يتداول كثير من المفكِّرين وطلبة العلم في مجالسهم؛ الحديث عن بعض الأخطاء التي تقع فيها المجتمعات والشعوب الإسلاميَّة، ولا شكَّ أن طرح تلك الأخطاء والممارسات السلبيَّة ومناقشتها لتشخيص العلاج الناجع لها، ومحاولة بذره في الأوساط الاجتماعية والشعبيَّة؛ أمر يجدر الاهتمام به من قِبَلِهم، والاعتناء بدراسة حلوله فيما بينهم. إلاَّ أنَّ بعض المفكِّرين وأهل العلم والدعوة، قد يغفلون أثناء صراعاتهم الفكريَّة، أنَّ الشعوب الإسلاميَّة هي رأس مالهم، وأساس بنيانهم، ومستودع دعوتهم؛ لأنَّ هؤلاء المفكرين والعلماء والمثقفين هم القادة الفعليون لشعوبهم ومجتمعاتهم، والشعوب هي الجنود التي يقودها ويسوسها هؤلاء القادة في قطار الدعوة الإسلاميَّة، وركب العمل الإسلامي. وما شهدنا من فترات سواء كانت بعيدة الأمد، أو قريبة العهد، من تحرُّكات الشعوب، وانتفاضة المجتمعات الإسلاميَّة، لهو خير شاهد على أنَّ الشعوب الإسلاميَّة هي الرصيد المتنامي، والمخزون الفعلي المتراكم لمن يقودهم ويحركهم. ولا أدلَّ على ذلك من اختيار الشعوب للإسلام واقتناعهم بأنَّه هو الحل، عن البدائل الأرضيَّة، والقوانين الوضعيَّة، مع المحاولات الكثيرة من أعداء الشريعة الإسلاميَّة بشتَّى الطرق للغزو الفكري لهذه الشعوب الإسلاميَّة. وإذا قلَّبنا صفحات تاريخنا المعاصر فإنَّا واجدون أنَّ هذه الشعوب لا تختار إلاَّ الإسلام حكماً وشريعة ومنهاج حياة، وإن كانت مقصِّرة في تطبيق الإسلام، فلا ننسى اختيار الشعب الجزائري عام 1992م لمن يحكمهم من الإسلاميين، وكذا الوضع في تركيا، ومصر، وغيرها من البلدان الإسلاميَّة. و ممَّا يبتهج له المرء في هذا الإطار ما اختاره الشعب الفلسطيني بكامل إرادته ورغبته لحركة المقاومة الإسلاميَّة حماس، وتيقُّنه أنَّها الممثِّل الشرعي له، وذلك لانتسابها للإسلام، وتمسكها بنهجه، ولهذا اختارها، لإدراكه بأنَّ الإسلام هو الحل. وكذلك ما شهدنا من الغضبات الشعبيَّة الإسلاميَّة العارمة تجاه الإساءة لرسولنا وحبيبنا محمد بن عبدالله ـ صلَّى الله عليه وسلَّم ـ من مظاهرات واستنكارات ومقاطعات شعبية إسلاميَّة عامة، أخافت الكفَّار وأغاظتهم، وأشعرتهم بأنَّ الأمَّة الإسلامية فيها خير كثير ولله الحمد، وأنَّهم لم يقبلوا ولن يقبلوا بسب أعظم إنسان مشى على وجه الأرض، لأنَّه رسول البشريَّة جمعاء. أيضاً ما شهدناه من تدافع شعوبنا المسلمة إلى التبرع وبذل المال لمن أصيبوا بالنكبات والجوائح القدرية، كالباكستان، والنيجر، وتشاد، وغيرها؛ فقد كان لشعوبنا موقف جدير بالذكر، من بذل للأموال والنفس والنفيس، إغاثةً لإخوانهم المسلمين، وحملاً لهمِّ المستضعفين، ونصرةً لهم ووقوفاً معهم صفّاً واحداً، فلسان حالهم: إنَّا وإن كرمت أوائلنا لسنا على الأحساب نتَّكل نبني كما كانت أوائلنا تبني ونفعل مثلما فـعـلوا بل إنَّ تحركات الشعوب هي التي أثَّرت في النخب، وأعطتهم