بعدما أصبح صعود الإسلاميين في بلدان الثورات العربية مسلمة بديهية لدى المتتبعين إثر الحالة المغربية والتونسية ثم المصرية، جاءت الانتخابات الليبية بنتائج فرضت على المتتبعين مراجعة بداهة هذا المعطى. فصعود التيار الليبرالي الواضح بقيادة محمود جبريل على حساب التشكيلات الإسلامية، يدفع إلى طرح التساؤل حول خصوصية الواقع الليبي الذي أفرز هذا المشهد السياسي. انتصرت إذن قوائم تحالف القوى الوطنية في جميع المناطق تقريبا، وحتى في المدن التي اعتبرها البعض معقلا للإسلاميين، وبرز من خلالها محمود جبريل الرجل الأقوى بشعبيته في ليبيا الثورة. مقابل ذلك مني حزب العدالة والبناء المنتمي لحركة الإخوان المسلمين بنتائج دون التوقعات، حسب تصريحات قيادييه. كيف نفسر هذه النتائج؟ وعلى أي واقع تحيل؟ ما من شك في أن الانتخابات الليبية وضعت على الساحة توجهين رئيسيين هما: الاتجاه الإسلامي ثم الاتجاه الليبرالي. وفي حقيقة الأمر يجب توخي الحذر في استعمال المفهومين وخاصة الليبرالي منه، نظرا لخصوصية الواقع الاجتماعي والثقافي العام في ليبيا منذ تولي القذافي سدة الحكم. فالمجتمع الليبي يتميز بمحافظة اجتماعية كبيرة، حتى إن تحالف القوى الوطنية يبرز في صورة حزب محافظ مع مسحة من الانفتاح، أكثرَ منه ليبراليا بالمعنى الذي نعرفه عن الليبرالية وارتباطها بمفهوم الحرية. أي أنه حزب ليبرالي على مستوى شعاراته السياسية العامة، مع محافظة اجتماعية قوية جعلت من اعتبار الشريعة مصدرا للتشريع أمرا محسوما في ليبيا. على عكس ذلك كانت حركة النهضة الإسلامية في تونس قد تراجعت عن هذا المطلب بعد سجال طويل مع الأحزاب والقوى السياسية والمجتمعية الفاعلة، فأيهما أكثر ليبرالية على الأقل في هذه النقطة التشريعية؟ أما الأحزاب الإسلامية الليبية فإضافة إلى محافظتها الاجتماعية شددت على محافظتها السياسية والأيدولوجية، أي أنه إلى جانب الانغلاق الاجتماعي كان هناك خطاب يوحي بالانغلاق السياسي. وربما كان ذلك هو العامل الذي أحدث الفارق ورجح كفة الشق المسمى ليبراليا بقيادة جبريل. المهم أن هذين التوجهين تقدما إلى الانتخابات باعتبارهما بديلين عن الفترة القذافية، وهنا يكمن بيت القصيد الذي يفسر لنا عدم حصول الإسلاميين على أصوات جانب مهم من الشعب الليبي. ففترة حكم العقيد كانت في واقع الأمر فترة إسلامية في عمقها الاجتماعي، ولو أن خطابه الأيدولوجي ترنح يسارا ويمينا وما بينهما. فجانب مهم من التشريع الليبي كان مستوحى من قراءات تقليدية للشريعة، مع مسحة محلية مرتبطة بقوة النزعة العشائرية أحيانا. وعلى مستوى برامج التعليم، وإذا استثنينا هلوسة الكتاب الأخضر، كانت البرامج التعليمية تطغى عليها في هذا البلد المحافظة الدينية التقليدية. وقد خلف هذا التوجه عقما فادحا يبرز بالأساس في ضعف التعليم العالي وفي رداءة نتائجه، وكذلك في الانحسار الكبير للبحث الأكاديمي. ربما بالإمكان هنا إضافة التضييق على مستوى الحريات الاجتماعية من خلال قلة عدد النزل والملاهي وتهميش القطاع السياحي وشدة التمييز بين المرأة والرجل. في وجه هذا الانغلاق، كان الناخب الليبي يرى في برنامج الإسلاميين عودة إلى الوراء وإلى الانغلاق وهو التواق إلى الحرية واعتناق أفق أرحب من سجن القذافي. في سياق هذا التحليل، قرأت على أعمدة جريدة عربية تصريحا لأحد الفائزين من قوائم المستقلين، جسد