالية مصاحبة للمراهق. ويصاحب رؤية العيوب السخرية من الكبار والتوحد مع شلة الأصدقاء والانقياد لهم حتى يحوز القبول منهم، وعصبية الوالدين وثورتهم لا تعيد المراهق؛ ولكنها تلقي به بعيدًا إلى أيدي الرفاق، ولذا فالأفضل التفهم والحوار الهادئ دون فرض سيطرة، أو إصدار قوانين تجعله أكثر عنادًا وتدميرًا لنفسه، فكثير من المراهقين يدمرون أنفسهم بالإدمان للمخدرات، أو عدم المذاكرة والفشل كنوع من العقاب للوالدين.
ومن عيوبنا كمجتمع أن مراهقينا أصبحوا يطلبون حرية التصرفات بلا حدود أو قيود مثل المجتمعات الغربية، في نفس الوقت الذي يتمسكون فيه بنمط الرعاية الكاملة من الوالدين، والاعتماد عليهم من الناحية المادية كما هو واقع في المجتمعات الشرقية، ولذا فإن الحرية التي يطلبونها هي لأخذ فرصة أكبر في الاستمتاع والرفاهية، ولذا فإنهم يجمعون عيوب المجتمع الشرقي من الاعتماديَّة، وعيوب المجتمع الغربي من الحرية.
وأسأل الدكتور محمود حمودة كيف يتحول الحب الزائد والحماية الزائدة إلى نقمة؟
يجيب: الحماية الزائدة في الطفولة تعني عدم إعطاء الطفل فرصة لتنمية اختياراته أو حتى اكتشاف قدراته، فقبل أن يختار تكون الأم قد اختارت له، وقبل أن يعيش خبرة مواجهة موقف تكون الأم قد تدخلت لإنهاء الموقف لصالحه، وهذا الطفل غالبًا ما يكون سلبيًا يشبه الكرة التي يدحرجها آخرون نحو الهدف دون اختيار منها أو إرادة، وهذا الطفل السلبي لا يريد شيئًا كهدف، ولكن الأم هي التي تريد، ودوره غالبًا يكون إما في الاستسلام التام لهذا الدفع بواسطة الأم، أو في المقاومة. وقد تأخذ المقاومة صورة البطء الشديد في التصرفات، فحين يعود من المدرسة يخلع ملابسه في فترة طويلة، ويتناول طعامه ببطء شديد، وفي فترة أطول دون مبالاة بضياع الوقت.
هذا الطفل عندما يصبح مراهقًا لا يكون قد اكتسب أية خبرات مستقلة في طفولته، فتشعر الأم أنه خام وأنه يمكن أن يكون ضحية للآخرين، فتخاف عليه وتستمر في أداء دور الحماية المفرطة، واختيار الأصدقاء ومراقبته، لأنها تعرف تمامًا أنه يسهل السيطرة عليه، فلقد نمت فيه الاعتمادية التامة، ولذا فهو يحتاج إلى من يقوده حتى ولو في اتجاهات خاطئة.
الحــوار
وتلتقط الحديث الدكتورة كريمان بدير أستاذ مساعدة تربية الطفل بكلية البنات جامعة عين شمس -القاهرة/ مصر-قائلة: "إن مدخل المرور من مرحلة المراهقة بسلام هو الحب، ويصل هذا الشعور إلى الأولاد عن طريق الاحتواء، والاهتمام بكل صغيرة وكبيرة في حياتهم؛ فكل لفتة أو أسلوب للحديث أو التأمل لا بد من مراقبته والتعليق عليه ومناقشته، من هنا يشعر الأبناء بالاهتمام وعدم الإهمال؛ مما ينمي لديهم الإحساس بالأمان، ويُقوِّي ضميرهم اليقظ الحر فتقل أخطاؤهم وهفواتهم، كذلك تلعب القدوة دورًا أساسيًا في تكوين شخصية الأبناء، فتقمُّص السلوك العادي التلقائي هو المثال الذي يتبعه الأبناء دون أن يدركوا فلا تحتاج معهم إلى مجهود في الإقناع أو الترشيد أو التوجيه. ومن أهم وسائل السيطرة على سلوك الأبناء إشباع رغباتهم العاطفية، والاعتدال في السلوك، فلا انحراف ولا إفراط في الرعاية ولا إهمال. ويعتبر الوجود المستمر في حياة الأبناء أحد أساليب الحماية من الانحراف والتطرف؛ ويتم هذا عن طريق الحوار الودود المستمر بين كل أفراد الأسرة؛ عن طريق اجتماع يومي لمناقشة أحداث اليوم.