مدّاً كبيراً من البذل والتوجيه، والدفاع والنضال عن نبيِّنا محمد صلَّى الله عليه وسلَّم. وهذا ما يؤكِّد أنَّ شعوبنا وجماهير أمَّتنا المسلمة ـ وإن كان فيها ما فيها من مظاهر النقص عن الالتزام بدين الإسلام ـ إلاَّ أنَّها بدأت تدرك وبجديَّة، أنَّ الإسلام هو البديل الصحيح لشتَّى البدائل الأخرى، وأنَّه المنهج الصحيح ولو كان فيهم من فيهم ممن يعتريه النقص وعدم التمسك التام والالتزام بدين الإسلام، ومن سأل كبار السن والخبرة: كيف كانت الشعوب المنتسبة للإسلام قبل خمسين سنة؟ لأجابوا بأنَّ هذه الشعوب كانت مغيبة عن دينها، ومضيعة لشرائعه، وقلَّ منهم من يشعر بشعور إخوانه ـ إلاَّ من رحم الله، وقليل ما هم ـ. وبكلمة أخرى فقد صارت شعوبنا ومجتمعاتنا الإسلاميَّة ـ بفضل الله ـ على قدر كبير من وعيها للأحداث، ومتابعة كثير من أبنائها لهموم أمَّتهم، والوقوف معهم، ولولا أناس يكيدون لهم بالتغريب، ويمنعونهم من الانتساب لمنهج الإسلام، ويدسُّون لهم السمَّ الزعاف، لحرْفِ أفكارهم وتحركاتهم عن دين الإسلام، لرأينا ـ بصورة أكثر وضاءة وإشراقاً ـ من شعوبنا الإسلاميَّة موجةً دفَّاقة من البذل والعطاء لأعمالنا الإسلاميَّة، ومشروعاتنا الدعوية. وإنَّ ممَّا يبهجنا أنَّه قد صار لشعوبنا الإسلاميَّة موقف يحسب له أعداؤنا ألف حساب، قبل أن يتحركوا بتحركاتهم السلحفائيَّة والبطيئة لقلب الحق باطلاً، وزرع الفساد والعهر بين الأوساط الإسلاميَّة، حتَّى أيقنت الشعوب الإسلاميَّة بمدى قوَّة الإسلام، وبدؤوا يستردُّون الثقة بأنفسهم ومنهجهم ـ وإن كان ذلك دون المرغوب فيه ـ إلاَّ أنَّ هذا المدَّ المتصاعد يبشِّرنا بخير كثير. وإذ أكتبُ هذا المقال فإنِّي لا أقصد منه أن نربِّتَ على أكتافنا، ونخدِّر جوارحنا عن العمل والعطاء لدين الإسلام، وعن النصح والتوجيه لمجتمعاتنا وأمَّتنا الإسلاميَّة، ولكنِّي أحب الانتهاج بمنهج خير المرسلين محمد بن عبد الله ـ عليه من ربنا أفضل السلام وأزكى التسليم ـ فقد كان يستخلص المنح من ظروف المحن، ويزرع التفاؤل في أوقات الشدائد. وهكذا فلنكن، زارعين الخير لمجتمعاتنا، لنبذر الإيجابيَّة في أوساط الشعوب فنحصد ما جنته من خير، ونكون مبتعدين قدر الإمكان عن النظرات السوداويَّة، التي لا ترى إلا النقص والخلل، ورسولنا الكريم يقول (من قال هلك الناس فهو أهلَكَهُم ـ وفي رواية ـ فهو أهلكُهم) أخرجه مسلم في صحيحه. فإذاً من المهم أن نعدِّل نظرتنا لجماهيرنا وشعوبنا، وندرك إيجابيَّتها، ومدى تفاعلها مع مشاريعنا الآنيَّة والمستقبليَّة، كما أنَّه من الأهميَّة بمكان أن يكون للنخب التصاق بشعوبهم ومجتمعاتهم، وأن ينزلوا إلى واقعهم، ويعايشوا همومهم، ليكون لهم تأثير أكبر وأقوى، وحقاً فإنَّه: يكسب الرهان من يربح الشعب بيده، و إذا لم يكن لنا تعايش مع شعوبنا ومجتمعاتنا الإسلاميَّة، فسيسعى بشكل واسع قوم فاسدون يحاولون التأثير عليهم، وغزوهم بشتَّى الأفكار المنحرفة. ومن هذا المنطلق فإني أرى عدة لوازم لأهل العلم والفكر والدعوة، تجاه شعوبهم الإسلاميَّة، وجماهيرهم الشعبيَّة، الذين ينتظرون همس كلامهم، وعميق تفاعلهم معهم، ومن ذلك: 1ـ استمرار التوجيه والبذل الفكري والدعوي لهذه الشعوب، وربطها بعقيدة أهل السنَّة والجماعة، والانتظام بسلكها، والحذر من مخالفتها. 