من صفحات المقاومة الإسلامية الباسلة في العراق ما أشبه الليلة بالبارحة.. فمدينة "الفلوجة" العراقية كانت خلال الأعوام الأخيرة محوراً لأحداث جسام، واجهت فيها المقاومة الباسلة لأهلها قوات الاحتلال الأمريكي المدججة بالسلاح، وحرمتها من دخول المدينة. وكأنَّ التاريخ يعيد نفسه؛ فأثناء الحرب العالمية الثانية قبل حوالي 65 عاما، وبالتحديد في العام 1941م، وبينما بريطانيا قد فرضت انتدابها على العراق، بعد أن احتلته قواتها في أعقاب الحرب العالمية الأولى وفصلته عن الدولة العثمانية، حاولت قوات الاحتلال البريطاني دخول الفلوجة لتأديب المقاومة ضد المحتل، فواجهت دفاعا مستبسلا وشرسا من أهلها، فلجأت إلى أبناء الأقليات من الأشور واليهود، وسلطتهم لإيذاء الأهالي. وقد سجَّل شاعر العراق "معروف الرصافي" هذه الأحداث مصوراً كبرياء وعزة أهل الفلوجة في قصيدة بعنوان: "يوم الفلوجة": يقول الرصافي:
فالقصيدة من الشعر السياسي المندد بالإنجليز يوم أقدموا على احتلال الفلوجة بالعراق، وهي من البحر الخفيف. والشاعر هنا يتوعَّد المعتدين بأنَّ بغيهم وظلمهم وعدوانهم لن ينساه أهل الفلوجة. وأنَّ الرد الوحيد على هذا البغي والعدوان لن يكون إلا بقعقعة السلاح الذي عبر عنه الشاعر بـ "المواضي" وهي السيوف. فبهذا وحده يشفى الجريح والشجيج الذي خلفه عدوان المحتل الغاصب، وتشفى { صدور قوم مؤمنين ويذهب غيظ قلوبهم }. وهذا العدوان الذي عبَّر عنه الشاعر بـ "الكرب" تأبى عزة وكبرياء وحمية أهل الفلوجة أن تفرجه بغير القتال والجهاد والمقاومة، التي عبَّر عنها الشاعر بـ "السيف". ثمَّ يظهر الشاعر البعد العربي والإسلامي لهذه القضية، حيث تتجاوب مع جرح أهالي الفلوجة مدن العراق الأخرى "العراقين" وهما البصرة والكوفة تاريخياً، والشام "سوريا ولبنان وفلسطين والأردن"، وبيت الله الحرام قبلة المسلمين "ركن البنية المحجوجة"، كلها تتضامن مشاعرها وتبكي لجرح الفلوجة. ثم يقول الشاعر:
فالشاعر ينتقل هنا في المقطع الثاني من القصيدة، ليصوِّر حال جيش الاحتلال الإنجليزي المغرور، وهو يعيث في المدينة فساداً، ويغري أبناء الأقليات من اليهود والآشوريين بإيذاء أبنائها الآمنين. فقد حلَّ جيش المحتل المدينة يريد انتقاماً من أهلها المقاومين، ويغري بسكانها "علوجه" اللئام الضخام الجثث من غير المسلمين، الذين أعملوا القتل والتخريب بها. ويعيب الشاعر على الآشوريين الذين تعاونوا مع المحتل وهم عراقيون، ويصفهم بـ "الذئاب"، فهذا الذي فعلوه يجرّ عليهم العار والشنار كعراقيين. كما يعيب على المحتلين لجوءهم إلى اليهود واستعانتهم بهم واتخاذهم "وليجة" أي مساعدين في عدوانهم على المسلمين، مستهينين بدمائهم وأعراضهم. فهم لا يتجرؤون إلا على العزَّل فيسفكون دماءهم بالغدر الممزوج بالخيانة، ويستبيحون أموالهم، ويقطعون بينهم وبين أهليهم كل وشيجة وآصرة. ثم يقول الرصافي:
وفي المقطع الثالث من القصيدة، يفنِّد الشاعر معروف الرصافي دعاوى المحتلين المعتدين، الذين جاؤوا إلى العراق آنذاك ليحققوا رسالة الرجل الأبيض، لتمدين العالم، فإذا الوقائع والأحداث تكشف زيفه وتفضح أطماعه، وتظهر همجيته ووحشيته، وبعده عن معنى التحضر. "أفهذا تمدن وعلاء؟!" يتساءل الشاعر متعجبا ومستنكراً، ما يدعيه هؤلاء المعتدون، أم أنَّها السكرة والنشوة التي انتابت بريطانيا وجيشها بعد أن انتصرت مع حلفائها على دول المحور "ألمانيا وإيطاليا والدولة العثمانية" في الحرب العالمية الأولى (1914ـ1918م)، واحتلت على إثرها العراق، وهي حرب غير ناضجة لا في أسبابها ولا في نتائجها. فهي حرب كالطفل الخديج الذي ولد بشكل غير طبيعي ولا يرجى له حياة. ولذا فهم يذكرهم بهزيمتهم التي تبعثر فيها جيشهم "مبذعرا" في "بحر إيجه" أمام الأسطول العثماني، حيث هوى حصن "إقريط" وأمسى جيش المحتلين قذى على "عين فيجة" بدمشق. ويتوعَّد الشاعر المحتلين بالخزي والعار والهزيمة أمام بسالة العراقيين وإصرارهم على المقاومة:
يفتخر الشاعر بوطنه العراق، متمنياً السعادة للوطن وشعبه، ويدعو الله لأرضه بالخصب والنماء، ولو لم تكن له فيه ناقة تنتج، أو كان يرعى رياضه ومروجه الخضراء، فدافعه هو الحب الخالص للعراق، المنزه عن المصلحة الشخصية. ويكفيه أن يتغنى بعزة العراق ومنعته، "جاعلاً ذكر عزه أهزوجة". ثمَّ يعود الشاعر ليؤكد أنَّ عيش الإنسان لا يكون إلا بعزة، فعيش الذل مر ممجوج يأبى أن يتجرعه الإنسان الأبي الكريم. ويختم الشاعر قصيدته بالثناء على بلاد الرافدين وأبناء الرافدين، مرسلاً لهم بالشكر على بسالتهم واستماتتهم في المقاومة، ويخص بالسلام الفلوجة مصنع الرجال وجامعة الأبطال. وكأنَّ التاريخ قد أكمل دورته خلال ما يربو على ستين عاما، فعادت قوات بريطانيا متحالفة مع أمريكا لاحتلال العراق، لكن قوات بريطانيا قد وعت الدرس واكتفت بجنوب العراق، تاركة قوات الإحتلال الأمريكي يقودها الغرور لمصيرها المشؤوم في مواجهات دامية مع مجاهدي الفلوجة الأبطال في وسط العراق. بينما صمود أبناء الفلوجة في مواجهة أعتى قوة على سطح الأرض، أمر يشبه المعجزة، فالحرب صارت بين أمريكا العظمى والفلوجة (!)، مثلما كانت قبل قرن بين بريطانيا العظمى والفلوجة. وما ضر لو استبدلنا كلمة "الأمريكان" بكلمة "الإنكليز" التي وردت في مطلع القصيدة، فلن يختلف السياق كثيرا،.. وما أشبه الليلة بالبارحة!