ولا يجب بأية حال من الأحوال استغلال فرص اللقاء اليومي لمهاجمة سلوك الأبناء؛ فتكون النتيجة الإحجام وليس الإقدام، والتركيز على الإيجابيات يعطي مردودًا نفسيًا جيدًا ينمي شخصية الأبناء، ويشعرهم بقيمتهم كأعضاء مهمين في الأسرة.
وتؤكد الدكتورة كريمان على أن دور الأسرة لا يقتصر على توفير المأوى والاعتناء بنظافة الطفل واحتياجاته المادية؛ ولكن تنشئة الأبناء تحتاج قبل كل شيء إلى الحب والانتماء، وليس مجرد ظروف جيدة مناسبة للمعيشة، وأن يتعاون الأب والأم في انتهاج نفس أسلوب التربية والرعاية والحوار بين أفراد الأسرة.
وتحذر الدكتورة كريمان من محاولة تعويض الرعاية الأسرية بالمربيات؛ فتوفير الاستقرار المادي من عائل الأسرة لا يعوِّض الأبناء أبدًا عما يحتاجونه من رعاية ومتابعة.
صادقه سبعًا
قال -صلى الله عليه وسلم- مرشدًا الآباء في تربية أبنائهم في عبارة موجزة جامعة لأحدث أساليب التربية الحديثة قائلاً: "لاطفه سبعًا، وأدبه سبعًا، ثم صادقه سبعًا، ثم أطلق له الحبل على الغارب بعد ذلك…" بهذا الحديث الشريف بدأ الدكتور فؤاد أبو حطب -أستاذ علم النفس بكلية التربية جامعة عين شمس بالقاهرة- حديثه، ثم أوضح: إن ملاطفته تكون في السنوات السبع الأولى من سن الطفل التي يجب أن تكون عيننا عليه في كل تصرف وفي كل سلوك؛ حتى نرشده ونوجهه، فالطفل في هذه المرحلة يكون عنده ما يسمى (باختبار الحدود) أي أنه يختبر دائما ردود فعل والديه على ما يفعله، حتى يعرف حدوده، ويميز بين الصحيح الخطأ.
فقبل أن يبدأ في كسر زهرية أو زجاجة مثلا ينظر إلى والديه، قبل أن يقذفها، فإذا نهراه عرف أن هذا الفعل غير مسموح به، وإذا لم ينتبها إلا بعد كسرها بالفعل فنهراه يعرف أن فعله خطأ، ولا يعود لارتكابه مرة أخرى.
ومن السابعة حتى الرابعة عشر يكون تعليم القيم وتعويد الطفل أو الطفلة على الاختيار مساعدته في ذلك الاختيار وتهيئة فرص هذا الاختيار مثل مناقشته عن كيفية قضاء وقت فراغه أو اختيار دراسة بعض المواد الدراسية. حتى إذا انقضت هذه المرحلة، وانتقلنا إلى مرحلة المراهقة أو المصادقة والمصاحبة يمكن في هذا الوقت أن يكون لدى المراهقين القدرة على اتخاذ القرار، وتكون الأم أقرب -في هذه المرحلة-إلى نفسية الابن والابنة على حد سواء، وتستطيع أن تستشف من ملاحظاتها أشياء يمكن أن تنتبه إليها وتوجه ابنها بطريقة غير مباشرة تسودها المودة، مع إعطائه قدرًا من الثقة والاعتماد على النفس والاستقلال النسبي الذي يعتبر من خصائص مرحلة المراهقة حتى يصل إلى الاستقلال الكامل في سن الرشد، ويكون الزواج مقدمة الاستقلال، لأنه يجمع بين الاستقلال الاقتصادي والاستقلال الاجتماعي عن الأسرة الكبيرة، ولذا فإن من يعوِّد ابنه عدم الاستقلال منذ مرحلة المراهقة يفقده كيانه.
