يقول الإمام ابن قيم الجوزية ـ رحمه الله ـ في فصل عقده لبيان الحكمة الإلهية في الشرائع في كتابه " مفتاح دار السعادة " : " وأما الصوم فناهيك به عن عبادة تكفُّ النفس عن شهواتها، وتخرجها عن شبه البهائم إلى شبه الملائكة المقربين، فإن النفس إذا خُلّيت ودواعي شهواتها التحقت بعالم البهائم، فإذا كفّت شهواتها لله ضيّقت مجاري الشيطان، وصارت قريبة من الله بترك عاداتها وشهواتها ومحبةً له وإيثارا لمرضاته، وتقربا إليه، فيدعُ الصائم أحب الأشياء إليه، وأعظمها لصوقاً بنفسه من الطعام والشراب والجماع من أجل ربه، فهو عبادة، ولا تتصور حقيقتها إلا بترك الشهوة لله. فالصائم يدع طعامه وشرابه وشهواته من أجل ربه، وهذا معنى كون الصائم له تبارك وتعالى وبهذا فسر النبيّ صلى الله عليه وسلم هذه الإضافة في الحديث : " يقول الله تعالى : كل عمل ابن آدم يضاعف، الحسنة بعشر أمثالها ، قال الله تعالى : إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به ، يدع طعامه وشرابه من أجلي " . حتى أن الصائم ليتصوّر بصورة من لا حاجة له في الدنيا إلا تحصيل رضى الله . وأيّ حسن يزيد على حسن هذه العبادة التي تكسر الشهوة ، وتقمع النفس ، وتحيي القلب وتفرحه ، وتزهد في الدنيا وشهواتها ، وترغب فيما عند الله، وتذكر الأغنياء بشأن المساكين وأحوالهم ، وأنهم قد أخذوا بنصيب من عيشهم، فتعطف قلوبهم عليهم، ويعلمون ما هم فيه من نعم الله فيزدادوا له شكراً . وبالجملة فعون الصوم على تقوى الله أمر مشهور، فما استعان احد على تقوى الله، وحفظ حدوده، واجتناب محارمه بمثل الصوم . فهو شاهد لمن شرعه وأمره به بأنه أحكم الحاكمين وأرحم الراحمين، وأنه إنما شرعه إحسانا إلى عباده ورحمة بهم ولطفاً بهم ، لا بخلا عليهم برزقه ولا مجرد تكليف وتعذيب خالٍ من الحكمة والمصلحة، بل هو غايةُ الحكمة والرحمة والمصلحة، وإنَّ شرعَ هذه العبادات لهم من تمام نعمته عليهم ورحمته بهم " .