2ـ تثمير المواقف الإيجابيَّة التي تقف بها الشعوب، والثناء عليها، ومساعدتها بالمضي بذلاً وعطاءً. 3ـ استمرار التأكيد والتنبيه على قضية هامَّة، بأنَّ قاعدة الانطلاق التي تحركنا كشعوب ومجتمعات هي ديننا وشريعتنا، مع العاطفة النبيلة والمنضبطة بضوابط الشرع ومحكماتها، فلا تحركنا قومية أو إقليميَّة، و أن كل من ينتسب لدين الإسلام فله ما لنا، وعليه ما علينا، وقد قال ـ تعالى ـ: {إنَّما المؤمنون إخوة}. 4ـ تنبيه الشعوب أنَّهم في ركب الجنديَّة، ولا بد من قائد يقودهم، وموجِّهين ينصحونهم، وهم رجال الشريعة والفكر والخبرة، فلا يندفعون تجاه أعمال قد تكون مضارّها أكثر من منافعها. 5ـ استثمار المواقف السلبيَّة التي يقترفها الأعداء، ومحاولة التنبيه على وجوب الولاء للمؤمنين، والبراءة من أعداء الدين، وتبيين عداوتهم للمسلمين. 6ـ نصح الدعاة والمفكرين لشعوبهم ومجتمعاتهم، بأن يكون لكل فرد منهم قضيَّة وهمٌّ خاصٌّ يشغله، ليمزجه فيما بعد بمصالح الأمَّة الإسلاميَّة ومنافعها، ويعجبني ما كتبه الأستاذ المفكِّر مالك بن نبي ـ رحمه الله ـ حيث قال: "هناك ملايين السواعد العاملة والعقول المفكِّرة في البلاد الإسلاميَّة، صالحة لأن تُستخدَم في وكل وقت؛ والمهم هو أن ندير هذا الجهاز الهائل المكوَّن من ملايين السواعد والعقول في أحسن ظروفه الزمنيَّة والإنتاجيَّة لكل عضو من أعضائه" (شروط النهضة، صـ84). 7ـ إشعار المسلمين بأنَّهم على الدين الحق، فينبغي الاعتزاز به، وعدم التشبّه بالكفار، أو النظر إليهم نظرة إعجاب أو انهزاميَّة. 8ـ تنبيه المسلمين والشعوب على وجوب مراجعة الدين والرجعة إليه، وأن ذلك هو السبب الكفيل لنهضتنا، ورجوع عزِّنا، والتذكير بموقف ذلك اليهودي الذي قال له رجل عجوز طاعن في السن من الفلسطينيين: نحن سنغلبكم ونخرجكم من أرضنا ـ بإذن الله ـ، فقال له اليهودي : نعم ستخرجونا، ولكن إذا رأينا الأضواء وقت صلاة الفجر مشتعلة كما هي في وقت صلاة المغرب، وإذا رأينا الذين يحتشدون في المسجد بعد صلاة الفجر مثل من يحتشدون في المسجد في صلاة الجمعة ! ولا ننسى قوله صلَّى الله عليه وسلَّم: «إذا تبايعتم بالعينة، وأخذتم بأذناب البقر، ورضيتم بالزرع، وتركتكم الجهاد سلَّط الله عليكم ذلاَّ لا ينزعه أحد منكم حتى تراجعوا دينكم». 9ـ وجوب تبيين سبل الكافرين والمنافقين وفضح مواقفهم ومخطَّطاتهم ضد المسلمين، وتحذير المسلمين منهم، ومن الاستماع لهم، أو الجلوس معهم وتشجيعهم، وملازمة توعيتهم بمكر الأعداء وحيلهم في تشويه الإسلام والمسلمين. 