فـن الوالديّة
ويؤكد الدكتور حامد زهران -عميد كلية التربية السابق بجامعة عين شمس، وأستاذ التربية- أن الحماية الزائدة لأطفالنا مثل الإهمال لهم، كليهما خطأ تربوي يعود إلى أننا لم نُعلِّم الآباء والأمهات فن الوالديّة، أي كيف يكونون آباءً؟؟ وكيف يعرفون أن التربية ليست عملية عشوائية؟؟ فهناك كثير من الأخطاء التربوية التي نرتكبها كآباء وأمهات دون أن نشعر ويكون مردودها خطيرًا، فتدليل الطفل لأنه أصغر الأبناء، أو تدليل الولد لأنه ولد وليس بنتًا، وتفضيل المتفوق دراسيًا عن أخوته، كل هذا لا يصح من الناحية التربوية، لأنه يُوغر صدر بقية الأخوة ويولد بينهم العداوة. كما أن التذبذب في المعاملة بين العقاب والثواب على نفس السلوك الذي يقوم به الابن؛ كأن أعاقبه مرة إذا تحدث أثناء حديثي مع جارنا، وأثيبه في مرة أخرى لنفس الفعل، كل هذا يحدث خللاً في المبادئ عند الأبناء. وهناك أيضًا تسلّط بعض الآباء الذين لا يعطون فرصة لأبنائهم في اختيار شيء أو إبداء رأي في شيء، وهذا أيضًا قصور في الوعي عند الوالدين. ويذكر الدكتور حامد زهران شكلاً آخر من أشكال التربية الخاطئة؛ وهو الاختلاف بين الوالدين في أسلوب التربية وفي القيم التي يوجهون أبناءهم إليها، مما يصيب الطفل بعدم الفهم وعدم معرفة الحقيقة، وبالتالي اهتزاز الشخصية.
ويلتقط الدكتور محسن العرقان -أستاذ الاجتماع بالمركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية-مصر- قائلاً: إن الحب هو القدرة على العطاء والأخذ أيضًا، ولذا فإن حب الآباء تجاه أبنائهم إذا تحول إلى خوف زائد ونوع من السيطرة؛ فهو حب مؤذٍ يصيب الأبناء بالتعاسة بعد ذلك، يجعلهم شخصيات مهزوزة لا تقدر على اتخاذ القرارات أو مواجهة المشكلات التي تصادفنا جميعًا في الحياة، ويحتاجون لطلب المشورة في كل صغيرة وكبيرة، ولهذا يضخِّمون المشكلات دائمًا، وتتحول لديهم التحديات العادية إلى مشكلات غير قابلة للحل، ولهذا فأغلب هؤلاء يصبحون انطوائيين، ويصابون بالإحباط، لأننا عندما نستطيع حل مشكلة ما والتغلب عليها نشعر بالثقة بالنفس ونحس بالسعادة، وهذا ما يفتقده هؤلاء الأبناء الذين شاء لهم حظهم أن يُربَّوا بطريقة خاطئة.