هذا التوق إلى الانفتاح. فقد عرض عليه أحد الإسلاميين بعد فوزه في الانتخابات عن منطقة الزنتان الالتحاق بصفهم في البرلمان، لكنه رفض العرض وقال إن الشعب الليبي صوت للانفتاح لأنه أضاع الكثير من الوقت وهو سجين بلده ليبيا، وهو اليوم غير مستعد للعودة إلى الوراء. جواب هذا النائب يؤكد أن أحد الرهانات الأساسية للانتخابات الليبية هو رهان الحرية، وخاصة في بعدها الاجتماعي المرتبط بالانفتاح نظرا للكبت الذي تركه نموذج ثورة الفاتح طوال عقود. مسألة الحرية والانفتاح مطروحة كذلك على المستوى الاقتصادي، فحسب مطالعتي لبعض ما يكتب في الصحف الليبية على الإنترنت، ألاحظ طوقا لليبيا ذات اقتصاد منفتح ومندمج في محيطه العربي والمتوسطي والعالمي، خاصة أن البلد يزخر بموارده النفطية. لقد كان هناك تناقض صارخ بين الإمكانيات المالية لليبيا وبين سوق داخلية منعت عنها العديد من المنتوجات وخاصة الخدمات، مما جعل المواطن الليبي دائم السفر إلى الخارج لتلبية حاجياته. يبدو إذن أنه لم يكن بإمكان الإسلاميين في ليبيا طرح بديل مجتمعي يبرز فعلا أنه يقطع مع الوضع المجتمعي الذي كان سائدا، وخاصة على مستوى نمط العيش. هذا على عكس تيار جبريل الذي تولى العلاقات الخارجية للثورة، فبدا رمزا للانفتاح بامتياز. هذا الوضع يختلف عن الحالة التونسية أو المصرية، فالثقافة التي كانت سائدة وكذلك نمط العيش كان محسوبا -ولو على وجه الخطأ- على نموذج الحداثة والانفتاح والتحرر. لكن الحقيقة أن هذا الانفتاح المزعوم وتلك الحداثة المشهدية (spectacle) كانت تخفي نظاما استبداديا افتضح أمره من جراء تنامي الفقر والتهميش. في هذا السياق وعلى أثر انهيار أحزاب السلطة التي هيمنت على المشهد السياسي طوال الاستقلال، مثلت الحركة الإسلامية بخطابها الديني ضمانا للشفافية والنزاهة من ناحية، كما مثلت قوة لملء الفراغ السياسي من خلال شعبيتها والتزامها التنظيمي. لم يتجاوز الرهان الانتخابي في تونس ولا في مصر الانغلاق المجتمعي، بل تجاوز الاستبداد وخاصة تحسين مستوى العيش بمقاومة الفساد. تدفعني هذه المقارنة إلى القول بأن مضمون الحرية الذي تشكلت حوله الثورات الثلاث ليس نفسه. ربما طغى على شعار الحرية في تونس ومصر محتوى التخلص من الفساد والتهميش الاجتماعي، مما يفسر توجه الناخب بكثافة نحو خيار الأحزاب الإسلامية، أي أننا بعيدون عن تلك الحرية الكلية التي تشمل مختلف قطاعات الحياة، والتي لا توجد إلا لدى قلة من النخب الواعية. أما في الحالة الليبية فأرى أن محتوى الحرية الأساسي -فضلا عن التخلص من سطوة شخص- كان الانفتاح. تحيلنا هذه المعطيات المجتمعية إلى نقطة أخرى مهمة تفسر اختلاف نتائج الانتخابات بين ليبيا وجارتيها بعد الثورة، وهي تتعلق بمستوى العيش. ما من شك في أن صوت الناخب الليبي هو في جانب كبير منه انعكاس لواقع اقتصادي واجتماعي لما قبل الثورة. ولفهم دور هذا المستوى في تفسير نتائج التصويت الليبي، لا بد من مقارنته بوضعيات مجتمعية أخرى من بلدان الربيع العربي. إن المقصود هنا بالأساس هو مستوى العيش ومستوى الدخل. ففي الحالة الليبية نعرف أن الثورة قامت في وضع اجتماعي غير متأزم إلى حد ما، فمستوى الدخل الفردي من الناتج القومي الخام في ليبيا وصل إلى 12020 دولارا (عام 2009) وهو الأعلى في أفريقيا، بينما قامت الثورة التونسية والمصرية في وضع اجتماعي تميز