10ـ شعوبنا في الحقيقة لديها جزءٌ كبيرٌ من الوعي ـ وإن كان من الضرورة الاستزادة منها ـ إلاَّ أن هذه الشعوب تحتاج مزيداً من الإرادة الفعلية، وصنع المواقف العملية، فالمأمول من دعاة الإسلام أن يبعثوا في الأمَّة والمجتمعات الإسلاميَّة روح المبادرة والمسارعة، وأن يمكِّنوهم من عقلية الاقتحام المتبصِّر، ويحذروهم من عقلية الهروب الأعمى، من منطلق قوله تعالى {فاستبقوا الخيرات} وقوله: {ادخلوا عليهم الباب} وقوله تعالى: {وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون}، وعندها سيرى المسلمون ثمرة جهدهم، ونتيجة كفاحهم، ممَّا يسرُّهم ويفرحهم، وقديماً قال أحد المفكرين: "سنُدهَشُ من أنفسنا عندما ننطلق" 11ـ أهمية التذكير بأنَّ الشيء الذي يُنجِح مشروعاتنا هو الاستمرار فيه والديمومة عليه، من مقاطعة بضائع أعدائنا، إلى بذل المال في سبل الخير وفي سبيل مرضاة الله، إلى أي قرار إيجابي اقتنعت به شعوبنا، وبدأت العمل فيه. 12ـ عدم الاستغراق في المشروعات الشخصية، والجزئيات الفرعية ـ مع أهميتها ـ خشية أن تشغلنا عن هموم أمتنا، بل لا بد أن يكون همُّنا عالمياً، كما يقول القائل: أنا عالمي ليس لي أرض أسمِّيها بلادي أرضي هنا أو قل هنا لك حيث يبعثها المنادي والنبي ـ صلَّى الله عليه وسلَّم ـ يقول: «ما من امرئ يخذل مسلماً في موطن ينتقص فيه من عرضه، وينتهك فيه من حرمته إلاَّ خذله الله في موطن يحبُّ فيه نصرته» أخرجه أبوداود في السنن. 13ـ رفع المعنويات، وإنهاض الهمم للعمل لهذا الدين، والبث في أوساط الجماهير والشعوب الإسلاميَّة، أنَّ العمل لهذا الدين مسؤولية الجميع، لا يستثنى منه أحد دون آخر. 14ـ محاولة ربط الشعوب الإسلاميَّة بالمؤسسات التي تستوعبهم، وتستقطب جهودهم من خلالها، وتحرك طاقاتهم فيما يحسنه كل واحد منهم في مجالات العمل والإبداع والعطاء. 15ـ زرع الأمل في قلوب الشعوب والجماهير المسلمة، وإشعار شعوبنا بثقتها بنفسها مع الاتِّكال على ربِّها، واللجوء إلى كنفه، وإذا لم تشعر شعوبنا بمزيد من الثقة بأنفسها، فإنَّها لن تستطيع المضي قدماً نحو البذل لدين الإسلام. 16ـ معالجة أخطاء شعوبنا، وتبيين العلاج الناجع لها، وإبداء النصح إليها بشفقة ورحمة وبيان واضح. تلك أفكار أحببت أن أبثَّها بين يدي القارئ المثقف، لعلَّ الله أن ينفع بها لكلِّ سائر على طريق العمل الإسلامي، والله من وراء القصد، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
يتداول كثير من المفكِّرين وطلبة العلم في مجالسهم؛ الحديث عن بعض الأخطاء التي تقع فيها المجتمعات والشعوب الإسلاميَّة، ولا شكَّ أن طرح تلك الأخطاء والممارسات السلبيَّة ومناقشتها لتشخيص العلاج الناجع لها، ومحاولة بذره في الأوساط الاجتماعية والشعبيَّة؛ أمر يجدر الاهتمام به من قِبَلِهم، والاعتناء بدراسة حلوله فيما بينهم.
