أنكر معظم علماء السلف ومن تبعهم من العلماء الذين اتخذوا السلفية منهجا -إن لم يكونوا جميعهم- على الصوفية الكثير من المنكرات والانحرافات وخاصة في ميداني الاعتقاد والتعبد، إذ بلغت المخالفات حدا جعل الكثيرين من العلماء اعتبار بعضهم من المبتدعة المغالين في دين الله سبحانه، وأنهم يأتون من الدين ما لم ينزله الله في كتابه وما لم يقله النبي صلى الله عليه وسلم. واستمر إنكار علماء الأمة من أهل السلف ومن تبعهم على إنكار كل هذه المظاهر والأفكار؛ بل ومحاربتها ليردوا الناس لمعين الدين الصافي على فهم صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم فهم خير القرون بتزكية الله ورسوله لهم. لكن هناك مظهرا صوفيا بعيدا عن العقيدة والعبادة تسلل إلى نفوس بعض طلاب العلم ممن ينتمون للسلفية منهجا، وتغلغل داخل هذا البعض لدرجة أنه يحتاج بالفعل بين كل حين وآخر للمراجعة والتوقف عنده؛ بل محاربة ظهوره وانتشاره وتغلغله، وهو خطأ تربوي وسلوكي يحتاج للتقويم، ألا وهو التمحور حول شخصية العالم أو المذهب، فلا اعتبار لشيخ آخر ولا لباقي المذاهب ولا لعلمائها واستدلالاتها الفقهية. القطب الولي.. تلك الفكرة الخبيثة: لعل من أشنع ما ينكره أهل العلم على المتصوفة اعتمادهم لفكرة وجود (القطب)، وهي فكرة أن الولي عندهم كقطب السماء الذي تدور حوله الكواكب السيارة والنجوم ويستمدون ضوءهم وحرارتهم منه، ويساعدهم على ذلك تقسيمهم للدين لقسمين أساسيين وهما: الشريعة والحقيقة، والشريعة تدرك بالعلوم التي من بينها القرآن والسنة، وهذه يمكن للعوام إدراكها، أما الحقيقة فلا يدركها إلا الأقطاب الأولياء، ولهذا فللقطب أن يتحدث في كل شيء حتى لو كان مخالفا للشريعة ويستطيع أن يدعي أنه علم باطني لا يطلع عليه كل أحد استدلالا بقولهم الفاسد مستغفرا الله منه: "لقد خضنا بحرا وقف الأنبياء بساحله". ولهذا فالقطب عندهم لا يعارضه أحد ولا حتى من يحمل لواء الشريعة والدليل، فقول القطب أقوى من الدليل، والانصياع لقول القطب هو الذي يضمن لهم النجاة من بحار الأهواء والأنواء، وهذا فساد ما بعده فساد في دين الله سبحانه، إذ يكون قول الشيخ مهدرا لقيمة الدليل الشرعي ويجعل الدين ألعوبة في آحاد الناس الذين قد يكونون أجهل الجهلاء في دين الله وهو الأمر الشائع والمنتشر فيهم. ولقد تسرب هذا المفهوم في صور أخرى أخف وطأة منه لكنه يحمل خطرا كبيرا وشرا مستطيرا على الإسلام والمسلمين عامة وعلى أبناء الدعوة السلفية خاصة، وهو مفهوم نما عند البعض منذ فترة طويلة من الزمن، يتحزب فيه التابع لرأي الشيخ الذي قد يستدل على قوله بدليل يرجحه على غيره، أو يستنبط من قواعده الفقهية التي رجح حجية بعضها من أدلة الأحكام المختلف فيها، فيتحزب له طالب العلم تحزبا يجعله مهدرا لأي قول آخر غير قول شيخه منتقصا له، بل ربما يتهم غيره من المذاهب الأخرى أو ممن يتبعون شيخا غير شيخه بالتفريط والبعد عن الجادة. ولقد بلغ ذلك التحزب مبلغا عظيما في تفرقة أبناء الإسلام في عصور ساد فيها الجهل وعظم تقديس قول الشيخ أو الإمام لدرجة أن الشيخ سيد سابق يرحمه الله صاحب كتاب (فقه السنة) ذكر في مقدمته: "إلا أن الناس بعدهم قد فترت هممهم، وضعفت عزائمهم وتحركت فيهم غريزة المحاكاة والتقليد، فاكتفى كل جماعة منهم بمذهب معين ينظر فيه، ويعول عليه، ويتعصب له، ويبذل كل ما أوتي من قوة في نصرته، وينزل قول إمامه منزلة قول الشارع، ولا يستجيز لنفسه أن يفتي في مسألة بما يخالف ما استنبطه إمامه، وقد بلغ الغلو في الثقة بهؤلاء الأئمة حتى قال (الكرخي): "كل آية أو حديث يخالف ما عليه