بالانتشار الواسع للفقر، حيث بلغ معدل دخل الفرد في مصر 2114 دولارا، وفي تونس 3702 دولار (عام 2008). أضف إلى ذلك أن الوضع في ليبيا لم يكن يشكو كثيرا من اختلال التوازنات الاجتماعية سواء بين الفئات المهنية أو بين الجهات. وهذا يعود كما نعلم إلى تدفق عائدات النفط وما قابله من قلة عدد السكان الليبيين طوال فترة الطفرة النفطية. في نفس الوقت لا يمكننا أن ننكر دور السياسة الاقتصادية والاجتماعية التي اتبعها نظام القذافي والتي تأثرت كثيرا بالخيار الاشتراكي، ولو أن هذا النموذج أعطى في نهاية الأمر خليطا جمع اشتراكية وليبرالية مشوهتين كان من بين رموزها على سبيل الذكر شعار "البيت لساكنه". كانت لنظام القذافي كذلك سياسة تغطية اجتماعية استفادت منها مختلف شرائح المجتمع الليبي، ومن بين أمثلتها دعم المواد الاستهلاكية والمساعدات المقدمة للحصول على السكن. بطبيعة الحال تدخل هذه السياسة ضمن تدجين المجتمع الليبي أكثر من اندراجها ضمن سياسة اجتماعية تهدف إلى الرفع من مستوى حياة المواطن. لكنها لم تخلق في نهاية الأمر وضعا من التهميش المعمم المهدد للاستقرار الاجتماعي والسياسي. فلم تطرح في ليبيا بعد الثورة المسألة الاجتماعية بإلحاح كما هو الحال في تونس وفي مصر، ولم تكن الإشكالية إشكالية شفافية أو ضمانات لإيجاد مواطن الشغل، وإنما كان السؤال الأول هو الانفتاح وبناء ليبيا عصرية. إن مشهد الأعلام الأوروبية في ساحات ليبيا بعد نجاح الثورة لأحسن تعبير عن هذا التوق إلى الانفتاح. هذه بصفة عامة جملة الظروف العميقة التي تبدو -حسب رأيي- بمثابة الحاضنة لتشكل الوعي السياسي الليبي في مراحله الثورية الأولى. بموازاة مع ذلك، دخلت على الخط بعض العوامل الظرفية التي سرّعت وأكدت هذه التوجهات العامة. يتمثل العنصر الظرفي الأول في شخصية محمود جبريل الذي استفاد أيما استفادة من مسؤولياته خلال الثورة، مما أراحه من عناء التعريف بنفسه خلال الحملة الانتخابية. مسؤولية ربطته بأطراف خارجية، وهذا يعني أنه كان في قلب ذلك التوق الليبي إلى الانفتاح والعصرنة. قد نضيف هنا عنصر التحالف الواسع لمن انخرطوا في التوجه الليبرالي حول شخص واحد، مما أعطى صورة الحزب القوي في عيون ليبيين شغوفين على إعادة بناء لحمة الوطن الذي استرجعوه. إن غياب السجال الفكري وهيمنة فكر القذافي الغريب لم تترك مجالا لنمو الحركات الفكرية ولتعدد الأيدولوجيات. لم يحصل هذا في تونس وفي مصر حيث ثشتت الأصوات بسبب تعدد التوجهات الأيدولوجية التي تعود إلى عراقة الحراك الفكري في البلدين. على جبهة التيارات الإسلامية، لا بد من الإشارة إلى حداثة التجربة التنظيمية الحزبية للتوجه الإسلامي في ليبيا، مقارنة مع عراقة التنظيم الإخواني في مصر (1928) والنهضة في تونس (1981). لكن هذا لا يعني غياب الإسلاميين الليبيين قبل ذلك بالطبع. على مستوى التيار الإسلامي دائما، ربما كان للأحداث التي ارتبطت بالسلفيين في تونس ومصر صدى سلبي على الناخب الليبي، وخاصة الخوف من العودة إلى الانغلاق من جديد. نحن إذن أمام وضعيات اجتماعية وثقافية وحتى نفسية جماعية مختلفة، ففي ليبيا توجه نحو الانفتاح والعصرنة، وفي تونس ومصر رد فعل عقابي على سلبيات العصرنة والانفتاح. في تونس ومصر مطلب الحرية موسوم بالتطلع إلى تحسين مستوى العيش، أما في ليبيا فالحرية مطبوعة بالبحث عن تطوير نمط العيش.