إلاَّ أنَّ بعض المفكِّرين وأهل العلم والدعوة، قد يغفلون أثناء صراعاتهم الفكريَّة، أنَّ الشعوب الإسلاميَّة هي رأس مالهم، وأساس بنيانهم، ومستودع دعوتهم؛ لأنَّ هؤلاء المفكرين والعلماء والمثقفين هم القادة الفعليون لشعوبهم ومجتمعاتهم، والشعوب هي الجنود التي يقودها ويسوسها هؤلاء القادة في قطار الدعوة الإسلاميَّة، وركب العمل الإسلامي.
وما شهدنا من فترات سواء كانت بعيدة الأمد، أو قريبة العهد، من تحرُّكات الشعوب، وانتفاضة المجتمعات الإسلاميَّة، لهو خير شاهد على أنَّ الشعوب الإسلاميَّة هي الرصيد المتنامي، والمخزون الفعلي المتراكم لمن يقودهم ويحركهم.
ولا أدلَّ على ذلك من اختيار الشعوب للإسلام واقتناعهم بأنَّه هو الحل، عن البدائل الأرضيَّة، والقوانين الوضعيَّة، مع المحاولات الكثيرة من أعداء الشريعة الإسلاميَّة بشتَّى الطرق للغزو الفكري لهذه الشعوب الإسلاميَّة.
وإذا قلَّبنا صفحات تاريخنا المعاصر فإنَّا واجدون أنَّ هذه الشعوب لا تختار إلاَّ الإسلام حكماً وشريعة ومنهاج حياة، وإن كانت مقصِّرة في تطبيق الإسلام، فلا ننسى اختيار الشعب الجزائري عام 1992م لمن يحكمهم من الإسلاميين، وكذا الوضع في تركيا، ومصر، وغيرها من البلدان الإسلاميَّة.
و ممَّا يبتهج له المرء في هذا الإطار ما اختاره الشعب الفلسطيني بكامل إرادته ورغبته لحركة المقاومة الإسلاميَّة حماس، وتيقُّنه أنَّها الممثِّل الشرعي له، وذلك لانتسابها للإسلام، وتمسكها بنهجه، ولهذا اختارها، لإدراكه بأنَّ الإسلام هو الحل.
وكذلك ما شهدنا من الغضبات الشعبيَّة الإسلاميَّة العارمة تجاه الإساءة لرسولنا وحبيبنا محمد بن عبدالله ـ صلَّى الله عليه وسلَّم ـ من مظاهرات واستنكارات ومقاطعات شعبية إسلاميَّة عامة، أخافت الكفَّار وأغاظتهم، وأشعرتهم بأنَّ الأمَّة الإسلامية فيها خير كثير ولله الحمد، وأنَّهم لم يقبلوا ولن يقبلوا بسب أعظم إنسان مشى على وجه الأرض، لأنَّه رسول البشريَّة جمعاء.
أيضاً ما شهدناه من تدافع شعوبنا المسلمة إلى التبرع وبذل المال لمن أصيبوا بالنكبات والجوائح القدرية، كالباكستان، والنيجر، وتشاد، وغيرها؛ فقد كان لشعوبنا موقف جدير بالذكر، من بذل للأموال والنفس والنفيس، إغاثةً لإخوانهم المسلمين، وحملاً لهمِّ المستضعفين، ونصرةً لهم ووقوفاً معهم صفّاً واحداً، فلسان حالهم:
إنَّا وإن كرمت أوائلنا لسنا على الأحساب نتَّكل نبني كما كانت أوائلنا تبني ونفعل مثلما فـعـلوا
بل إنَّ تحركات الشعوب هي التي أثَّرت في النخب، وأعطتهم مدّاً كبيراً من البذل والتوجيه، والدفاع والنضال عن نبيِّنا محمد صلَّى الله عليه وسلَّم.