ولنا في رسول الله أسوة حسنة
في كتاب تربية الأولاد في الإسلام لعبد الله ناصح علوان -المطبوع بدار السلام للطباعة والنشر- يتحدث المؤلف عن الطرق التي يمكن أن نوصِّل من خلالها الموعظة إلى الأبناء بطريقة غير مباشرة حتى لا يشعروا أننا نتسلَّط عليهم، ومن هذا أسلوب القصّ، أي حكاية قصة فيها معنى ما تريد إيصاله إلى أبنائك، وكثيرًا ما كان الرسول(ص) يفعل ذلك مع أصحابه. وكذلك عن طريق الحوار والاستجواب، فقد روى الإمام أحمد في مسنده عن عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما- قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: أتدرون من المسلم؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: المسلم من سلِم المسلمون من لسانه ويده، قال: أتدرون من المؤمن؟، قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: المؤمن من أمنه المؤمنون على أنفسهم وأموالهم، ثم ذكر المهاجر فقال: والمهاجر من هجر السوء فاجتنبه".
ويمكن أيضًا أن تدمج الموعظة بالمداعبة، فقد روى أبو داود والترمذي عن أنس بن مالك رضي الله عنه: أن رجلاً جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يستحمله بعيرًا من الصدقة ليحمل عليه متاع بيته، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إني حاملك على ولد الناقة، فقال الرجل: يا رسول الله ما أصنع بولد الناقة؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وهل تلد الإبل إلا النوق؟"
فأفهمه رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذه المداعبة أن الجمل ولو كان كبيرًا يحمل الأثقال ما يزال ولد الناقة.
وكذلك يمكن أن تكون الموعظة بالتمثيل باليد أو بالرسم والإيضاح؛ فقد كان رسول- الله صلى الله عليه وسلم- إذا أراد أن يؤكد أمرًا هامًا يمثل بكلتا يديه إشارة منه إلى الأمر الهام الذي يجب أن يهتموا به ويتمثلوه؛ فقد روى البخاري ومسلم عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "المؤمن للمؤمن كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضًا، وشبّك رسول الله بين أصابعه".
وتكون الموعظة أكثر تقبُّلاً إذا امتزجت بالفعل الطبيعي فقد روي البخاريّ في صحيحه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توضَّأ أمام جمع من الناس ثم قال: "من توضأ نحو وضوئي هذا ثم صلى ركعتين لا يحدِّث فيهما نفسه بشيء من الدنيا غفر له ما تقدم من ذنبه".
وكان -عليه السلام- ينتهز المناسبة ليقول الموعظة فتبدو وكأنها تعليق تلقائي، فروى البخاري عن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- قال: قدم رسول الله بسبي فإذا امرأة من السبي (الأسرى) قد تحلّب ثديها إذ وجدت صبيًا في السبي، فأخذته فألزمته ببطنها فأرضعته، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أترون هذه المرأة طارحة ولدها في النار؟ وهي تقدر على أن لا تطرحه، قلنا لا والله، قال: فالله تعالى أرحم بعباده من هذه بولدها".
وأخيرًا فعلى المربي أن يعي أنه إن لم يطبق ما يعظ به فلا أحد يقبل كلامه، ولن يتأثر أحد بموعظته، بل يصبح محل نقد واستهزاء واستهجان الجميع.
ومن وسائل تقوية الصلة بين الآباء والأبناء التشجيع بالهدية لقوله -صلى الله عليه وسلم- "تهادوا تحابوا" وكان عليه الصلاة والسلام يمسح رؤوس الصبيان ويقبَّلهم، جاء في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها قالت: قبَّل رسول -الله صلى الله عليه وسلم- الحسن والحسين ابنا علي، وعنده الأقرع بن حابس التميميّ، فقال الأقرع: إن لي عشرة من الولد ما قبَّلت منهم أحدًا قط، فنظر إليه رسول الله -عليه الصلاة والسلام- ثم قال: "من لا يرحم لا يُرحم".
وكان عليه السلام يباسط الأطفال فقد روى الطبراني عن جابر قال: دخلت على النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو يمشي على أربعة، وعلى ظهره الحسن والحسين، وهو يقول: نعم الجمل جملكما ونعم العيلان أنتما