النصارى في الدولة الزنكية

الناقل : elmasry | الكاتب الأصلى : د. راغب السرجاني | المصدر : islamstory.com

كان تعامل الدولة الزنكية مع النصارى تعاملاً راقيًا، وقد شمل تسامح الزنكيين مع غير المسلمين مَنْ حاربهم -أيضًا- من النصارى؛ وذلك أنهم كانوا يُؤْثِرُون الصلح متى وجدوا إليه سبيلاً، كما أنهم كانوا يُطلقون للعدوِّ أسراه؛ زيادة في الإحسان إليه.. فقد أقام نور الدين محمود بن عماد الدين زنكي صُلحًا مع الإمبراطور البيزنطي مانويل، منع بموجبه حربًا كانت على وشك الحدوث -رغم قوَّة استعداد جيشه للمعركة- وذلك في جُمَادَى الأولى سنة 554هـ، وقد تضمَّن اتفاق الصلح أن يُطلق نور الدين محمود سراح ستة آلاف من الأسرى النصارى الذين كانوا عنده(1).
وإن إطلاق مثل هذا العدد الكبير من الأسرى في مرَّةٍ واحدةٍ يُشير -وبوضوح- إلى حبِّ الزنكيين المسلمين للسلام والوئام مع غير المسلمين، وإيثارهم للإحسان على الإساءة، رغم قدرتهم على خوض الحرب والانتصار فيها، كما يُنبئ -أيضًا- عن أخلاق حسنة عامل بها المسلمون غيرَهم إِبَّان الدولة الزنكية.
ومن الأمثلة البارزة على تسامح الزنكيين قيام نور الدين محمود عقب معركة حارم في رمضان سنة 558هـ -والتي استعاد فيها نور الدين محمود بن عماد الدين زنكي هذا الحصن التابع لإمارة أنطاكية من أيدي الصليبيين، وأَسَرَ عددًا من أمرائهم- بإطلاق سراحِ كُلٍّ من قسطنطين كولومان حاكم كيليكية البيزنطي، وبوهيمند الثالث صاحب أنطاكية، وقد كان في إمكانه قتلهم، إلاَّ أن العفو كان هو ما حدث في واقع الأمر(2).
ولم يُعرَف عن نور الدين محمود القائد المسلم أيَّ تعصب، فكانت نفسه من السماحة بمكان، وقد اكتسب ذلك من طبيعة الإسلام السمحة؛ وقد حارب الصليبيين لأنهم مغتصبون معتدون، لا لأنهم نصارى. ومن هنا فإنه لم يمسَّ النصارى الوطنيين بسوءٍ، وكان لهم عنده حقُّ الرعاية الكاملة؛ فلم يهدم في حياته كنيسة، ولا آذى قسًّا أو راهبًا، على عكس ما كان يفعله الصليبيون.
وقد أكسبته سماحته هذه احترام خصومه من الصليبيين؛ فكانوا على عداوتهم له يحترمونه ويعترفون له بالامتياز عليهم، حتى إن المؤرِّخ وليم الصوري، الذي أفاض في كتاباته بالحقد على الإسلام والمسلمين؛ لم يستطع إلا أن يعترف بفضله وعدله وصدق إيمانه(3).
المصدر: كتاب (مستقبل النصارى في الدولة الإسلامية).