وهذا ما يؤكِّد أنَّ شعوبنا وجماهير أمَّتنا المسلمة ـ وإن كان فيها ما فيها من مظاهر النقص عن الالتزام بدين الإسلام ـ إلاَّ أنَّها بدأت تدرك وبجديَّة، أنَّ الإسلام هو البديل الصحيح لشتَّى البدائل الأخرى، وأنَّه المنهج الصحيح ولو كان فيهم من فيهم ممن يعتريه النقص وعدم التمسك التام والالتزام بدين الإسلام، ومن سأل كبار السن والخبرة: كيف كانت الشعوب المنتسبة للإسلام قبل خمسين سنة؟ لأجابوا بأنَّ هذه الشعوب كانت مغيبة عن دينها، ومضيعة لشرائعه، وقلَّ منهم من يشعر بشعور إخوانه ـ إلاَّ من رحم الله، وقليل ما هم ـ.
وبكلمة أخرى فقد صارت شعوبنا ومجتمعاتنا الإسلاميَّة ـ بفضل الله ـ على قدر كبير من وعيها للأحداث، ومتابعة كثير من أبنائها لهموم أمَّتهم، والوقوف معهم، ولولا أناس يكيدون لهم بالتغريب، ويمنعونهم من الانتساب لمنهج الإسلام، ويدسُّون لهم السمَّ الزعاف، لحرْفِ أفكارهم وتحركاتهم عن دين الإسلام، لرأينا ـ بصورة أكثر وضاءة وإشراقاً ـ من شعوبنا الإسلاميَّة موجةً دفَّاقة من البذل والعطاء لأعمالنا الإسلاميَّة، ومشروعاتنا الدعوية.
وإنَّ ممَّا يبهجنا أنَّه قد صار لشعوبنا الإسلاميَّة موقف يحسب له أعداؤنا ألف حساب، قبل أن يتحركوا بتحركاتهم السلحفائيَّة والبطيئة لقلب الحق باطلاً، وزرع الفساد والعهر بين الأوساط الإسلاميَّة، حتَّى أيقنت الشعوب الإسلاميَّة بمدى قوَّة الإسلام، وبدؤوا يستردُّون الثقة بأنفسهم ومنهجهم ـ وإن كان ذلك دون المرغوب فيه ـ إلاَّ أنَّ هذا المدَّ المتصاعد يبشِّرنا بخير كثير.
وإذ أكتبُ هذا المقال فإنِّي لا أقصد منه أن نربِّتَ على أكتافنا، ونخدِّر جوارحنا عن العمل والعطاء لدين الإسلام، وعن النصح والتوجيه لمجتمعاتنا وأمَّتنا الإسلاميَّة، ولكنِّي أحب الانتهاج بمنهج خير المرسلين محمد بن عبد الله ـ عليه من ربنا أفضل السلام وأزكى التسليم ـ فقد كان يستخلص المنح من ظروف المحن، ويزرع التفاؤل في أوقات الشدائد.
وهكذا فلنكن، زارعين الخير لمجتمعاتنا، لنبذر الإيجابيَّة في أوساط الشعوب فنحصد ما جنته من خير، ونكون مبتعدين قدر الإمكان عن النظرات السوداويَّة، التي لا ترى إلا النقص والخلل، ورسولنا الكريم يقول (من قال هلك الناس فهو أهلَكَهُم ـ وفي رواية ـ فهو أهلكُهم) أخرجه مسلم في صحيحه.