أصحابنا فهو مؤول أو منسوخ"، وبالتقليد والتعصب للمذاهب فقدت الأمة الهداية بالكتاب والسنة، وحدث القول بانسداد باب الاجتهاد، وصارت الشريعة هي أقوال الفقهاء، وأقوال الفقهاء هي الشريعة، واعتبر كل ما يخرج عن أقوال الفقهاء مبتدعا لا يوثق بأقواله، ولا يعتد بفتاويه". ووصل الحال لمستوى من تعظيم قول الشيخ أو الإمام إلى أن وصل بالبعض من طلاب العلم أن يسالوا أسئلة عجيبة نظرا لاختلافهم في حكم تزوج الحنفية بالشافعي، فقال بعض علمائهم: "لا يصح لأنها تشك في إيمانها"، بينما قال آخرون: "يصح قياسا على الذمية"!!!، لأتباع مذهبنا الزواج من أتباع المذهب الفلاني؟ ويأتي الجواب الأعجب من الشيخ فيقول: "نعم قياساً على الكتابية"!!، وتجد كثيرا من الأسئلة عن حكم إمامة المخالفين في المذهب وهل تصح الصلاة وراءهم أم لا؟ وغير ذلك من مظاهر الغلو في الاتباع. وماذا لو كان الخلاف ليس فقهيا محضا؟ قد يكون الخلاف الفقهي مستساغا ومقبولا إذ يلتزم كل إمام وطالب علم بالدليل الفقهي وربما يتحيز له، لكن هناك خلافات لا تجد فيها أدلة واضحة فقهية كالقضايا المستحدثة وكقضايا علمي الاجتماع والسياسة ممن يحتاجها الناس ويسألون العلماء فيها، فيقول العالم فيها برأيه بناء عن ترجيح لبعض الرؤى على بعضها البعض وربما يغير رأيه بعد توافر العديد من المعطيات التي كانت غائبة عنه. فيسأل شيخ عن قضية فكرية أو تربوية أو اجتماعية أو سياسية، فربما لا يوجد أو لا تتوافر له كل المعلومات التي تساعده على اتخاذ رأي واضح وقاطع، وربما يسأل عن قضية مستقبلية يطلبون فيها الرأي لكي يسيروا عليه، مثل خلاف الدخول في الانتخابات، وترجيح بعض المرشحين على بعضهم، أو اتخاذ موقف في استفتاء وغيره، فنجد أن العالم أو الشيخ يعطي فيها رأيا، فيتحزب أتباعهم حول ذلك الرأي رافضين مجرد مناقشته ويعتبر بعضهم المخالفين لرأي شيخهم مقصرين أو مفرطين أو مبتدعة، والغريب أن الشيخ قد يرجع عن قوله الأول للقول الثاني بعد ظهور مزيد من المعلومات أو بعد بحثه واسقرائه لآراء أهل العلم فيه، فيعود الأتباع بنفس الحماس للرأي الثاني ويتعاملون مع أصحاب الرأي الأول بنفس الطريقة. في كثير من الأحيان بل في غالبها يكون الشيخ بريئا مما يفعله أتباعه ومتجردا لم يزرع فيهم هذا الشعور وربما لا يجيزه، لكنه مسئول بالدرجة الأولى عن تصحيحه لهم إذا انتبه إليه أو رآه بينهم، فلا بد عليه من طرحه ومناقشته وتبيان وجه الحق فيه والإلحاح عليه حتى تستقيم أفهامهم في ذلك منهجيا. دور الشيوخ والدعاة والعلماء إذن، فتلك القضية التربوية الخطيرة لا بد وأن يتقدم العلماء بأنفسهم ولا أحد غيرهم لإنهائها وإزالتها ويجففوا منابعها، بدلا من ترك طلابهم يتخبطون فيها وكل ينتصر لرأيه ولشيخه ولمذهبه، فالشيخ مسئول بداية عنها ولا يسعه السكوت فيها فقد يضفي عليها شرعية بسكوته عنها حتى لو كان منهجه خلاف ما فهمه أتباعه. وهكذا قام سلف الأمة بدورهم وبقي على من بعدهم أن يكملوا مسيرتهم، وذلك في أقوالهم وأفعالهم المتكاثرة التي كانت تؤكد دوما على أتباعهم الدليل ويلزمون أتباعهم بالبحث عن الدليل فقط لا عن الانتصار لرأي الشيخ، وذلك مع احترام كامل وتقدير كبير لاجتهاد المخالفين خلافا معتبرا وتقدير علمائهم وإنزالهم مكانتهم اللائقة. وهذا الإمام أحمد بن حنبل الذي يرى الوضوء من الرعاف (خروج الدم من الأنف) والحجامة فقيل له: فإن كان الإمام (ويقصدون بذلك من على مذهب الإمام مالك بن أنس حيث لا يرى الرعاف مبطلا للوضوء) قد خرج منه الدم ولم يتوضأ هل يُصلى خلفه؟ فقال: "كيف لا أصلي خلف الإمام مالك وسعيد بن المسيب؟!!".