فإذاً من المهم أن نعدِّل نظرتنا لجماهيرنا وشعوبنا، وندرك إيجابيَّتها، ومدى تفاعلها مع مشاريعنا الآنيَّة والمستقبليَّة، كما أنَّه من الأهميَّة بمكان أن يكون للنخب التصاق بشعوبهم ومجتمعاتهم، وأن ينزلوا إلى واقعهم، ويعايشوا همومهم، ليكون لهم تأثير أكبر وأقوى، وحقاً فإنَّه: يكسب الرهان من يربح الشعب بيده، و إذا لم يكن لنا تعايش مع شعوبنا ومجتمعاتنا الإسلاميَّة، فسيسعى بشكل واسع قوم فاسدون يحاولون التأثير عليهم، وغزوهم بشتَّى الأفكار المنحرفة.
ومن هذا المنطلق فإني أرى عدة لوازم لأهل العلم والفكر والدعوة، تجاه شعوبهم الإسلاميَّة، وجماهيرهم الشعبيَّة، الذين ينتظرون همس كلامهم، وعميق تفاعلهم معهم، ومن ذلك:
1ـ استمرار التوجيه والبذل الفكري والدعوي لهذه الشعوب، وربطها بعقيدة أهل السنَّة والجماعة، والانتظام بسلكها، والحذر من مخالفتها.
2ـ تثمير المواقف الإيجابيَّة التي تقف بها الشعوب، والثناء عليها، ومساعدتها بالمضي بذلاً وعطاءً.
3ـ استمرار التأكيد والتنبيه على قضية هامَّة، بأنَّ قاعدة الانطلاق التي تحركنا كشعوب ومجتمعات هي ديننا وشريعتنا، مع العاطفة النبيلة والمنضبطة بضوابط الشرع ومحكماتها، فلا تحركنا قومية أو إقليميَّة، و أن كل من ينتسب لدين الإسلام فله ما لنا، وعليه ما علينا، وقد قال ـ تعالى ـ: {إنَّما المؤمنون إخوة}.
4ـ تنبيه الشعوب أنَّهم في ركب الجنديَّة، ولا بد من قائد يقودهم، وموجِّهين ينصحونهم، وهم رجال الشريعة والفكر والخبرة، فلا يندفعون تجاه أعمال قد تكون مضارّها أكثر من منافعها.
5ـ استثمار المواقف السلبيَّة التي يقترفها الأعداء، ومحاولة التنبيه على وجوب الولاء للمؤمنين، والبراءة من أعداء الدين، وتبيين عداوتهم للمسلمين.
6ـ نصح الدعاة والمفكرين لشعوبهم ومجتمعاتهم، بأن يكون لكل فرد منهم قضيَّة وهمٌّ خاصٌّ يشغله، ليمزجه فيما بعد بمصالح الأمَّة الإسلاميَّة ومنافعها، ويعجبني ما كتبه الأستاذ المفكِّر مالك بن نبي ـ رحمه الله ـ حيث قال: "هناك ملايين السواعد العاملة والعقول المفكِّرة في البلاد الإسلاميَّة، صالحة لأن تُستخدَم في وكل وقت؛ والمهم هو أن ندير هذا الجهاز الهائل المكوَّن من ملايين السواعد والعقول في أحسن ظروفه الزمنيَّة والإنتاجيَّة لكل عضو من أعضائه" (شروط النهضة، صـ84).
7ـ إشعار المسلمين بأنَّهم على الدين الحق، فينبغي الاعتزاز به، وعدم التشبّه بالكفار، أو النظر إليهم نظرة إعجاب أو انهزاميَّة.
8ـ تنبيه المسلمين والشعوب على وجوب مراجعة الدين والرجعة إليه، وأن ذلك هو السبب الكفيل لنهضتنا، ورجوع عزِّنا، والتذكير بموقف ذلك اليهودي الذي قال له رجل عجوز طاعن في السن من الفلسطينيين: نحن سنغلبكم ونخرجكم من أرضنا ـ بإذن الله ـ، فقال له اليهودي : نعم ستخرجونا، ولكن إذا رأينا الأضواء وقت صلاة الفجر مشتعلة كما هي في وقت صلاة المغرب، وإذا رأينا الذين يحتشدون في المسجد بعد صلاة الفجر مثل من يحتشدون في المسجد في صلاة الجمعة !
ولا ننسى قوله صلَّى الله عليه وسلَّم: «إذا تبايعتم بالعينة، وأخذتم بأذناب البقر، ورضيتم بالزرع، وتركتكم الجهاد سلَّط الله عليكم ذلاَّ لا ينزعه أحد منكم حتى تراجعوا دينكم».
9ـ وجوب تبيين سبل الكافرين والمنافقين وفضح مواقفهم ومخطَّطاتهم ضد المسلمين، وتحذير المسلمين منهم، ومن الاستماع لهم، أو الجلوس معهم وتشجيعهم، وملازمة توعيتهم بمكر الأعداء وحيلهم في تشويه الإسلام والمسلمين.
10ـ شعوبنا في الحقيقة لديها جزءٌ كبيرٌ من الوعي ـ وإن كان من الضرورة الاستزادة منها ـ إلاَّ أن هذه الشعوب تحتاج مزيداً من الإرادة الفعلية، وصنع المواقف العملية، فالمأمول من دعاة الإسلام أن يبعثوا في الأمَّة والمجتمعات الإسلاميَّة روح المبادرة والمسارعة، وأن يمكِّنوهم من عقلية الاقتحام المتبصِّر، ويحذروهم من عقلية الهروب الأعمى، من منطلق قوله تعالى {فاستبقوا الخيرات} وقوله: {ادخلوا عليهم الباب} وقوله تعالى: {وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون}، وعندها سيرى المسلمون ثمرة جهدهم، ونتيجة كفاحهم، ممَّا يسرُّهم ويفرحهم، وقديماً قال أحد المفكرين: "سنُدهَشُ من أنفسنا عندما ننطلق"
11ـ أهمية التذكير بأنَّ الشيء الذي يُنجِح مشروعاتنا هو الاستمرار فيه والديمومة عليه، من مقاطعة بضائع أعدائنا، إلى بذل المال في سبل الخير وفي سبيل مرضاة الله، إلى أي قرار إيجابي اقتنعت به شعوبنا، وبدأت العمل فيه.
12ـ عدم الاستغراق في المشروعات الشخصية، والجزئيات الفرعية ـ مع أهميتها ـ خشية أن تشغلنا عن هموم أمتنا، بل لا بد أن يكون همُّنا عالمياً، كما يقول القائل:
أنا عالمي ليس لي أرض أسمِّيها بلادي
أرضي هنا أو قل هنا لك حيث يبعثها المنادي
والنبي ـ صلَّى الله عليه وسلَّم ـ يقول: «ما من امرئ يخذل مسلماً في موطن ينتقص فيه من عرضه، وينتهك فيه من حرمته إلاَّ خذله الله في موطن يحبُّ فيه نصرته» أخرجه أبوداود في السنن.
13ـ رفع المعنويات، وإنهاض الهمم للعمل لهذا الدين، والبث في أوساط الجماهير والشعوب الإسلاميَّة، أنَّ العمل لهذا الدين مسؤولية الجميع، لا يستثنى منه أحد دون آخر.
14ـ محاولة ربط الشعوب الإسلاميَّة بالمؤسسات التي تستوعبهم، وتستقطب جهودهم من خلالها، وتحرك طاقاتهم فيما يحسنه كل واحد منهم في مجالات العمل والإبداع والعطاء.
15ـ زرع الأمل في قلوب الشعوب والجماهير المسلمة، وإشعار شعوبنا بثقتها بنفسها مع الاتِّكال على ربِّها، واللجوء إلى كنفه، وإذا لم تشعر شعوبنا بمزيد من الثقة بأنفسها، فإنَّها لن تستطيع المضي قدماً نحو البذل لدين الإسلام.
16ـ معالجة أخطاء شعوبنا، وتبيين العلاج الناجع لها، وإبداء النصح إليها بشفقة ورحمة وبيان واضح.
تلك أفكار أحببت أن أبثَّها بين يدي القارئ المثقف، لعلَّ الله أن ينفع بها لكلِّ سائر على طريق العمل الإسلامي، والله من وراء القصد، وهو حسبنا ونعم الوكيل.